يطرح السجال الذى اندلعت شرارته مباشرة بعد تدوينة لاحد الصحفيين، في صفحته الشخصية على الفايسبوك حول “غطاء رأس” وزيرة، اشكالية استقلالية الصحافة، ومدى مساهمتها في تشكيل الرأي العام بموضوعية ومهنية بعيدا كل أشكال الاملاءات والضغوطات السياسية والمذهبية. 

  مع العلم ايضا أن استقلاليةالصحافة والاعلام ،لا يمكن أن تتحقق بشكل سليم، إلا إذا رافقتها استقلالية الصحفي نفسه،الذى يتعين أن لا يكون له أي التزام آخر، إلا مع القارئ والمستمع والمشاهد وضميره الحي والمتقد. فالصحفيونهم من يصنعون الاستقلالية،من خلال مواجهتهم لكل أنواع الضغوط، التي تمارس عليهم، بهدف الانصياع لتوجيهات خارج المهنة مهما كان مصدرها.

وبغض النظر عن تداعياتومستوى واسلوب هذا النقاش الدائر بين ” الزملاء ” على صفحات الجرائد والمواقع الالكترونية، على صورة الصحافة، فإنهذا النقاش على ما يبدو خرج عن نطاق مقتضيات الحوار الجدي، حينما لجأ مختلف  الفرقاء المعروفين والمستترين، الى استخدام  ” كافة الاسلحة المشروعة والمحظورة” في محراب صاحبة الجلالة من قبيل التخوين والتآمر بدون تقديم الأدلة.كما ان هذا السجال  أكد من جهة أخرى ضعف وغياب الهيئات المهنية في الاهتمام والتدخل من أجل التنبيه الى خطورة انحراف هذا النقاش عن أهدافه، والحث على الالتزام بمبادئ أخلاقيات مهنة الصحافة، باعتبار ان الديونطولوجيا  وحرية التعبير وجهان لعملة واحدة.

فالحروب بين ” الاخوة الاعداء في الحرفة ” اندلعت، حينما  انتقد الصحفي عمر الذهبي المدير المركزي لهيئات تحرير قناة ” ميدي1″ ، وزيرة  الأسرة والتضامن والمساواة والتنمية الاجتماعية بسيمة الحقاوي على ما وصفه بتأخرها في الاعلان عن موقفها بخصوص ” اغتصاب فتاة الحافلة”  معتبرا أنه ” ليس من الطبيعي ان تكون لنا وزيرة هي نفسها لا تستطيع أن تتحرر، ولاتزال منغلقة داخل غطاء رأسها”. وهذه الجملة الاخيرة هي النقطة التي أفاضت الكأس، وأدتالى “نشوب حروب بالوكالة”، ليس المقصود هنا وكالة المغرب العربي للأنباء طبعا، وتلك قصة أخرى، جيش في معتركها ” سياسيون وحزبيون وحكومة ووزراء وفقهاء، وخبراء، وجامعيون،ورواد العالم الافتراضي وغير المرئي .. واللائحة  طويلة جدا “.

وإذا كان هناك من انتصر الى موقف الصحفي الذهبي، وذهب الى حد اعتبار ان ” التهجم على رأي عابرفي صفحة فاسبوكية..ارهاب فكري “، بالمقابل هناك من وصف هذا موقف الصحفي حول حجاب الوزيرة ب”العنصري، وليس فقط اعتداء على امرأة في اختيار لباسها.. بل هو تعريض بامرأة، قبل ان تكون وزيرة، ومس باختياراتها الفردية ومحاولة للتنقيص منها أمام المجتمع” .

لنترك هذا “الجدل الاعلامي”الذى لن يعرف نهاية سعيدة،بل كل ما سيفعله، كما كان في قضايا مشابهة،مساهمة في زيادة تراجع منسوب مصداقية الصحافة الصحافيين لدى الرأي العام، ونركز هنا وبالمناسبة على استقلالية  الصحافة.

فإذا كانت المحددات المتحكمة في ظهور “الصحافة المستقلة” بالمغربمتعددة، ومنها المحدد السياسي عبر الطلب المتزايد خاصة خلال التسعينات على التعددية،والانفتاح السياسي، والمحدد الإعلامي، ويتمثل بالخصوص في الانتقال من مرحلة “المناضل الصحفي” إلى “الصحفي المهني”، على شاكلةالمثقف المستقل.

ونكاد لا نعثر على مفهوم واحدلماهية استقلالية الصحافة، في الوقت الذي يلاحظ المتتبع لتاريخ الصحافة بالمغرب، أنه كان تاريخا حزبيابامتياز باستثناءات قليلة جدا،كماأن استعمال مصطلح ” الصحافة المستقلة ” يشوبه خلط كبير، خاصة وأن معظم هذه الصحف، تقول بـ ” استقلالية الخط الصحفي، والمذهبي”.الا أن مفهوم الاستقلالية يفترض، أن تتطرق وسائل الاعلام لكافة القضايا التي تحظى باهتمام الرأي العام.

غير أن هناك من يذهب إلى اعتبار أن تقسيم الصحافة إلى صحافة مستقلة، وصحافة حزبية” تقسيم خاطئ”، فالأجدر أن تقسم إلى صحافة رسمية وأخرى حرة، باعتبار أن الصحافة في جوهرها ووظيفتها يجب أن تكون مستقلة(…) فالذييحكم استقلالية الجريدة هو طريقتها في الإخبار، وتكريسها للمهنية، عوض اختلاق الأخبار، وإطلاق الإشاعات، والنهش في الأعراض، والابتزاز والشتم والقذف والتشويه، وهي ممارسات لا تختلف في مضمونها،”عما كان يمارس في مخافر الشرطة وأقبية التعذيب” خلال سنوات الرصاص.

إن هذا الأمر يوضح أن سلاح الإعلام يمكن أن يوظف أيضا توظيفها في عير محله من طرف خصوم حرية التعبير والديمقراطية وحقوق الإنسان، بهدف الحد من “انتشار الوعي الجماهيري” بفضل الثورة التكنولوجيةفي مجال الاتصال والتي ساهمتفي فتح المجال لآليات جديدة لطرح مختلف القضايا بجرأة بعيدا عن الرقابة الذاتية التي يلجأ اليها غالبية الصحافيين.الا أن هذا التطور الرقمي، لا ينبغي أن يتحول الى “إرهاب من نوع جديد يمارس عن طريق الصحافة”.

فمفهوم الاستقلالية في الاعلام، وإن ظل يطرح بعض الغموض في تحديد ماهيته، الا ان ذلك لا يعفينا من التساؤل حول ما إذا كانت هذه الاستقلالية تعني الاستقلالية عن الدولة ؟ أم عن الأحزاب ؟ أو المال؟ أو جماعات الضغط  الاخرى ؟.فهناك من يرى أن ” صحفا واعلاما مستقلا” لا يمتلك من الاستقلالية سوى الاسم، وأن هناك جهات خفية تحركه لأغراض وأهداف معينة، اعتبارا لان صفة الاستقلالية – حسب هذا الطرح – تبقى نسبية لأن عملية اختيار الخبر،والاقتراب من الحدث،يعد بحد ذاته نوعا من التوجيه والاختيار.كما أن الاستقلالية، حسب البعض، لم تثبت لحد الآن مصداقيتها، وذلك بسبب الارتباطات المشروطة التي تظل قائمة وواضحة مع السلطة بأشكالها المتعددة السياسية والمالية.

لقد كان المرحوم الصحفي الكبير والكاتب المبدع عبد الجبار السحيمي يردد في أواسط التسعيناتحينما نتطارح معه  تطورات المشهد الصحافي على ضوء صدور عناوين جديدة خلال تلك الفترة”إن الصحافة المستقلة و أضعها بين الأقواس رغم أدائها المتطور، فإنني أتابعها لأعرف أحوال الطقس السياسي، ومن يحفر لمن، ومن يحظى بالرضا ومن يحتاج إلى شد الإذن”. الا انه يستدرك بحس الصحفي المحترف بالقول كم كان السوق السياسي سيكون راكدا، لولا الأحجار التي تلقيها الصحافة المستقلة على شارعه أو سطحه، فهي حزبية بلا تنظيم سياسي، وهي حزبية من غير انتماء عضوي، وهي حزبية متحولة ومتلونة، متحررة من الالتزام في موقف، ومع ذلك فهي ليست محايدة، ولا يوجد حياد في الحياة.

فعلى الرغم من الأهمية  التي يكتسيها قيام الاعلام بالعمل على تحفيز النقاش العمومي حول مختلف القضايا، بمهنية واستقلالية، الا ان الصحافة باعتبارها سلطة رابعة مضادة، فهي إما أن تكون مستقلة عن جميع قوى الضغط من هيئات سياسية وحكومية ولوبيات مالية  و” اجهزة غير مرئية ” حسب تعبير مصطفى العلوي عميد الصحافيين المغاربة، والا ستصبح وتظل وسيلة تؤدي أدوارا ” مخدومة ” وافتعال حروب بالوكالة، تساهم في زيادة تشرذم الجسم الصحفي الذى هو في حاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى، الى البحث عن ابداع اساليب جديدة للتضامن والتآزر بين مكوناته المتنوعة عوض اللجوء الى “نظرية المؤامرة” لإخفاء  العجز عن مواجهة حقائق واقع متغير، والمشاركة في  الاغتيال الرمزي لإحدى أرقى مجالات حرية التعبير، صاحبة الجلالة الصحافة .