إليكم ملاحظة تاريخية ستستفز لا محالة العديد من الباحثين والمهتمين بعلوم التربية وتطبيقاتها العملية داخل أسوار المؤسسات التعليمية أو الأنظمة التربوية عبر العالم :

جل المؤسسين والمنظرين لهذه الأنظمة التعليمية من القرن الخامس عشر إلى اليوم، سواء المؤيدين منهم أم المعارضين، هم من رجال الدين أو من الأعضاء النشيطين بالكنيسة اليهودية-المسيحية !!!

أمثلة معروفة يتردد صداها غالبا في جميع المراجع التربوية، دون ذكر خلفيتها الدينية بالطبع :

طوماس مور Thomas More وكومينيوس Coménius بالنسبة للقدامى، ايفان اليش Ivan Illich بالنسبة للمعاصرين.

قد يقول قائل أن هذه الملاحظة من قبيل الصدفة أو أن هؤلاء الأعلام يحكمهم المنهج العلمي بعيدا عن معتقداتهم أو انتماءاتهم الدينية. لنسلم بذلك في البداية.

يطلق أستاذ التاريخ بجامعة السوربون Pierre Chaunu على هذه الظاهرة الملاحظة خلال التطور الطبيعي للخطاب الديني اليهودي-المسيحي :Le phénoménologisme agressif ” ″

(انظر :La mémoire et le sacré, Ed. Calmann-Lévy, 1978, p.207 )

ويقول في نفس المرجع لتفسير هذه الظاهرة :

″ عوض التمسك بالخطاب الديني حول الوجود وحول معنى الحياة والموت، يفضل هؤلاء الرهبان الجدد التطفل على المجتمع المدني وإلقاء خطابات مدنية لا رائحة لها ″ يقصد بالطبع غياب المقدس في هذه الخطب المؤسسة والمنظرة للنظم التعليمية والتربوية في الغرب – ترجمة بتصرف.

لنا الحق إذن أن نتساءل حول أوجه التشابه بين المدرسة والكنيسة شكلا ومضمونا بما أن الأولى تنشد نشر عقيدة التقدم والثانية عقيدة الخلاص.

سؤال مشروع لكنه ذو حساسية بالغة والتهمة جاهزة سلفا : العداء للمسيحية أو اليهودية !

لننتقل بسرعة إلى أب علم الاجتماع الغربي Emile Durkheim الذي يتناول في كتابه Education et sociologie  الجذور الدينية للتربية والتعليم عبر التاريخ وهو ما أدى به فيما بعد إلى تأليف كتابه الموالي La morale laïque الذي يهدف أساسا إلى تنقيح التربية والتعليم من الرواسب الدينية.

يقول : ″ في هذه الأوساط الكهنوتية نشأت الأشكال الأولى للعلوم من فلك ورياضيات…لكن هذه العلوم لها طابع مقدس لأنها منه انطلقت واليه تعود ″ صفحة 75 مترجم بتصرف.

سؤال ثان مشروع ومستفز في نفس الآن :

″ كيف يمكن الحديث عن تعليم أو نظام تربوي عقلاني أو حداثي إذا كانت الجذور منغمسة أصلا في تربة دينية مسيحية-يهودية موغلة في القدم؟ ″

في بحث من 500 صفحة استغرق 10 سنوات حول أزمة رجال الدين بفرنسا، يخلص المؤرخ الفرنسي 

Paul Vigneron إلى الخلاصتين التاليتين:

1- الكنيسة لا تعكس العالم، بل على العكس من ذلك تماما فالعالم هو الذي أصبح يعكس الكنيسة !

2- لا تكفي الزاوية الدينية الصرفة لوحدها لمقاربة التاريخ الديني للمجتمع!

(انظر :Paul Vigneron, Histoire des crises du clergé français contemporain, Paris, 1976)

ببساطة ودون اللعب بالكلمات، فالقيم المسيحية-اليهودية هي السائدة اليوم وهي التي تعمل جميع المؤسسات تربوية كانت ام اقتصادية ام سياسية…على نشرها في العالم. ومن ضمنها طبعا لكي لا نحيد عن موضوعنا، المدرسة!

 المدرسة بترسانتها التربوية المتطورة جدا والتي يطلق عليها المؤرخ الفرنسي Pierre Chaunu :

Le laïcisme actif″  ″ 

أي الأسلوب الجديد للرهبان التربويين الجدد. وبتعبير أدق، فهؤلاء الرهبان المتنكرون في زي مدني لم يضعوا الأسس العلمية لنظرية إجرائية كما يقول Gaston Bachelard – Une théorie matérialisée في الحقل التربوي وإنما وضعوا بدلا من ذلك Une théologie matérialisée أي علما لاهوتيا إجرائيا !

 فالمؤسسات التعليمية التربوية ما هي في الحقيقة سوى كاتدرائيات مقنعة تضمر عكس ما تعلن وتنشر عكس ما تقول، وتتلاعب بكل حرية وبدون حسيب ولا رقيب بعقول الملايين من الصغار والكبار عبر العالم.

طبيعي إذن أن ترتفع معدلات الهدر المدرسي والفشل الدراسي والعنف والمخدرات و…بالأنظمة التعليمية رغم المبالغ الطائلة المرصودة لها.

 السبب بسيط وهو:

مقاومة العقل البشري لكل المتلاعبين بالعقول عبر التاريخ !