لم يكن حدث هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، حدثا عاديا من أحداث التاريخ العربي والإسلامي، وإنما كان منعطفا تاريخيا حاسما، شكل نقطة تحول استراتيجي في نشر رسالة الإسلام حول العالم، حيث عمل على كسر الحصار والتضييق الذي تعرض له المسلمون في مكة، وفُتحتأمام الرسالة المحمدية آفاق واسعة للتمكين في مجتمع المدينة، وما كان يتوفر عليه من شروط التأسيس لدولة مدنية ذات مرجعية إسلامية.

لم تكن الدعوة الإسلامية منذ البداية، لتلقى قبولا داخل الجزيرة العربية، لأنها جاءت حاملة لمشروع إنساني شامل، يعلي من قيمةالإنسان كإنسان، بغض النظر عن أصله ولونه ونسبه ووضعه الاجتماعي، ويحقق المساواة بين سائر البشر، ويعيد إليهم الكرامة والحرية التي اغتصبت منهم في زمن ما قبل الإسلام أو ما يعرف بعصر الجاهلية.

وكان من المتوقع أن يكون لهذه الرسالة العالمية أعداء وخصوما منذ البداية، لأنهاستمسبمصالح وامتيازات بعض المستفيدين من الوضع القائم آنذاك، وخاصة الكبراء والوجهاء والأغنياء أو “السادة” بلغة الزمن “الجاهلي”، الذين تداعوا فيما بينهم لمحاربة دين الإسلام، والمعتنقين له والمدافعين عنه،باعتبارها تشكل تهديدا حقيقيا لمصالحهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فأعلنوا حربا مفتوحة على النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وعلى كل من اعتنق الدين الإسلامي.

ورغم الحصار والتضييق والتنكيل والتعذيب الذي تعرض له المسلمون في مكة، استطاعوا الصمود والمقاومة، إلى أن تهيأت الظروف المناسبة للخروج من مكة، والهجرة إلى المدينة، وبداية التأسيس لأول دولة مدنية، قائمة علىنظام سياسي متقدم في الزمان، يعتمد تمييزا بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، ويؤسسلدولة الحق والقانون في شكلها الأولي، حيث أصبحت هناك عدالة تضمن لكل مسلم (مواطن) الحق في التقاضي،على قدم المساواة بين الجميع.

والسؤال الذي يقتضي الجواب عليهفي هذا المقام، هو كيف نقرأ حدث الهجرة النبوية، على ضوءالواقع العربي والإسلامي؟

من دون شك أن هناك تشابها في بعض الوقائع والظروف التي عاشها المسلمون قبل حدث الهجرة، وما يعيشه العرب والمسلمون اليوم، حيث القاسم المشترك هو ضعفهم وقوة أعدائهم، وتفرقهم وتوحد خصومهم، وتعرضهم للحصار والتضييقوالتمييز والاضطهاد،وهذا الواقع الحالييشبه إلى حدّ ما الواقعالصعب الذي عاشه المسلمون قبل حدث الهجرة، مما يستدعي استحضار دلالات هذا الحدث التاريخي الكبير، واستخلاص العبر والدروس منه، من أجل وضع خارطة طريق لهجرةهذا الواقع العربي والإسلامي المتخلف.

لا يمكن الخروج من التخلف والضعف الذي تعيشه الأمة، إلا بالعودة إلى القيم والمبادئ الإسلامية التي عاش عليها المتقدمون من المسلمين، وصنعوا بها حضارة قادت البشرية في مرحلة من مراحل التاريخ الإنساني، وهو ما أكده الفاروق عمر بن الخطاب بن الخطاب في قولته المشهورة: ” لقدكنّاأذلاءفأعزنااللهبالإسلام،فإذاابتغيناالعزةبغيرهأذلناالله “، وكما قال الإمام مالك: “وَلَايُصْلِحُآخرَهذهالأمةإلاماأصْلَحَأَوَّلَهَا”.

وهذا يقتضي منا استعادة القيم الإسلامية الفردية مثل: الصدق، الأمانة، إتقان العمل… والجماعية مثل: التضامن، التراحم، التعاون… والتحلي بالأخلاق الإسلامية في تعاملاتنا اليومية، وتربية الأبناء على المبادئ الإسلامية، لأن بهذه القيم والمبادئ، استطاع المسلمون الأولون أن يتغلبوا على الظروف القاهرة التي عاشوها، وانتصروا على أعدائهم..

لايعني هذا الاعتماد على الإسلام كمرجع وحيد في التشريع والتنظيم والإدارة والتسيير، ولكن لا بد من الاستفادة من التجارب والقيم الإنسانية الأخرى، التي لا تتعارض مع قيمنا الإسلامية،وخاصة قيم الديمقراطية والحرية والعدالة وحقوق الإنسان… والتي ساهمت في تقدم وازدهار المجتمعات المعاصرة.

إن المجتمعات العربية اليوم مطالبة باستلهام المغزى من حدثالهجرة النبوية، باعتباره حدثا مستمرا في الزمان، الغاية منه ليس هي الهجرة من مكان إلى مكان آخر عند اشتداد الأزمات، ولكن الثبات على الحق، والصبر عند المحن والفتن، إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.