هل صَدَقت تنبّؤات الأمريكيّ كَالْدوِيلْ حول الإسلام في أوروبا؟
في الظروف الراهنة التي تعيشها فرنسا على وجه الخصوص، وأوربا على وجه العموم مع ما يُسمّى «بمواجهة الإرهاب»، والأوضاع القلقة والصّعبة التي أصبح يعيش في كنفها المغتربون والمسلمون المُقيمون أو المُجنّسون بشكل عام، سواء في فرنسا أو في سائر بلدان القارة العجوز، حريّ بنا، وخليق بنا أن نعود إلى كتاب كبير كان قد وضعه منذ بضع سنوات قليلة، الباحث الأمريكي كريستوفر كالدويل حول هذه الإشكاليات، وهو بعنوان «الإسلام كيف سيُحدِثُ تحوّلاً في فرنسا وأوربّا».
آراء أخرى
تقول الكاتبة والناقدة الفرنسية “ميشيل تريبالات” في التقديم الذي تصدّر الطبعة الفرنسية من هذا الكتاب: «لقد خامرني الشكّ في البداية في أن تُقدِمَ أيٌّ من دور النشر الفرنسية على طبع هذا الكتاب في خضمّ الظروف العصيبة التي عاشتها فرنسا في علاقاتها أو إشكالياتها مع الإرهاب، إلاّ أنّ الرّياح جاءت في ما بعد بما تشتهيه السّفن وتمّ تحقيق هذه الأمنية أخيراً» .
وتحثّ هذه الكاتبة أبناءَ وبنات بلدها من الفرنسّيين بشكلٍ خاص، والأوروبّيين بشكلٍ عام على قراءة هذا الكتاب، لأنّ موضوعَه الأساسي يتعلّق بهم أوّلاً وأخيراً، إذ لم يجرؤ أحد على تناول هذا الموضوع – في نظرها- بالشكل الذي عالجه به كالدويل المتتبّع عن كثب، لمختلف التطوّرات، والتغييرات التى عرفتها أوروبّا منذ الحرب العالمية الثانية، ذلك أنّ نظرة المؤلف تتّسم بالجديّة والدقّة، كما أنّها لا تخلو في بعض الأحيان من السخريّة المرّة، فقد أمكنه النظر إلى هذا الموضوع نظرة عميقة ثاقبة تتجاوز الخطبَ السياسية الغامضة والتحاليلَ السطحيّة والمبهمة للعديد من السياسيّين الفرنسيّين التي تنأى عن النّزاهة والحياد والموضوعية.
تُرى هل صدقت إستقراءات أو تنبّؤات كالدويل في هذا الكتاب حول ما نراه، وما تعيشه أوربا اليوم بخصوص هذه الطروحات والإكراهات والإشكاليات التي طفح كيلُها، وفاض كأسُها؟ .
التحوّلات الحتميّة
يتساءل كالدويل في كتابه: هل ستظلّ أوربّا على ما هي عليه، بعد التطوّرات الديموغرافية المهمّة التي طرأت عليها في العقود الأخيرة بسبب الهجرات الأجنبية الواسعة التى عرفتها والتي جلبت معها الإسلام؟ هذه القارة العجوز المتعبة والآيلة نحو الانحدار، والمتخبّطة في العديد من المشاكل،والمشاغل، والإشكاليات، هل ستخضع للتحوّلات الحتمية التي تنتظرها؟ ويعمل المؤلّف على تشخيص معاناة، وتخوّفات، وتوجّسات الأوروبيين في فرنسا بوجه خاص، حيث لم يتّسم النقاش فيها قطّ بخصوص هذه الإشكالية بالصّراحة والشفافية والموضوعية والجرأة التي كان يتطلّبها، بل كان نقاشها في هذا القبيل نقاشاً كاريكاتيرياً، عقيماً ومتصنّعاً، وكأنّه «حرب خنادق «ما بين مؤيّدٍ ومعارض، أو بين مرحّبٍ ورافض للهجرة حيث لا يمكن التوصّل الى أيّ حلول ناجعة ومناسبة لها، ونتيجة هذا العُقم سرعان ما تبخّرت الآمال في تحقيقِ وفاقٍ أو اتفاقٍ بشأنها بين الطرفين. هذه المواجهة – حسب كالدويل- تقوم في الغالب بين فئتين اثنتين، الفئة المؤيّدة للانفتاح والاندماج والمشاركة، ومراعاة مبادئ التسامح، والتعايش، وقبول الآخر، وهي غالباً ما تتألف من نخبة ممتازة من السياسيّين والمثقفين في المجتمع. أمّا الفئة الأخرى فإنّها تميل إلى الانغلاق حول نفسها، وهي ذات أيديولوجيات متطرّفة غارقة في التعصّب الأعمى، والشوفينية، في عصرأ مست فيه ألسنة الأوروبييّن تلوك وتتشدّق كلَّ يومٍ بضرورة احترام مبادئ حقوق الإنسان، وصون كرامته وإنسانيته.
لم يتفطّن الأوروبيّون لمدّة سنين طويلة لما تعرفه بلادُهم من تطوّرات وتحوّلات عميقة في مختلف الميادين، في الثقافة والاقتصاد والسياسة، والفنون والأدب واللغة، وطرائق العيش، من طبخ، ومأكل، وملبس، ومعاملات وفي الحياة بشكل عام، وفجأة طفقوا يشعرون بأنهم قد أصبحوا يعيشون بينها، ويتقبّلونها ويهضمونها ويتعايشون معها بعفوية وطواعية وتلقائيّة.
الهجرات بين التعايش والتناوش
لا يتورّع المؤلف من جهة أخرى من الإشادة بالجوانب الإيجابية البنّاءة والمفيدة للهجرات التي عرفتها فرنسا وأوروبا في العقود الأخيرة، وبهذا الدّين الجديد (الإسلام) الذي حمله هؤلاء المهاجرون معهم إلى هذه الدّيار. كما أنّه يتساءل عن اللّوم والعتاب اللذين يُوجَّهَان لبعض المجموعات الإسلامية التي لا تعبّر عن تضامنها وتعاطفها صراحةً مع بعض المواقف في البلدان التي استقرّت فيها، مثل عدم تضامن المسلمين المقيمين في بريطانيا بشكل علني وأمام الملأ مع المواطنين الإنكليز غداة الهجمات التي عرفتها لندن عام 2005، كما طال هذا العتاب – من جانبٍ آخر – المواطنينَ الأمريكيّين البيض، عندما قام أحدُهم وهو تيموتي ماكبيغ بهجوم إرهابي في أوكلاهما سيتي. من جهة أخرى لم يترّدد الهولنديون من جهتهم من توجيه اللّوم، وكيل التّهم بشكل عشوائي للمواطنين المغاربة المنحدرين من أصول ريفيّة (شمال المغرب) فيما يتعلّق بالعمليات «الإجرامية» التي عرفتها هولندا في العقود المنصرمة من دون تحرّ أو تمحيص، أو بحثٍ دقيقٍ عن الحقائق الدامغة وراء هذه العمليات. الإشكاليات نفسها تعرفها باقي البلدان الأوروبية الأخرى بشكل أو بآخر.
يشير المؤلف إلى أنّ الجوانب الأكثر أهميّة وجديّة في هذا النقاش تمّ تجاهلها، وهي الجوانب المتعلقة بالآثار الاجتماعية والروحية والسياسية، وهي جوانب ذات أهمية قصوى باقية ومستمرّة، في حين تظل آثارها المادية أو الاقتصادية مرحلية عابرة.
لم يخلُ كتاب كالدويل من المواجهات التي شهدتها بعض المدن، والضواحي، والأحياء والمناطق ومختلف القطاعات في هذه البلدان جميعها، في ذلك الإبّان، التي شملت حتى ميدان الرياضة وبشكل خاص كرة القدم، ويحكي لنا المؤلف حادثة وقعت في هولندا عندما كانت تُنظّم مباريات إقصائيّات كأس العالم 2006 قام أحد المهاجرين بالتهجّم على أحد الندلاء في أحد المقاهي لأنّه عمد الى تحويل القناة التلفزيونية على مباراة هولندا- تشيكوسلوفاكيا بدلاً من القناة التي كانت تبثّ مبارة المغرب – تونس. كما يذكّرنا في كتابه بما كان يقوله صامويل هينتغتون»، عندما تنبّأ بما كان يطلق عليه «بتصادم أو صراع الحضارات»، وكذا رايمون آرون الذي كان قد عبّرعن القلق نفسه، والتخوّفات التي كانت تنتابه، وتساوره حيال الآثار السلبيّة التي يمكن أن تنجم عن العولمة.
من جهتها ترى الكاتبة الفرنسية ميشيلْ تريبالاتْ في سياقٍ آخر: « أنه قد آن الأوان، وحان الوقت الذي ينبغي لنا أن نراهن فيه على التحوّلات التي أصبح يعرفها الإسلام في بلادنا لدرجة أنّه صرنا نقول” الإسلام الفرنسي”، و”الاسلام الألماني” إلخ، هذا في الوقت الذي نشيد فيه بالتعدّدية الثقافية، والتنوّع والمعايشة، فمعروف أنّ الإسلام يجعل الهويّات المسلمة المختلفة تذوبُ وتنصهرُ في المجتمعات الأوروبية من دون أن تفقد أصولها أو جذورها. ويعتقد الأوروبيّون خطأ أنّ المهاجرين يأتون ليضطلعوا ببعض الأعمال التي يأنفون هم القيام بها في بلدهم، والواقع أنّ هذا الادّعاء قد اختفي تماما بعد اندماج، وانصهار المهاجرين في بوتقة المجتمعات الجديدة، وبعد أن تحسّنت أوضاعُهم الاجتماعية، والمعيشية، والدراسية حيث أصبح العديد منهم يتسنّم أعلى المراكز في المجتمع، بل ويتقلّد أرقىَ الوظائف في الدّولة كذلك» .
ساركوزيّات..
يذكّرنا المؤلف في كتابه أنّه قبل الانتخابات الرئاسية الفرنسية عام 2007 كان المرشّح المحافظ لها الرئيس الفرنسي الأسبق.. نيكولاس ساركوزي قد عبّر عن قلقه وتخوّفاته من الآثار الوخيمة ـ حسب تعبيره ـ التي قد تجلبها الهجرات المتوالية التي تعرفها فرنسا منذ أحداث خريف 2005 حيث كان ساركوزي قد أشار في هذا القبيل إلى «أنّ الهجرة مستمرّة إلاّ أنّ فرنسا لم تعد في الوقت الراهن في حاجةٍ إلى هؤلاء العمّال الذين لهم قدرة وقوّة العمل لمدّة عشر ساعات متتالية في اليوم الواحد، بل إنّ فرنسا اليوم هي في حاجة إلى مهاجرين أكفاء ذوي مهارات عالية، وتكوين تخصّصي متين، لذا فإن هذه الهجرة ينبغي أن تخضع لعملية انتقاء دقيقة» .
ويشير المؤلف بغير قليل من السخرية إلى أنّ ساركوزي ـ كان دائماً يفتخر بأصوله التي قامت على الهجرة كذلك، فوالده كان قد فرّ من «المجر» غداة الحرب العالمية الثانية ـ وبالتالي فإنه لم يكن معادياً ولا مناوئاً للهجرة، إلاّ أنه مال فيما بعد إلى تبنّي ما يُطلق عليه بـ»الهجرة المختارة»، وتجدر الإشارة إلى أنه كان قد صرّح خلال رحلة له إلى مالي بأنّ فرنسا لا يمكنها أن تكون البلد الأوروبي الوحيد الذي ليس في مقدوره البتّ في إشكالية هؤلاء الذين يتوافدون عليه بدون انقطاع». ونتيجة هذه التصريحات نشر معارضو ساركوزي في ذلك الأوان أغنية تهكّمية على الشبكات العنكبوتية جاءت جواباً مُفحماً على خطابه الذي رأوه موغلاً في العنصية، والشوفينية وجاءت هذه الأغنية على السّجع المُقفّى في اللغة الفرنسية وكان ممّا جاء فيها:
إنّه يُسمّى نيكولاس ساركوزي …. إنّه صاحب الهجرة المختارة .
إنّها قصّة أحد أبناء المَجر … يسعى ليُتوَّج في بلاد الغال.
لقد ولّىّ عهدُ الزنجيّ ذي العضلات المفتولة والأسنان الناصعة البياض… إنه يريد اليوم الزّنجيّ المجاز المتّسم بالذكاء.
وتختتم الأغنية كلماتها متسائلةً وساخرة: قلْ لي يا ساركوزى بالله عليك…لماذا فرّ والدُك من المَجر؟
ويذكّر المؤلف في كتابه أنّ عهد» نيكولاس ساركوزي» منذ أن كان وزيراً للداخلية قد عرف غيرَ قليلٍ من المواجهات، وأحداث الشّغب، والقلاقل، والاضطرابات من طرف المهاجرين على اختلافهم في العديد من الأحياء المهمّشة والضواحي والنواحي والأرباض المتاخمة للمدن الفرنسية الكبرى. إلاّ أنّه أصبح في ما بعد من أوّل المدافعين عن التنوّع والتعدّدية الثقافية، حيث عيّن أكثر من غيره من الرؤساء الفرنسيّين السّابقين مواطنين مهاجرين عرباً وأمازيغ في مناصب رفيعة في حكومته مثل رشيدة داتي وزيرة للعدل، وفضيلة عمارة كاتبة الدولة مكلّفة بسياسة المدن، وآخرين.
غُوته وكَارليل ورِينان
وخصّص المؤلّف باباً في كتابه للحديث عن الإسلام، وعن كلّ ما له صلة بمناسك المسلمين وفرائضهم ومعتقداتهم، وركّز كالدويل على جهل بعض الأوروبيين بهذا الدّين السّماوي، مستشهداً ببعض المفكّرين والفلاسفة الغربيين الذين يكنّون احتراماً وتقديراً بالغيْن للإسلام مثل غوته، وكارليل اللذين كانا من المُعجبين بالحضارة الإسلامية. ويقول المؤلف: إنّ الإسلام قد شكّل باستمرار بالنسبة للمسلمين هويّة قويّة، مستشهداً بالمستشرق الفرنسي إرنست رينان (على الرّغم من هفواته، وترّهاته في مواطن أخرى في معرض أحكامه على الإسلام والمسلمين) ومع ذلك يقول: «يتميّز الإيمان عند المسلمين بقوّة خارقة تتلاشى معها جميع الجنسيّات، إذ يكفى أن يكون المرء مسلماً ليتساوىَ مع مختلف الأعراق والأجناس على اختلافها وتباينها، كلّها تذوب وتنصهر في بوتقة واحدة تمّحى معها الجنسيات، ويصبحون برمّتهم ذوي هويّة واحدة، ويغدو الإسلام هو موطنهم، ومصدر قوّة وأخوّة بالنسبة لهم، وأكثر من ذلك هم يشكّلون بواسطته هويّة واحدة متماسكة». ويؤكّد من جهة أخرى مالكوم إكس (الملقّب بضمير الأمريكيين السّود) الذي عومل خلال رحلته الى الحجّاز عام 1964 بلطف كبير، وحفاوة بالغة، الذي كان يقول: إنّه على أمريكا أن تعرف جيّداً أنّ الإسلام يخلو من التعصّب العِرقي. كما أنّه لا يعترف بالفوارق، و»لو آمن الأمريكان بوحدانية الله، فإنّهم في هذه الحالة سوف يؤمنون كذلك بوحدانية الإنسان».
ويرى كالدويل أنّ على الأوروبيين الاعتراف بفضل الإسلام عليهم، وأنّ التحدّي الذي واجه به الإسلامُ الغربَ قد أفضى في آخر المطاف إلى تقوية هذا الأخير وتكتّله. ويستشهد ببسّام الطيبي الذي كان يقول: بدون تحدّي الإسلام فإنّ غرب «شارلمان» ما كان له وجود قطّ. وأبرز كتاب كالدويل التأثير الكبير الذي أحدثه الإسلام في العصور الوسطى في مختلف مناحي الحياة الأوروبية، والدّور المِحوري الذي لعبه في نقل، وشرح، والتعليق على الفلسفة الإغريقية، فلولا هذه النهضة الحضارية والعلمية لكان الغرب لمّا يزلْ يغطّ في دياجي الظلام، وقد جعل الاسلامُ دمَه يسري بقوّة ويمتزج بدم الغربيّين على امتداد الثمانية قرون لوجوده في الأندلس.
الهجوم على أبراج نيويورك 2001 كان له حضور واسع في هذا المؤلّف، فضلا عن إشكالية الحجاب، والخمار، وغطاء رأس المرأة، والزّواج، والعزوبية، والعذرية، وتعدّد الزيجات، وقضيّة المنتوجات الحلال، وأزمة الكاريكاتيرات الدنماركية وما نتج عنها من مقاطعات اقتصادية في العالم الإسلامي قاطبة.
ويشير الكاتب في معرض كتابه إلى أنّه إذا كانت معضلة أمريكا في تاريخها هي تحرير السّود و مشكلتها الرئيسية اليوم هي مكافحة الإرهاب، فإنّ مشكلة أوروبّا هي حضارية من الطّراز الأوّل، تتمثّل في الاقتناع العميق بأنّ المسألة لا صلة لها بلون الجلد، بل لأنّ أوروبّا أضحت اليوم تسير نحو منحدرٍ سحيقٍ بسبب الإاخفاض السكّاني الذي أصبحت تعرفه مؤخّراً. بمعنى آخر أنّها غدت تتّجه نحو شيخوخة وَهِنَة مقابل الموجات المتصاعدة والمتزايدة للهجرة التي ما فتئت تعرفها ربوعها بدون انقطاع، وانتشار دين وثقافة جديدين فيها بسرعة مُذهلة. ويرى المؤلّف على الرّغم من الإجراءات التي اتّخذها الغرب في مواجهة الهجرات الشرعية منها واللّاشرعية، من فرض صعوبات متشدّدة على الهجرة، وتعقيد القوانين المتعلّقة بشأنها، أو إبرام اتفاقيات مع البلدان المتاخمة لأوربا لمكافحة الهجرة السرية وصدّها أو الحدّ منها وتقنينها، مع ذلك فإنّ المشكل ما زال قائماً بحدّة في مختلف البلدان الأوروبيّة، التي من المنتظر أن يطرأ عليها تحوّلات كبيرة في مختلف مناحي الحياة، نظراً لتزايد وتكاثر عدد المسلمين بها بحكم النموّ الديموغرافي الهائل الذي أصبحت تشهده اليوم .