في مطلع القرن الواحد والعشرين بالذات،كنا عشرة رفاق**،عزموا على المشاركة في “الوقفة” الوطنية على أبواب “نازمامارت”،”الوقفة” التي دعا لها “المنتدى المغربي للمصالحة والإنصاف،تنديدا بسنوات الدم والرصاص والقمع الرهيب،سنوات الحرية المغتالة تحت أقدام “الاستبداد الأسود”.لماذا “تازمامارت”؟..”تازمامارت” هو المعتقل السري الرهيب ضمن معتقلات سرية أخرى،لكنه المعتقل السري الأكثر “رهبة” والأكثر شهرة أيضا،لذلك استحق أن يكون رمزا بليغا معبرا عن سنوات الرصاص بحزنها وأوجاعها وأحلامها الموؤودة.ما هو معتقل “تازمامارت” ؟؟.. 

    أقام الاستعمار الفرنسي هذا المعتقل الرهيب لتعذيب وقهر الوطنيين المغاربة.لكن “الحسن الثاني”،بعد الاستقلال،خاصة بعد الانقلابين الفاشلين مطلع العقد السبعيني،سوف يستغله للانتقام الشخصي من خصومه الانقلابيين.بعد فشل الانقلابين،حوكم العسكريون المتورطون فيهما،أعدم قسم منهم رميا بالرصاص،والباقي حكمت عليهم المحكمة بالسجن لمدد متفاوتة.إلى هنا والأمر شبيه بما يحدث في دول العالم الثالث،ويمكن أن يقع في أية دولة متخلفة سياسيا،رغم التحفظ الشديد على الإعدامات،لكن في ليلة ظلماء،اقتحمت مجموعة من “المجهولين” سجنا عسكريا بمدينة “القنيطرة،واختطفت العسكريين المتورطين في الانقلاب المحكومين بالسجن قضائيا،واقتادتهم إلى مكان “مجهول”،ولم يعد يسمع عنهم لا حس ولا خبر،ذلك المكان المجهول هو معتقل سري اسمه “تازمامارت”.ظل هذا السجن الرهيب طي السرية والكتمان،مدة طويلة إلى أن بدأ يخرج للعلن تدريجيا،حتى ذاع صيته أواخر العقد الثمانيني،خاصة بعد طرحه في البرلمان على مسؤوليته الشخصية الزعيم المغربي “محمد بنسعيد آيت إيدر”،عندما امتنعت “الكتلة” أن يطرح باسم نوابها،حينذاك اضطر “الحسن الثاني” لإغلاقه،بعد أن أفرج عمن تبقى على قيد الحياة من المعتقلين العسكريين،اختطف هؤلاء العسكريون،وكان عددهم 58 عسكريا،في غشت 1973،وحين تم إغلاقه في غشت 1991،لم يخرج منه حيا سوى 28 معتقلا،بعد أن قضوا 18 سنة في معتقل يفتقد لأبسط أسباب الحياة.

    انطلقنا يوم الجمعة مساء من مدينة “تطوان”،لم نسترح في الطريق إلا قليلا،وتوقفنا في مدينة “مكناس”.كان قد حل الليل.بالصدفة التقينا رفيق على معرفة قديمة بأحد منا،دعانا إلى المبيت معه في البيت.بما أننا في فصل الصيف،لم يفكر أحد منا في كيفية توفير “الغطاء” لعشرة أفراد.قضينا الليل في غرفة فسيحة على سطح منزل داخل المدينة العتيقة.استهلكت النقاشات السياسية المطولة الهزيع الأكبر من الليل،لم ننم إلا قليلا.انطلقنا من جديد نحو “تزمامارت”،في الطريق،نحو “ميدلت”،استرحنا قليلا وتغذينا مستمتعين بأسلوب الطبخ الخاص لدى سكان “الأطلس” وبحسن ضيافتهم أيضا.أثارتنا “أريحية” رفيقنا “يونس” في منح “الإكراميات”،وهو أمين “المال” الذي وفرناه لتغطية الرحلة.عند سؤاله عن “أريحيته” المبالغ فيها قليلا،قال،بأسلوبه الساخر،إنه لأول مرة في حياته يشعر أنه أمسى “برجوازيا” قادرا على أن يمنح “شيئا” للآخرين !!.كانت الطريق في اتجاه “الريش” طويلة،لا أثر فيها للمدنية سوى ذلك الطريق المعبد الذي كان يمتد أمامنا مثل ثعبان ضخم،يتحرك أمامنا ليدلنا على جحره الضخم الرهيب.توقفنا عند “محطة وقود”،حيث انضممنا إلى باقي المشاركين في “الوقفة”،وجدنا حافلات وسيارات كثيرة،ربما تراوح العدد بين 2000 أو 2500 مشارك.خطر لي أن آخذ صورة للذكرى مع “صلاح الوديع”،وضعت يدي على كتفه محتفيا به،انزعجت قليلا،حين بدا لي أنه متبرم بعض الشيء،ربما لأنه لا يعرفني شخصيا.انطلقت القافلة نحو “تازمامارت”،بعد 20 كلم من “الريش”،سلكنا يسارا طريقا غير معبد،قيل إنه لم يكن هنا قبل أيام،قد تم فتحه فقط لهذه المناسبة،ذلك الطريق غير المعبد كان هو آخر الطريق نحو معتقل “تازمامارت”.ليس على جنباته ما يوحي بالحياة،لون الأرض “رمادي” لا هو أصفر مثل رمال الصحراء ولا هو “أخضر” مثل سفوح الجبال،نباتات متوحشة وشجيرات غير مثمرة متناثرة هنا وهناك،لا شيء يدخل في إطار المألوف والاعتيادي سوى الشمس الحارقة والسماء الزرقاء فوقنا.

    وصلنا إلى “تزمامارت”.بنايات قديمة وأخرى حديثة متناثرة داخل وسط فضاء،لا يتعدى 1000 متر مربع،مفتوح على “قسوة” السماء في قيظها وبردها، يسيج هذا الفضاء الرهيب القاسي سور لا يتعدى طوله المترين.رافقنا في الرحلة الزعيم الوطني “محمد بنسعيد آيت إيدر” رغم كبر سنه وطول الطريق في يوم قائظ.كما رافقنا أبناء الجنرال “أوفقير”،لكن لا أحد انتبه إليهم أو فتح معهم حوار،رغم أنهم هم أيضا ضحايا سنوات الرصاص،ولا يمكن لهم بأي حال من الأحوال أن يتحملوا “وزر” أبيهم.أخذ أحد ضحايا “تازمامارت” المحررين “مكبر صوت” محمول.شرع يشرح لنا ما بداخل “المعتقل”،لأنه لم يسمح لنا بالدخول.أشار إلى البنايات القديمة والبنايات التي تم استحداثها،بعد 1991،وهو ما فند ما قيل وشاع حينئذ حول “تدمير” المعتقل ومسحه من الوجود.ركز المعتقل المحرر على بناية قديمة طويلة مستطيلة الشكل قائلا هناك توجد “الزنازين” الانفرادية،58 زنزانة،29 منها تحت و29 زنزانة فوق،نحن لا نرى سوى الزنازين التي فوق،أما تلك التي تغوص في الأرض،فلم نتمكن من رؤية سوى جزئها العلوي.وأضاف المعتقل السابق إن كل من كانوا في الزنازين السفلية قضوا نحبهم بسبب الرطوبة والمرض والإهمال.المثير للاستغراب أيضا هو أن هناك طريق ضيق لا يتعدى ثلاثة أمتار يفصل بين “المعتقل” وبين قرية مهملة مجاورة له،خرج سكانها لمشاهدة الحدث.ظنوا أننا “إعلاميون”،وشرعوا يترجوننا بأسى بالغ أن نخبر عنهم،وعن تهميشهم وفقرهم المدقع،وعن حرمانهم من الماء والكهرباء والطريق،قالوا إن عزلتهم لا تختلف في شيء عن عزلة هذا المعتقل النائي.اكتشفنا أن هناك معتقل “تازمامارت” وبجواره قرية “تازمامارت” المنسية.

    عندما انتهت الوقفة،وهممنا راجعين،انفجرت مشكلة بين رجال المخابرات وصحفيين فرنسيين أظن أنهم من (فرانس2).أرادت المخابرات اعتقالهم أو على الأقل حجز أدوات عملهم التكنولوجية.تصدى لهم الرفاق رافضين اعتقالهم.قيل إن هؤلاء الصحفيين جاؤوا قبلنا في الصباح،وصعدوا الجبل الذي يقع معتقل “تازمامارت” على سفحه.حاولوا بكاميراتهم المتقدمة المجهزة بالأشعة تحت الحمراء أن يصوروا ما وراء جدران الزنازين باحثين عن “معتقلين” أو “مختطفين” مفترضين.لكن من المستبعد أنهم وجدوا ما يبحثون عنه.ربما أرادوا أخذ صور تفصيلية عن “تازمامارت”،خاصة أن الجهات الرسمية ما فتئت تصرح أنها قد هدمته.بعد أخذ ورد وتجاذبات عنيفة،تمكن الرفاق من حماية الفرنسيين،واصطحابهم إلى مدينة “الراشدية” حيث أكملوا هناك بقية برنامجهم الذي سطروه.لكننا سمعنا فيما بعد أن رجال المخابرات تمكنوا،في الصباح،من حجر العدة المهنية للصحفيين. 

    نحن فلم نرافقهم إلى “الراشيدية”،بل قفلنا راجعين قاصدين”الرباط” للمشاركة في التظاهرة الوطنية لدعم “انتفاضة الأقصى” التي فجرها،آنذاك،السفاح “شارون” باقتحامه الاستفزازي للمسجد الأقصى.في الطريق  دخلنا سوق “الريش”،كانت الشمس قد شارفت على المغيب.أردنا شراء بعض التمور،ووجدنا صناديق تمر موضوعة على عربات موزعة هنا وهناك. أثمنة العلب متفاوتة تتراوح بين 40 و60 درهمات،ووزنها 2 كلغ.اشترى بعض منا ما يناسب إمكانياته.هذه الصناديق وجدناها،فيما بعد،ملغومة بالغش المغربي،اكتشفنا،في نهاية الرحلة،ونحن في منازلنا أن هناك طبقة رقيقة من التمر الجيد على سطح الصندوق تغطي ديدانا حية وتمورا فاسدة متعفنة.لكن “ميدلت” عوضت علينا كل الخسائر بتفاحها الرائع المتنوع وأثمنتها المناسبة.اشترينا تفاحا من كل صنف،وملأنا كيسا كبيرا.لم نكل،في تلك الليلة،شيئا سوى التفاح،ونحن على الطريق،والوقت يضغط علينا للوصول إلى “الرباط” في الوقت المناسب.دخلنا “الخميسات” فجرا.ونمنا في فندق متواضع بعض الوقت.وعدنا للطريق ثانية،قاصدين “الرباط”.

    ما أن وصلنا موقع انطلاق “التظاهرة” بـ”باب الحد” قبل انطلاقها،حتى طالعنا مشهد غير متوقع.وجدنا “الكوميسر” المشهور الذي كان قد أسس حزبا سياسيا،محاصرا بشباب في مقتبل العمر يطالبونه بالانسحاب من التظاهرة،ناعتين إياه بالجلاد.من العجيب أن نأتي من “تازمامارت” ونجد “صورة” مصغرة عنها في التظاهرة.اشتد اللغط حول “الكوميسر” وتزايد عدد المطالبين بانسحابه.كادت الأمور تتطور نحو الأسوأ،الأمر جعل السلطة تتدخل،وتدفعه للانسحاب من التظاهرة.لكننا وجدنا هناك أيضا الفكاهي الساخر “بزير”،سلمنا عليه،وأخذنا بعض الصور رفقته للذكرى.غير أن المفاجأة الكبرى حدثت حين انطلقت التظاهرة من “باب الحد” قاصدة مسار الشارع الذي يوصل إلى البرلمان وإلى محطة القطار.لم يخطر ربما على بال أحد، أن فصيلا سياسيا يتحدث عن “القرآن أو الطوفان” قد أحدث طوفانا فعلا.بدأ أنصاره ومؤدين وأبناء الأحياء الذين جيشهم وشحنهم،يخرجون أفواجا من الشوارع الجانبية،قاصدين تمزيق جسد المظاهرة الوطنية إلى مجموعات،ومطوقين كل مجموعة بسلاسل بشرية،مانعين بالقوة أي أحد من مغادرة المجموعة.شتتوا تظاهرة مكونات التنظبمات السياسية الوطنية،وقاموا بتسييد صوتهم وشعارهم، وتحولت التظاهرة إلى “جنازة” كبرى غاب عنها الشعار السياسي وحضرت التراتيل الدينية وكأننا في مأتم. التقت صديقا لي طوقوه في مجموعة،وحين قاومهم،كسروا أصبعه بعنف.لما وصلنا محطة القطار في وسط الرباط،ربطوا الاتصال مع “أحمد ياسين” من حركة حماس،دون الفصائل الفلسطينية الأخرى،وسمعنا صوتا مبحوحا ضعيفا،لم نفهم منه شيئا.

    هل هناك من رابط بين “تازمامارت” و”القدس”؟؟ نعم،زرنا أيقونة الاستبداد،وذهبنا إلى “الرباط” لأجل القدس،فوجدنا استبدادا آخر ينمو ويترعرع.فإذا قامت “حركة” تدعي الإسلام بإلغاء حق المكونات الأخرى في التعبير عن مجرد تضامنها مع “انتفاضة الأقصى”،فما بالك إذا حكمت وتمكنت من السلطة واستتب لها الحكم،أكيد أنها سوف تبني عشرات “تازمامارت”. أليست “فلسطين” راحت ضحية  الاستبداد المتمكن بقوة من العقل العربي بفعل الموروث الاستبدادي الرافض للحداثة والديمقراطية والتغيير،العاجز تماما عن القطع مع ثقافة موروثة من استبداد السلاطين الطغاة. أليست مشكلة “فلسطين” هي مشكلة “الاستبداد العربي” ؟؟….

**رفاق الرحلة :رشيد حسنوني/ يونس الجيراري/أحمد الخمسي/ نبيل اللمتوني/سعيد المنقودي/ محمد البالي/علي دركال/ محمد الجيراري/مصطفى المصلوحي/….