لم يكن أحد يتوقع أن دستور 1978 الذي أرسى دعائم الانتقال الديمقراطي في اسبانيا الحديثة ، سينفجر في سنة 2017 ،من خلال مطالبة حكومة كاتلونيا بالاستقلال التام ،وهناك من شبه فك  كاتلونيا ارتباطها بمدريد، بأنه اخطر من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي .لآن ترجمة مطلب استقلال إقليم كاتلونيا إلى حقيقة ملموسة يعني ضربة ماحقة لوحدة اسبانيا بشكل خاص، والاتحاد الأوربي بشكل عام.فهذه أسوا أزمة تواجهها إسبانيا منذ أزيد من أربعين سنة ،وهناك من يصف مبادرة ” كارليس بوتشمون” رئيس حكومة الإقليم  بالاختيار الانتحاري ،لأنه سيؤجج  الأوضاع بشكل غير مسبوق في منطقة  تمثل خمس حجم اقتصاد اسبانيا.

تاريخيا شكل مطلب الاستقلال من طرف الشعب الكاتلاني ثابتا يكاد يكون بنيويا ،فقد كانت هناك عدة محاولات وتجارب منذ القرن الثامن عشر ،خاصة وان عوامل اللغة والخصوصية الثقافية والعادات المحلية  تقف وراء انتعاش الشعور بهوية قائمة الذات  

وتثير  عملية الاستفتاء حول مستقبل إقليم كاتلونيا مسلسلا من  التشويق والتسويق  الإعلامي ،فأغلبية المتدخلين يدافعون عن وحدة اسبانيا ،وهناك من يرى بأن الاستفتاء ليس قعقعة رعد في سماء بلا غيوم على حد  وصف المؤرخ” نيكولا مارتي” ،إن الاستفتاء يستند إلى العجز على تجاوز شعور قوي وعميق في المجتمع الكاتلاني ،حيث هناك مجموعة من الأحداث المعاصرة عاشتها كاتلونيا التي تعتبر نفسها أمة كاملة المواصفات، ولكنها ليست قومية شوفينية فسكان كاتلونيا منفتحون على العالم و ايجابيون وميالون إلى الفضاء الأوربي ، ولايدعي الشعب الكاتلاني الدفاع عن قومية تؤمن بالقوة، بل قومية تؤمن بحقها في الوجود كما أن أنصار الاستقلال في كاتلونيا ليسوا متطرفين ،والحركة الاستقلالية الكاتلانية تحتل مجالا حيويا في الحقل السياسي المحلي  ،وتتكون من أحزاب وتيارات وكتل برلمانية  متنوعة .هناك تحالفات بين عدد من الأحزاب الممثلة داخل البرلمان الكاتلاني ،تحالف يجمع في بوتقته بين الجمهوري والمسيحي الديمقراطي واليساري  والليبرالي والقومي المتشدد.

 في 2010 بحثت الحكومة المحلية لكتالونيا إمكانية  سن ميثاق ضريبي خاص بها ،لكن هذا الطلب قوبل بالرفض واللامبالاة ،علما أن وضعا من هذا القبيل يتمتع به عدد من  الأقاليم كالباسك ،الذي تتحكم حكومته المحلية  في عدد من القطاعات الأساسية وتتوفر على جملة من الاختصاصات الموسعة.

 اللافت في كل هذا المسلسل هو ؟أن الأغلبية الصامتة في كاتلونيا  تعارض أي انفصال عن الأمة الاسبانية وتناهض مبدأ الاستقلال ،لكن من المسؤول عن صمت هذه الأغلبية ،ففي استفتاء فاتح أكتوبر لم تصوت سوى 42 في المائة من ساكنة الإقليم ،وهنا يطرح السؤال المشروع في حال استفتاء متفاوض بشأنه هل ستخرج الأغلبية الصامتة عن صمتها لتدلي بأصواتها ،فهي غائبة لكنها وحدوية .

في كاتلونيا تتواجه شرعيتان حق الشعب في أن يتمتع بدولة مستقلة ،وهنا الاستقلاليون واثقون من عدالة قضيتهم  ويستغلون بذكاء وبراغماتية منطق الأمر الواقع وبالمقابل هناك الحكومة المركزية وهي أيضا  واثقة من عدالة قضيتها وتلعب ورقة الضغط القانوني الشرعي .وهنا تكمن عناصر التراجيديا  الكاتلانية  .فمن المؤكد أن الشق السياسي والتاريخي للأزمة ،لاينفصل عن الشق الاقتصادي ،وتبعا لذلك بدأت محموعة من الشركات في مغادرة برشلونة .  

 لتطويق نزوعات  “كارليس بوتشيمون” الانفصالية  طالبت الحكومة  الاسبانية بتوضيح مقنع ودقيق من طرف رئيس حكومة كاتلونيا  ،غير انه لم يلتزم بالمطلب ،وهذا ما يفسر وجود  تصعيد سياسي وقضائي فقد تلجأ المحاكم  إلى متابعة عدد من المسؤولين الأمنيين المحليين ..وهددت مدريد بصورة جدية  بتعليق العمل بالحكم الذاتي .طبقا  للفصل 155 من الدستور.بما في ذلك  بوضع منطقة كاتلونيا التي تتمتع بنظام الحكم الذاتي تحت وصايتها إذا لم تتراجع الحكومة المحلية عن مطلب الاستقلال .ويبدو أن حكومة ماريانو راخوي تهيئ الأرضية والأجواء لاستعمال الفصل 155 من الدستور الاسباني الذي يسمح لها بتعليق العمل بالحكم الذاتي ،وكان بوتشيمون تعمد الثلاثاء الماضي زرع الغموض والتشوبش عندما صرح بما أسماه الإعلان الرمزي للاستقلال مع وقف تفعيله بهدف  إبقاء الأبواب مشرعة على إمكانيات الحوار والتفاوض مع مدريد.

ورغم أن مدريد منحت بضعة أيام إضافية لحكومة بوتشيمون تمتد إلى غاية 19 أكتوبر من الشهر الجاري لحملها على التراجع ÷فإن القوى الداعمة والمتبنية لمطلب للاستقلال تعتبر قرارها سياديا مسنودا بالشرعية الشعبية والتاريخية ،وإذا لم تلتزم حكومة بوتشيمون باحترام المهلة الثانية ،فإن مدريد ستضطر إلى تطبيق مقتضيات الدستور واللجوء إلى وضع المنطقة تحت وصايتها مع تنظيم انتخابات في أجل 6 شهور .علما أنها تعتبر ما تقوم به الأحزاب المناصرة للانفصال استفتاء غير مشروع و خارج القانون،و لن يؤدي سوى إلى تقسيم وتفتيت المجموعة الكاتلانية ،وأي نتيجة سيسفر عنها  الاستفتاء لن تكون لها أية حظوظ في التطبيق.كما أن مدريد ترفض رفضا مطلقا قبول أي وساطة وطنية أو دولية  وتعتبرها مسألة مستحيلة في سياق يطبعه التمرد والعصيان.وقال راخوي في وقت سابق “ليس هناك بلد في العالم يأخذ مآخذ الجد ما جرى في فاتح أكتوبر ،في إشارة إلى الاستفتاء الذي نظمته حكومة كاتلونيا ،وبخصوص الحق في تقرير المصير فإنه حسب راخوي   غير متضمن في أي دستور ديمقراطي ولا يمكن أن ينسحب على الدولة  الاسبانية ،سوى في حالة الدولة الآمة الخاضعة لسلطة استعمارية .

ويبدو أن أي قرار لا يمكن أن يتخذه راخوي لوحده دون اللجوء إلى دعم الحزب الاشتراكي العمالي والحصول على إشارة الضوء الأخضر من أمينه العام “بيدور سانشيس “،وكمقابل للحصول على هذا الدعم يتعين على الحزب الشعبي الموافقة على مراجعة  الدستور وإعادة التفاوض بين مدريد والأقاليم  17 المكونة للشعوب الاسبانية  .”سانشيس” شدد على ضرورة تنصيب لجنة لتحديث المؤسسة الترابية ،واشترط تفعيلها بشكل سريع وفي أجل لا يتعدى 6 شهور .والفكرة الجوهرية هنا هو بحث كيفية بقاء كاتلونيا داخل الفضاء الاسباني الوطني وليس كيفية الانسحاب منه وأعاد الحزب الاشتراكي العمالي التأكيد على التأويل الذي يمنحه للمادة 155 من الدستور الاسباني ، بحيث لا يجب أن تنزلق الحكومة المركزية إلى تطبيقه بل يجب  يدفع  “بوتشمون” إلى أ ن يكون سببا في إعمال هذا الفصل  .

ومعلوم أن الفصل 155 لم يسبق أن استعمل من قبل ، وهو صريح في دلالاته واختصاصاته،ولكنه غامض في تفاصيله ،فهو يسمح لمدريد باتخاذ الإجراءات الضرورية إذا لم تحترم منطقة ما تتمتع بالحكم الذاتي الالتزامات المنصوص عليها في الدستور أو قوانين أخرى ذات الصلة ،ولكنه لا يحدد لا الأجل ولا المدة ولا طبيعة الإجراءات الممكن اتخاذها والتي من شأنها تعليق نشاط الحكومة المحلية وحل البرلمان الجهوي ،وهذا مايطرح صعوبة قصوى في تطبيق الفصل 155 .الشيء الذي يحتم على حكومة مدريد أن تقدم إلى مجلس الشيوخ  حيث يتوفر الحزب الشعبي الحاكم   على الأغلبية المطلقة ،وثيقة تفصل وتدقق الإجراءات المحتمل اتخاذها  والإنذار الموجه إلى رئيس حكومة كاتلونيا ،ومن تم يتعين على اللجنة العامة لمناطق الحكم الذاتي أن ترفع رأيا في الموضوع ،كما أن الرئيس “بوتشمون” سيمنح أجلا محدد لتقديم أجوبته.

وفي مرافعته عن موقفه يراهن راخوي كذلك على موقف حزب ” سيودادونوس” ذي التوجه الوسطي والمناهض لا ستقلال كاتلونيا، وهذا الحزب منذ اندلاع الأزمة مع مدريد دعا صراحة ودون تردد إلى تطبيق الفصل 155 بما في ذلك تنظيم انتخابات جديدو في الإقليم .غير أن اللجوء إلى الفصل 155يطرح  أيضا شكالا ديمقراطيا ،لأنه يعيد إلى الأذهان العهد الفرنكوي الديكتاتوري 

أما حزب بودي موس الراديكالي الفتي ،فهو يؤكد على استفتاء متفاوض بشأنه ،وهذا الموقف يتقاطع مع ما كان صرح به طكارليس بوتشيمون” لقناة  أمريكية كونه مع حوار بدون شروط مسبقة ،لاقتناعه بأن العلاقة بين برشلونة ومدريد ليست جيدة  فهي محتقنة، وهذه حقيقة قائمة  ،وجزء كبير من الشعب الكاتلاني مقتنع بدولة مستقلة.

ينظر الكاتب العام السابق للمجلس الدستوري الفرنسي  “جون ايريك شوتل” والمستشار الشرفي  للدولة الفرنسية ،والذي يعرف عن كثب الأزمة التاريخية لكاتلونيا ،نظرة قلقة تجاه الأزمة التاريخية التي تجتازها اسبانيا .فهو يرى أنه” حتى مفهوم الأمة أصبح هشا ،وهدف الشعب الكاتلاني هو التخلص من الإرث الاسباني “يبدو أن  الهروب إلى الأمام  من طرف حكومة كاتالونيا لايترحم مشروعا ايجابيا  ولكن يعكس إرادة استئصالية لأن العاطفة الثقافية المتدفقة والتي  تصل حد التعصب والمذهبية هي العامل الذي يحرك مشاعر الانفصال في المجموعة الكاتلانية .  وقد تذهب إلى درجة الرغبة  في التطهر مجازا  من رجس الإسبان.

فهل مشروع الاستقلال في كاتلونيا سيكون ثقافيا  ، مع العلم أن اللغة الكاتلانية أصبحت اللغة الرسمية منذ عقود ؟.وهل مشروع الاستقلال اقتصادي ،خاصة وأن منطقة كاتلونيا تهيمن منذ سنوات على النشاط الاقتصادي الاسباني وتساهم بحصة كبيرة في الناتج الداخلي الخام كما أن المنطقة تعرف أدنى نسبة بطالة ؟ .وهل المشروع سياسي ،فكا لونيا تتمتع بنظام حكم منذ تبني دستور 1978 وهو وضع جد متقدم يصل في كثير من صلاحياته إلى حد الاستقلال ؟.

إن مشروع الاستقلال يكتسي بعدا سلبيا حسب”جون ايريك شوتل”   ويسعى إلى بناء أو صياغة “نحن “في  مقابل” هم”  كما يهدف إلى قطع أي صلة تربط بين المجموعة الكاتلانية والشعب الاسباني  وهنا تسقط فكرة انتعاش وتحرر كاتلونيا.