إن الشجاعة السياسية للقيادة التاريخية لحزب التقدم والاشتراكية مكنته من تجاوز المحن التي واجهته عبر مساره الكفاحي والنضالي، وميزته بمواقفه الرصينة التي تستند على تحليل موضوعي وجريئ للواقع السياسي المغربي، وهو الأمر الذي كلف مناضلي ومناضلات الحزب تضحيات جسام صونا والتزاما ونصرة للقضايا العليا للشعب المغربي. لكن وللأسف الشديد وفي ظل ما يعرفه المشهد السياسي من ترد وتفكك لمنظومة القيم والمبادئ النبيلة المؤسسة للنضال السياسي الملتزم، وإسفاف وهرولة القيادة الحزبيةالتي لم تعد تملك الحد الأدنى من الشجاعة والجرأة لتدافع عن نفسها وصد الارتدادات والرجات التي خلفها ما سمي ب “الزلزال السياسي”حيث سيسائلكم التاريخ :

لماذا أصبتم بالخرس وانعقدت ألسنتكم عن الكلام وطأطأتم رؤوسكم وخررتم ساجدين خائفين ترتعد فرائصكم من هول مزلزلكم؟ لماذا تصرون على زيغكم وانحرافكم والقضاء على ما تبقى من هذا الحزب الذي منحكم كل شيء وكلما اذخره طيلة حياته وصراعه المرير من أجل وطن حر وشعب أبي؟

لماذا، لم تستطيعوا أن تقولوا لا؟وأَن تقلوا كفى عبثا واستهتارا وضربا وتنكيلا لهذا الحزب الذي استصغرتمونه وافقدتمونه مصداقيته وعزته واحترام خصومه قبل حلفائه. حتى وانتم تئنون تحت الدمار تخافون قول ” لا” ماذا تبقى لكم؟ بعد أن استبحتم حرمة الحزب وجعلتموهأضحوكةلكل من هب ودب، و بعد ما كان يضرب له ولمناضليه ألف حساب أيام الجمر والرصاص، حيث كان الاستبداد السياسي في أوج تسلطه وطغيانه. وبعد أن زلزلت الأرض زلزالها وأخرجتأثقالها، وبعد ساعات طوال من النقاش أصدرتم بلاغكم المهادن والمستعطف وكأن حال لسانه يردد الدعاء التالي: ” اللهم إننا لانسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه” ومما يدل على أن العجز والوهن وصل مداه. تلك اللغة “الأخلاقية” التي صيغ بها البلاغ بعد مقدمة غزلية جعلته يفقد مضمونه ولا يحمل أية رسالة سياسية في مستوى وحجم الحدث.

إن المصلحة العليا للوطن والشعب تعني التصدي بكل حزم للعبث السياسي وتعني الاحترام التام للمؤسسات السياسية والدستورية وفي مقدمتها الأحزاب التي بدونها لا تستقيم الحياة السياسية . و إن حجم الحدث لا يمكن اختزاله- كما جاء في البلاغ- في مسألة إعفاء لوزير أو أكثر بل هي قضية سياسية تمس جوهر طبيعة العمل السياسي والمؤسساتي بالمغرب وتساءل عمق المسلسل الديمقراطي وعلاقة الحكم بالأحزاب السياسية. إن الإعفاء هو نتيجة لسياق سياسي احتد فيه الصراع بين قوتين سياسيتين محافظتين تختلف من حيث الشكل وتتقاطع من حيث المضمون. وبالتالي ما وقع في مشروع “الحسيمة منار المتوسط” هو من تجليات وتمظهرات ونتائج هذا الصراع، وهو كذلك من الأسباب الرئيسية التي أشعلت فتيل الاحتجاج بالحسيمة التي ضاقت ذرعا من هذا التجاذب العبثي. لكن المفارقة الغريبة أن النتائج مخالفة ومناقضة للمقدمات مما يعني حسب أهل المنطق أن هناك شيء من حتى في الـأمر الذي ينطبق عليه المثل ” طاحت الصمعة علقوا الحجام” لأن الحلقة الأضعف والأهش في هذا الصراع هو حزب التقدم والاشتراكية الذي ارتمى في أحضان عرابه وخاض معركة بالوكالة لا تمت بصلة لمنهجيته وأسلوب تدبيرهللصراع السياسي. هذا الارتماء الذي جاء نتيجة اصطفاف غير طبيعي سياسيا وايديولوجيا، اصطفاف وتحالف بدون قيد أو شرط إلى درجة تغير معها جهازه المفاهيمي والسياسي. بل يظهر من خلال مجريات الأحداث أن هذا التحالف في حقيقة الأمر تحالف بين أشخاص اختزلوا أحزابهم في ذواتهم والدليل على ذلكأن بوادر فك الارتباط تبدوا جلية في ترك حزب التقدم والاشتراكية يواجه مصيره لوحده. رغم أن هذا المصير نتاج لتخندقه في معسكر مليءبالألغام، معسكر يحمل ويحلم بمشروع مناقض لمشروع الحزب. علما أن هذا المعسكر يتشكل من وجه للأصولية المخزنية ووجه للأصولية الدينية، وهما وجهان لعملة واحدة تؤمن بالتمكن للتحكم والتحكم للتمكن. في هذا الخضم تم حشر حزب التقدم والاشتراكية بسبب سوء وتقدير ونظر وإغراء جاه وسلطة وجلب منفعة .

والغريب في الأمر أن قيادة حزب التقدم والاشتراكية ما زالت مستمرة في نهجها تتلقى الضربة تلو الضربة دون رد بقوة وحزم وصرامة حتى أصبح هناك شعور عام أن الحزب فقد كنهه وقوته، وتيقن الخصم أنه لم يعد يمثل شيء في ميزان القوة السياسي، وأن همه الوحيد والأوحد هو البحث عن من يجود عليه من كرمه الحكومي. وما يؤكد هذا المنحى هو التردد والارتباك وعدم التمكن من بلورة موقف حازم وقوي وموحد في هذه اللحظة السياسية المفصلية الحاسمة تاركا الحسم فيالأمر للجنة المركزية التي طالما تم التعامل معها صوريا لمباركة القرارات المصيرية التي تشبع رغبات الاستوزار.

ولأن الأمر يمس كينونة ووجود الحزب فإن الاستمرار في هذا التخبط القاتل من اجل فرصة الاستوزار يعني أن هناك اختيارا ممنهجا للقضاء نهائيا على الحزب الذي قاوم أعتى أشكال التسلط وحافظ على وجوده واستمراره كمدرسة فكرية وسياسية وكمشروع مجتمعي وطني وديمقراطي وتقدمي. وأن مناضلات ومناضلي هذا الحزب يدركون جيدا دقة وخطورة هذه اللحظة السياسية، ويدركون أن استراتيجية القضاء على الحزب من الخارج لم تستطع النيل منه وهو نفس المصير الذي ستلقاه استراتيجية القضاء عليه من الداخل.

إن حزب التقدم والاشتراكية لن يختزل في حفنة من الأشخاص الذي يلهثون وراء جموحهم لإشباع غرائزهم المادية والمعنوية، ولن يكون في نفس الوقت لقمة سهلة وصائغة لمن يريد أن يضعه في كماشته وتحت جلباب استبداد مخزني أو أصولي.إن ما يميز حزب التقدم والاشتراكية تاريخيا، وما جعله يؤسس لمدرسة سياسية متميزة هو الشجاعة السياسية والفكرية في الدفاع عن آرائه ومواقفه والتعبير عنها بوضوح والتزامه بالقضايا الحقيقية للوطن والشعب. والدود عن مصالحه العليا دون خوف أو تردد وهو ما يفرض رفع الصوت عاليا للجهر بحقيقة الأمور خاصة من لدن “ضحايا الزلزال” الذي عادة ما يدمر الأخضر واليابس ويقضي على كل أشكال الحياة ويترك جراحا غائرة في النفوس، ويأتي كذلك على الهش ويصدع المتين ليصبح هشا يتداعى وينهار مع ابسط ارتدادات الزلزال، الذي كان بالأحرى أن يكون ثورة وبريستريوكا لتقوية البناء السياسي والمؤسساتي وبداية لوضع أسس نموذج اقتصادي واجتماعي يضمن الحد الأدنى للتوزيع العادل للثروات ويقعد للعدالة الاجتماعية ويكرس احترام الحقوق والحريات ويقطع مع الاعتقال السياسي بإطلاق صراح كافة المعتقين السياسيين وفي مقدمتهم معتقلي حراك الريف ومعتقلي احتجاجات العطش.

إن المستقبل السياسي والديمقراطي للمغرب لا يبدوا واضحا بسبب حالة الجزر والتراجع الذي يهدد محاولات البناء الديمقراطي المتعثر والهش، الذي من أبرز عناوينه تبخيس العمل السياسي والتدخل المفضوح في الشؤون الداخلية للأحزاب وفرض قيادات حزبية ذيلية تفتقد للحد الأدنى من المشروعية والشرعية التنظيمية والسياسية والنضالية مما يسهل عملية تمركز القرار السياسي ويفرغ المؤسسات من محتواها، ويعيد إنتاج الاستبداد في تلفيف ديمقراطي.