القدس هي مهد الحضارات الإنسانية والديانات السماوية تشهد بذلك مجموعة من المآثر التاريخية والدينية التي تنتصب شامخة تتحدى الإنسان والزمان في هذه المدينة المقدسة كالمسجد الأقصى وقبة الصخرة وحائط البراق والكنيسة اليسوعية وكنيسة القيامة…إضافة إلى أبوابها التاريخية كباب الأسباط وباب العمود وباب النبي داوود وباب الخليل وباب المغاربة…

القدس كذلك، وهذا هو الأهم، مهد الحقيقة التاريخية التي لا غبار عليها، الحقيقة التي تعمل وسائل الإعلام الغربية ليل نهار على محوها من الذاكرة العربية الإسلامية وتختزلها في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي حول الأرض فقط. في حين أن جوهر القضية أعمق وأعقد من ذلك بكثير.

إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مؤخرا بان القدس هي عاصمة الكيان الصهيوني ليس شيئا جديدا في التاريخ لان فصول هذه التراجيديا موغلة في القدم، في التاريخ القديم قبل الحديث.

ولكي لا نحول هذه المقالة إلى سرد مطول في الأحداث التاريخية الغابرة، سنجعل نقطة انطلاقنا من القرن 19 وبالضبط من أول مؤتمر للحركة الصهيونية بدعوة من منظرها تيودور هرتزل سنة 1897 والذي اقر بحق اليهود في دولة تقام على الأراضي الفلسطينية التي كانت تصادر من قبل ذلك وتباع إلى عائلة روتشيلد المعروفة منذ سنة 1882 .

ما يهمنا من هذا التحديد الزمني هو ما قبل وما بعد هذا المؤتمر. ما قبله وصولا إلى سقوط بغداد والمعروف بالعهد العثماني، وما بعده إلى اليوم. وسنقف عند الجانب السياسي أساسا لأنه مربض الفرس.

لكن وقبل ذلك، نحيل القارئ الكريم إلى كتابين في الموضوع تفاديا لسوء الفهم أو السقوط في التأويل الايديولوجي للحوادث التاريخية.

1- المفكر الفرنسي المنبوذ منذ 1982 بسبب كتابه Les Mythes fondateurs de la politique israélienne, Roger Garaudy

2- كتاب ″الحلقة المفقودة من تاريخ العرب″ لمحمد جميل بيهم.

والقاعدة التاريخية المستخلصة من استقراء الكتابين هي كالتالي: 

كلما كانت الأنظمة السياسية في العالم العربي الإسلامي بئيسة ومهترئة وبعيدة عن تطلعات وطموحات الشعوب العربية الإسلامية من عدالة وحرية ومساواة، كلما استيقظت نوايا الغرب الاستعمارية من سباتها وتحرك التحالف المسيحي- اليهودي، والصهيوني في العصر الحديث، للاستيلاء على المدينة المقدسة.

هكذا ودون مواربة أو مساحيق لغوية وتعبيرية تجميلية للحضارة الغربية التي تقصف الآذان بحقوق الإنسان لكنها تنتهك هذه الحقوق يوميا وعلى مرأى ومسمع من العالم كلما تعارضت مع مصالحها الاقتصادية والسياسية.

لنقل هذا الأمر بصراحة أكثر وبتعبير آخر:

لا يمكن تحرير الشعب الفلسطيني والأراضي المقدسة من الاستعمار الصهيوني إلا إذا تحررت كافة الشعوب العربية الإسلامية من ربقة الأنظمة السياسية الفاسدة التي رهنت بقاءها في الحكم ببقاء هذا الكيان الصهيوني الدخيل والغريب في الجسم العربي الإسلامي.

ومن ايجابيات الرئيس الأمريكي ترامب انه يسمي الأسماء بمسمياتها ولا ينافق، وقد صرح وزير إسرائيلي بان قرار إعلان القدس عاصمة للكيان الصهيوني قد تم بموافقة وتنسيق ومباركة من بعض القادة العرب، ولا داعي لذكر الأسماء فالتاريخ كشاف!

فهل نحتاج بعد هذا إلى دليل على مدى الانحطاط والتعفن الذي آلت إليه الأنظمة السياسية العربية الإسلامية؟

هذا السيناريو تكرر كثيرا إلى حد الملل خلال الفترة الممتدة من نهاية الحكم العباسي إلى قيام الحرب العالمية الأولى وسقوط فلسطين في يد الحركة الصهيونية. وأسماء ″القيادات″ السياسية المسؤولة عن هذا السقوط مذكورة في الكتاب أعلاه والذي يصور قمة الانحلال والتسيب السياسي الذي عاشه العالم العربي الإسلامي رغم الحكم العثماني ومحاولاته اليائسة لتوحيد وجمع كلمة الجزر المتناحرة في الشرق الأوسط كما في المغرب الأقصى.

كتاب المفكر الفرنسي روجيه جارودي والقريب منا أكثر، يضعنا أمام نفس الأسئلة المحرجة ونفس الحقائق التي يهرب منها الجميع.

1- كيف ساهمت الأنظمة السياسية العربية الإسلامية في زرع وبقاء وتقوية الكيان الصهيوني بالمنطقة؟

2- ما نوع العلاقة العضوية والوظيفية التي تجمع النخب الحاكمة بهذا الكيان الدخيل؟

3- ما مدى مساهمة هذا الكيان الغاصب في بقاء هذه الأنظمة الاستبدادية الجاثمة منذ قرنين على صدور الشعوب العربية الإسلامية؟

إعلان القدس عاصمة للكيان الصهيوني إذن ليس سوى الشجرة التي تخفي الغابة، وليس إلا مرحلة من مراحل الانبطاح والخذلان التاريخيين للأنظمة السياسية المتهالكة، وما سيأتي أخطر بكثير في حال استسلمت الشعوب العربية الإسلامية وأسلمت رقابها إلى هذه النخب السياسية العميلة للتحالف المسيحي-اليهودي الصهيوني.