عندما تنهّد أبو عبد الله الصّغير الصّعدَاء على غرناطة الحَمرَاء
يشير الكاتب الإسباني ” أنطونيوغالا” أنّه إكتشف أنّ أبا عبد الله الصغيرآخر ملوك بني نصر فى غرناطة قد أصبح في عيون الباحثين، والمؤرّخين، والناس مُخادعاً، مُتخاذلاً جباناً، فهذه كتب التاريخ تصف لنا لحظة التسليم المذلّ فتقول: ” وافق أبو عبد الله الصّغير على شروط التسليم، ولم يكن في مقدوره إلاّ أن يوافق، وتنازل عن آخر معقل المسلمين بالأندلس، ووقف مع ثلة من فرسانه بسفح جبل الرّيحان، فلمّا مرّ موكبُ الملكيْن الكاثوليكيْين (فيرناندو وإسابيل) تقدّم فسلّم لهما مفاتيحَ المدينة،ثم لوى عنانَ جواده مولياً، ووقف من بعيد يودّع مُلكاً ذهب، ومجداً ضاع،وكان هو بأعماله وسوء رأيه سبباً في التعجيل بضياعه “. و كانت كلمات أمّه خيرَ ما يمكن أن يوجّه إليه في هذا المقام، فقد رأته يبكي فقالت له: ” إبكِ مثلَ النّساء مُلكاً مُضاعاً لم تحافظ عليه مثلَ الرّجال”!، وما زالت الرّبوة،أو الهضبة أوالأكمة التي ألقي منها آخرَ نظرةٍ على غرناطة وقصر الحمراء ثمّ تنهّد الصّعداء فيها حيث عاتبته أمّه، تُسمّىَ باسمه حتى اليوم Suspiro del Moro El..!.من الأعمال التي عالجت هذا الموضوع الذي أصبح يشكّل شبه أسطورة فى الأدب الإسباني كتاب “ليوناردُو فِيّينا” الذي يحمل عنوان ” آخر تنهيدة للملك أبي عبد الله”.
آراء أخرى
الإحتفالات التي كانت قد جرت فى غرناطة فى 2 يناير من العام الفارط 2017 إحياءً لذكرى مرور 525 حولاً على تسليم آخر ملوك بني الأحمر السلطان أبي عبد الله الصغير لآخر معاقل الإسلام فى الأندلس مدينة غرناطة للملكيْن الكاثولكييْن فرناندو وإيزابيل كانت قد أثارت ردودَ فعلٍ متباينة بين مؤيّديها ومناهضيها ،فقد إستغلّت – الناطقة الرّسمية للحزب الشعبي الحاكم السابقة فى بلدية مدريد ” إسبيرانسا أغيرِّي” التي سبق لها أن تقلّدت مناصب عليا ورفيعة فى الدولة مع حزبها فى مستوى وزيرة – هذه المناسبة وأدلت بتصريحاتٍ شوفينية وعدائية ضدّ الإسلام، فقالت بالحرف الواحد :” فى هذا اليوم 2 يناير مرّت 525 عاماً على إسترجاع غرناطة من طرف الملكيْن الكاثولكييْن .. إنه يوم المجد للإسبان جميعاً ، فمع الإسلام لن تكون لنا حرية “. وكانت تصريحاتها فى هذا القبيل قد خلّفت موجة عارمة من الإنتقادات السّاخطة،والسّاخرة، واللاّذعة ضدّها فى مختلف الواجهات ، فى الصّحافة والإعلام ، وفى وسائل التواصل الإجتماعية على تباينها، من طرف المثقفين ، والكتّاب، والسياسيّين، والقرّاء داخل إسبانيا وخارجها.
الإحتفالات بين مُؤيّديها ومُعارضيها
وفى يوم 2 ينايرمن الشهر الجاري (2018) تمّ كذلك الإحتفال التقليدي الذي يقام بهذه المناسبة فى مدينة غرناطة ليعيد إلى الأذهان ذكرى سقوط هذه المدينة فى هذا التاريخ من عام 1492 أي منذ 526 عاماً خلت فى أيدي الملكيْن الكاثولكيْين فرناندو وإيسابيل المعروفيْن بتعصّبهما الأعمى وعدائهما للإسلام والمسلمين، وقد حرصت السلطات المحلية بالمدينة على عدم السماح للمشاركين فى هذه الإحتفالات إستعمال الشعارات العدائية ،واللاّفتات العنصرية، ورفع أعلام المناطق الإسبانية الجهوية المطالبة بالإنفصال، وكل ما من شأنه أن يحثّ أو يحرّض على العداء والكراهية..! وتباينت الآراء والمواقف بين السياسيين المحليين بين مؤيّدين ومعارضين حول هذا الإحتفال وجدواه أوعبثيته ، وكان عمدة مدينة غرناطة فرانسيسكو كْوِينكا (من الحزب الإشتراكي العمّالي الإسباني) المناهض صراحة لهذا الإحتفال قد صرّح فى هذا القبيل : ” أن 2 ينايرلا يقدّم لنا أيَّ قيم ديمقراطية ،وهذا الإحتفال تستغلّه جماعات متطرفة موغلة فى الحقد المجّاني، علماً أنّ مدينة غرناطة لم يتمّ إسترجاعها أبداً، بل تمّ تسليمها فى أجواء سلمية للملكيْن الكاثولكييْن ،والإتفاقيات التي أبرمت خلال هذا التسليم بين الطرفين لم تُحترم ولم تُطبّق أبداً “. تعالت أصوات مناهضة لهذه الإحتفالات وتمّ تلاوة بيان مفاده أنّ : “هؤلاء الذين أُبْعِدوا وطُردوا وأُخرِجُوا من ديارهم فى هذا التاريخ وبعده لم يكونوا عرباً أو أمازيغ، بل كانوا غرناطيين مثلنا..إننا لم نأت لإضرام الضغائن، وتأجيج الأحقاد حيال التاريخ بل لنعترف، ونعالج جروح الماضي بيننا لإقامة مزيدٍ من التقارب، والتفاهم، والتثاقف، والحوار، نريد أن نقرأ التاريخ ونستخرج منه العناصر الصالحة لنا جميعاً “.
أبو عبد الله الصّغير هل هو مُنقذ الحمراء ؟!
هناك رّأي جريئ أدلت به الكاتبة الإسبانية ” ماغدالينا لاَسَالَا” حيث ترى أنه خلافاً لما نُشر عن هذا الموضوع الشّائك ،وسال حوله حبر غزير: أنّ أبا عبد الله الصّغيرعلى العكس ممّا قيل فيه، وأشيع عنه بخصوص موقفه المُهين بتسليمه مدينة غرناطة للملكيْن الكاثولكييم فرناندو وإيزابيل كان رجلاً شجاعاً ، لأنه كان يعرف أنه كان بمثابة الحَجرة الأخيرة في طريقٍ كان لابدّ له أن يُعبّد . كان يعلم بأنه يمثل نهاية حقبة، وبأنه لا يستطيع منافسة أو مواجهة تقدّم جحافل الجيوش القشتالية، وإعداداتها العسكرية الهائلة.كان يعلم أنّ أيامه معدودة. لقد أنقذ أبو عبد الله الصغير معلمة الحمراء. كان يدرك تمام الإدراك،ويعي تمام الوعي كيف أنّ فرناندو الكاثوليكي الأراغوني المتعنّت لم يكن يقف شيء أو عائق في طريقه، فقد أخضع فى جميع غزواته السّابقة مختلفَ المدن التي مرّ بها بعد حصارات دمويّة طويلة. الشيء الوحيد الذي كان فى إستطاعة أبي عبد الله القيام به فى النهاية هو إنقاذ قصر الحمراء من الدمار. إذ أنه لو لم يكن قد سلّم مفاتيحَ المدينة في ذلك الموقف المذلّ للملكيْن الكاثوليكيْين وإقتحمت جيوشُهما القصور، لمَا كان اليوم فى وقتنا الحاضر وجود للحمراء “.
أنطونيُو غَالاَ وتسليم غرناطة
ترى .. كيف ينظر المثقفون الإسبان الكبار الذين لهم وزنهم فى الأوساط الثقافية داخل إسبانيا وخارجها إلى هذه الإحتفالات..؟ كمثال لما يراه هؤلاء المثقفون الإسبان فى هذا الخصوص نذكّر – على سبيل المثال وليس الحصر – بما قاله الكاتب، والشاعر، والرّوائي الإسباني المعروف ” أنطونيوغالا ” فى هذا القبيل :إنه يشير:” أنّه فى مرحلة بداية إراقة الدّم في إسبانيا أيّ في نفس يوم 2 ينايرمن عام 1492، عندما تمّ تسليم غرناطة للملكيْن فرناندو وإيزابيل من طرف آخر ملوك بني الأحمر أبى عبد الله الصّغير، أصبحت إسبانيا فقيرة، ومنعزلة،وهرمة لمدّة قرون، بعد أن أفلت شمس الحضارات السّامية العربية فيها ،عندئذٍ إنتهى عصرُ العِلم، والحِكمة، والفنون، والثقافة الرّفيعة، والذّوق، والتهذيب، وتمّ مزج كلّ ما هو قوطي وروماني بالمعارف العربية البليغة ، وكان هؤلاء الذين يطلقون عليه غزواً ، لا يدركون أنه كان في الواقع فتحاً ثقافياً أكثر من أيّ شيء آخر،ممّا جعل الاسبانَ يسبقون عصرَ النهضة بحوالي قرنين، إلاّ أنه بعد الثاني من يناير 1492 إنتهى كلّ شيء، أفل ذاك الإشعاع،وخبَا ذاك الشّعاع، وتداعت إدارة الاقتصاد، والفلاحة، وكذا الأعمال والأشغال المتواضعة التي كان يقوم بها العرب والأمازيغ فضلاً عن اليهود، وظلت إسبانيا بعد ذلك التاريخ تافهة مكروبة، ومغمومة،ومخذولة، وكان عليها أن تنظر إلى الخارج، ومن ثمّ كان ما يُسمّى ب”الإكتشاف”. ويضيف “غالا ” :”أنّ مكتبة قصرالحمراء كان أكبر قسط منها يتألف من مكتبة “مدينة الزّهراء” التي كان بها ما ينيف على 600000 مجلّد، وقد أحرقها (الكاردينال سيسنيروس) عام 1501 في مكانٍ يُسمّى “باب الرّملة ” بمدينة غرناطة،( أصبح هذا المكان اليوم ساحة تحمل نفس الإسم العربي القديم)فاختفت العديد من الوثائق، والمخطوطات، والمظانّ، وأمّهات الكتب النفيسة والغميسة التي أبدعها علماءُ أجلاّء في مختلف فروع المعارف في الأندلس “، ويُقال إنّ الجنود الذين كُلّفوا بالقيام بهذه المهمّة كانوا يُخفون بعضَ هذه المخطوطات أثناء إضرامهم النارَ فيها في أرديتهم لفرط جمالها،وروعتها، إذ كان معظمها مكتوباً بماء الذّهب والفضّة، آية في الرّونق والبهاء، ويا لعجائب المُصادفات، وغرائب المتناقضات، ففي نفس المدينة التي نُقل إليها ما تبقّى هذه الذّخائر والنفائس(حوالي 4000 مخطوط) التى نجت من الحرق وهي مدينة “قلعة النهر”(ألكَالاَ دِي إيناريسْ) وتمّ إيداعها في نفس الجامعة التي أسّسها الكاردينال سيسنيروس نفسُه بها،فى هذه المدينة سيولد فيما بعد الكاتبُ الإسبانيّ العالميّ ” ميغيل دي سيرفانتيس” صاحب رواية “دون كيشوت”الشّهيرة المُستوحاة فى غالبيتها من التراث العربي ،كما يؤكّد معظم الدّارسين الثقات في هذا القبيل.
غالا وحضارة الأندلس
وأشير بهذه المناسبة أن هذا الكاتب أعاد توضيح الحقائق التاريخية حول مدى تأثير الحضارة واللغة العربية في الحضارة والنفسية الاسبانية، وقال في العديد من المناسبات، وما زال يقول إنه بدون الثقافة العربية والإسلامية لا يمكن فهم إسبانيا.
و”أنطونيو غالا” كثيراً ما يتعرّض في أحاديثه ومداخلاته، بل وفي كتبه ومؤلفاته شعراً ونثراً إلى الوجود العربي والاسلامي في إسبانيا، والإشعاع الحضاري للمسلمين الذي عرفته الأندلس أيامهم. إنّه يقول فى هذا القبيل : ‘إذا سُئلت ما هي الأندلس..؟ لقلتُ إنها عصيرغازي يساعد على هضم كل ما يُعطىَ لها حتى لو كان حجراً، فقد مرّت من هنا مختلف الثقافات بكل معارفها وعلومها، إلاّ أنّ الثقافة العربية والإسلامية في إسبانيا كانت من أغنى الثقافات الإنسانية ثراءً وتنوّعاً، وتألقاً وإشعاعاً التي عرفتها شبه الجزيرة الإيبيرية على امتداد الأندلس، بالتالي فهي بحقّ منارة علم وحضارة وعرفان قلّ نظيرها في تاريخها الطويل، وكانت الإسبانية لغتين: لاتينية وعربية. بعد الملوك الكاثوليك الذين تمّ الإحتفال بهم وبإستلامهم لمدينة غرناطة، جاءت محاكم التفتيش الفظيعة في أعقاب ما سمّي بـ: “حروب الإسترداد” التي كانت في الواقع حروباً للاستعباد والاستبداد والتي تركت جروحاً عميقة في الجسم الاسباني (وهذه الجروح لم تلتئم حتى اليوم) فإسبانيا ظلت هي ذَنَب أوروبا غير المسلوخ، هي أوربا كذلك ولكن بطريقة أخرى، فهناك جبال البرانس التي توصد الأبواب بيننا وبين العالم الأوربي، وهناك البحرالأبيض المتوسّط من الأسفل، فإسبانيا وكأنها تشكل قدراً جغرافياً، وهي ممرّ أوربا نحو افريقيا. ولإسبانيا اليوم سفاراتان كبيرتان ينبغي لها أن توليهما أهمية خاصّة، وهما العالم العربي ، والعالم الأمريكي، فقد أورثها التاريخ هذه المهمّة الصعبة، وهي (أيّ إسبانيا) إذا لم تضطلع بهذا الدور فإنما تخون نفسَها وتخون شعبَها والتاريخ. ويشير” غالا” أن اللغة بالنسبة له ،أساسيّة بل إنها هوسُه وقدرُه، وهو يعمل محاطاً بالعديد من القواميس، فاللغة الاسبانية في نظره، لغتان أو فرعان إثنان، فرع ينحدر من اللغة اللاّتينية، وفرع آخر ينحدر من اللغة العربية لدرجة تبعث القشعريرة في الجسم.
أجمل المعاني والأشياء
ويشيرأنطونيو غالا: “أنه خلال قراءاته المتنوّعة العديدة، أو عند كتابته لأيّ مؤلّف جديد حول الحضارة العربية، فإنه يكتشف كلّ يوم حقائق مثيرة تدعو للتفكير والتأمّل والإعجاب حقاً. فأجمل المعاني والأشياء في إسبانيا جاءت من الحضارة العربية الإسلامية، بل إنّ أجمل المهن وأغربها وأدقّها وأروعها، وكذلك ميادين تنظيم الادارة، والجيوش، والفلاحة، والملاحة، والطبّ، والاقتصاد، والعمارة، والبستنة،والريّ، وتصنيف الألوان، والأحجار الكريمة، والمهن المتواضعة، كلّ هذه الاشياء التي نفخر بها نحن اليوم في إسبانيا، تأتي وتنحدر من اللغة العربية وحضارتها، وهذا لم يحدث من باب الصدفة أو الإعتباط، فالعرب والأمازيغ أقاموا في هذه الديار زهاء ثمانية قرون، وظللنا نحن نحاربهم ثمانية قرون لإخراجهم، وطردهم من شبه الجزيرة الإيبيرية، فكيف يمكن للمرء أن يُحارب نفسَه؟ ذلك أن هذه الحضارة المتألقة كانت قد تغلغلت في روح كلّ إسباني، فبدون هذه الحضارة لا يمكن فهم إسبانيا، ولا كلّ ما هو إسباني بل لا يمكننا أن نفهم حتى اللغة الإسبانية ذاتها”.ويضيف” أنطونيو غالا”: أن هذه الحقيقة تصدم البعض،إلاّ أنّهم اذا أعملوا النظر، وتأمّلوا جيّداً ومليّاً في هذا الشأن فلا بدّ أنهم سيقبلون بهذه الحقيقة بدون ريب، فالبراهين قائمة، والحجج دامغة في هذا القبيل.
حضارة بهرت العالم
ويقول” غالا ” :إن الذي حدث في إسبانيا ليس إكتشافاً أو إستعمارً مثلما هو عليه الشأن في أمريكا،فالذي حدث هنا كان فتحاً ثقافياً جليّاً،إنه شيء يشبه المعجزة التي تبعث على الإعجاب والانبهار اللذين يغشيان المرء بعد كل معجزة، فقد وصل العرب والبربر إلى إسبانيا وهم يحملون معهم ذلك العطر الشرقي العبق الفوّاح الذي كانت الأندلس تعرفه من قبل عن طريق الفينيقيين والإغريق، وصل العرب بذلك العطر الشرقي والبيزنطي، ووجدوا في الأندلس ذلك العطر الرّوماني حيث نتج فيما بعد أو تفتّق وإنبثق عطر أو سحر جديد من جرّاء الاختلاط ،والتجانس، والتنوّع، والتمازج الذى بهر العالمَ المعروف في ذلك الحين. لم يدخل العرب والأمازيغ البربر شبه الجزيرة الإيبيرية بواسطة الحصان وحسب، بل إنّهم دخلوها فاتحين، مكتشفين، ناشرين لأضواء المعرفة وشعاع العلم والأدب والشعر والحكمة والعرفان، فقد كان كشفاً أو إكتشافاً ثقافياً خالصاً.
و يضيف” غالا”: “هنا يكمن الفرق بين الذي ينبغي لنا أن نضعه في الحسبان للإجابة عن ذلك التساؤل الدائم: لماذا لم تلتئم القروح، ولم تندمل الجروح بعد في أمريكا اللاتينية حتى اليوم؟” ويتعجّب “أنطونيو غالا” من إسبانيا اليوم “التي تقف في وجه كل ما هو أجنبي وتنبذه وتصدّه فالشعب الاسباني تجري في عروقه مختلف الدّماء والسّلالات، والأجناس، والأعراق، والإثنيات،ومع ذلك ما زالت إسبانيا تظهراليوم بمظهرالعنصرية وتدّعي أنّها براء من أيّ دم أجنبي”
ويشير “غالا ” بسخرية مبطّنة لاذعة إلى:” أنّ أيّ إسباني من مملكة قشتالة لم يكن في مقدوره أن يقوم بأيّ أعمال يدوية بارعة ،كما لم يكن في إمكانه زراعة الأرض المترامية الأطراف أمامه بحنكة ومهارة، وهذا هو السّبب الذي أدّى أو أفضى الى إكتشاف أمريكا، أو ما سُمّي فيما بعد بالعالم الجديد. فجميع هؤلاء الذين لم يكونوا يحبّون القيام بأيّ عمل كان عليهم أن يذهبوا وينتشروا في الأرض مكتشفين، وكان الإسبانيّون شعباً محارباً، فهم يتدرّبون منذ ثمانمائة سنة، وكانوا باستمرار ينتظرون ويتحيّنون الفرصة المواتية للإنقضاض على الغنائم بعد هذه الحروب الطويلة الضروس، ومن هنا ذهبوا بحثاً عن أرض بِكر تعجّ بالغنىَ، والثراء، والثروات، وكانت هذه الأرض هي أمريكا.
ويرى “أنطونيوغالا”: ” أنّ إسبانيا في البلدان التي “غزتها” إتّسمت بالعنف،والتنكيل، والجبروت، والقهر والغِلظة، ولم تعتبر الشعوب فيها شعوباً مسيحية بالمعنى الصحيح للكلمة، وقد نزعت عن هذه الديانة كلَّ صفةٍ للرّحمة والرّأفة والشّفقة، وهكذا أصبحت الكاثوليكية اليوم في هذه الأصقاع النائية من العالم أبعدَ ما تكون عن رسالة المسيح”.
الأندلس.. الفِرْدَوْسُ غير المَفْقُود !
هل يحقّ لنا ويجوز- والحالة هذه – أن نسمّي (الأندلس) “بالفردوس المفقود”… !؟ فقد سمّوه فردوساً، ولكنّه ليس مفقوداً كما وُهِمُوا، بل إنّه هنا موجود، حاضر الكيان،قائم الذات،إنّه هنا بسِيَرِه وأسواره،وبقاياه وآثاره، ونفائسه وذخائره،إنّه هنا بعاداته وطبائعه، فى عوائده وأهوائه،إنّه هنا فى البريق المشعّ، فى المدائن، والضّيع، والوديان،فى اللغة والشّعر، والعلم والأدب، فى لهجة القرويّ النّائي،والفلاّح المغمور،إنّه هنا فى الإباء الذي يميّز العربَ الأقحاحَ، وإخوانَهم الأمازيغ الصّناديد الأحرارالذين أقاموا معاً صرحَ حضارة مشعّة أنارت دياجي الظلام فى أوربّا دهرئذٍ ،إنّها هنا فى النّخوة ، والإباء ،والحزازات القديمة،التي ما تزال تفعل فى ذويها فعلَ العُجْب !. الأندلس.. أيُّ سرّ أنت كائن فينا وبيننا ؟ أيّ سحر أنت تائه فى طيّات الألسن، ومخادع القلوب.. ؟.. يتساءلون وقد علت جباهَهم علائمُ الشّدوه، وأماراتُ السُّؤْل، كيف حدث ذلك ..؟ كيف إستطاعت سنابكُ خيولهم المُسوّمة بقيادة طارق المغوار أن تطأ ثرى هذه الأرض البكر،وأن تُقام واحدة من أكبر الحضارات الإنسانية إزدهاراً وتالّقا ، وسطوعاً ،وتوهّجا أشعّت على العالم المعروف فى ذلك الإبّان…؟
يتساءلون كيف تسنّى لهؤلاء القوم الغُبْر الوِشاح، البُداةُ الجُفاةُ أن يضطلعوا بكلّ ذلك؟ وتزداد حيرتُهم ، ويتفاقم ذهولُهم ، كيف دانت لهم الدّنيا، ودالت لهم الدّول..؟ كيف أمكن لهم أن يروّعوا كسرى فى إيوانه ..؟ وأن يجعلوا الرّومانَ يفرّون تحت وخزات الرّماح ،ووطأة السلاح، وثقل الصّفاح ..؟ إنّهم ليسوا قوماً قساةً ،عتاةً ، جفاةً ،كما وُهِموا ، بل إنهم مُبشّرون بحضارة وعلم وتاريخ وعمران. هذه الجزيرة المحروسة التي هاموا بعقيانها هياماً ، ثمّ سرعان ما خبت الضّياء، وجفّت المآقي، هذه الواسطة فى عقدٍ من جُمان، مُرصّعة فى جيد الزّمان، كيف وهنت قلادُتها ..؟ وتناثرت حبّاتُها ، وانفرط عقدُها ..؟ وتحوّلت إلى عَبَرات حرّى تبكي العهدَ والجدَّ والدار.. ؟!
هكذا كانت البداية ثمّ أفلت الشمسُ بدون شروق قريب، وغاض النّبعُ الرّقراق،ولم يبق سوى وميض خافت نتلمّسه هنا وهناك ، سرعان ما تحوّل إلى بريق مشعّ قويّ نفّاّذ ، تراه فى هذه الأعين النّجل ، والحواجب المُزجّجة، ذات الملامح العربية، والأمازيغيّة الأصيلة، والمولّدة ،والقسَمات الدقيقة،التي تحملك فى رمشة عين إلى أعماق الجزيرة الأولى، أو إلى جنان الرُّصافة والجِسر،أو تتيه بك فى غياهب المسافات السّرمدية اللاّمرئية.
قال” بلاسكو إبانييز”: ” كانت الأندلس في ذلك العهد كالولايات المتّحدة الأمريكية، يعيش فيها المسلم، والمسيحي، واليهودي بحرية تامّة ومن غير تعصّب،و عندما كانت دول أوربا تتطاحن،وتتقاتل في حروب دينية وإقليمية فيما بينها، كان المسلمون، والمسيحيون، واليهود يعيشون فى سلام كتلةً واحدة، وأمّة واحدة،فزاد سكان البلاد ، وإرتقى فيها الفنّ، وإزدهرت العلوم، وأسّست الجامعات. سَكَنَ ملوكُها القصورَ، وعاش شعبُها في الرّخاء، بينما كان ملوك بلدان الشمال يبيتون في قلاعٍ صخريّة سوداء،و كانت شعوبها تعيش في أحقر المنازل” .