الحراك الاحتجاجي بين المركز والأطراف
تميزت الفترة الممتدة بين 2016 / 2017 بتسجيل العديد من الاحتقانات الاجتماعية في بعض المدن المغربية الصغيرة والمتوسطة كصفرو وسيدي افني و تازة وزاكورة، وبلغت هذه الاحتقانات درجة من القوة والاستماتة في الحسيمة، ومؤخرا في جرادة. ورغم أننا نفتقر حاليا للمسافة الزمنية الضرورية للتفكير الموضوعي والهادئ في كل ما حدث ويحدث، فإنه يمكن الانطلاق من فرضية أن العوامل العامة المسببة لتلك الاحتجاجات تعود أساسا إلى التهميش والإقصاء والعزلة؛ وخصوصا إلى الفقر والى العجز الملاحظ في تدبير السياسات العمومية المحلية؛ وأيضا الى فشل النموذج التنموي؛ وضعف التماسك الاجتماعي. أما عن الشرارة التي أشعلت نيران الاحتقان وساهمت في استمراره في كل من الحسيمة وجرادة فتعود، كما هو معروف، إلى حادثة الموت المفجع والقاسي جدا لكل من سماك الحسيمة ( محسن فكري)، والأخوين فقيدي منجم الفحم العشوائي في جرادة. فمكر الصدف جعل هذا الموت القاسي في الحالتين يتحول إلى طاقة ميتافزيقية للتعبئة والحشد للاحتجاج وللحراك. وقد تأتى ذلك بفعل الحضور المكثف للتاريخ ولرمزية الذاكرة بحمولتها الثقافية، في حالة حراك الحسيمة، ولحضور الجغرافيا والتنقيب العشوائي في تضاريسها ، في حالة انتفاضة جرادة.
آراء أخرى
لكن انشغالي في هذه المقالة لن يتعلق بتناول تفاصيل هذه الاحتجاجات الاجتماعية وأسلوب تدبيرها وتداعياتها ومآلها في المدى القريب، بل يتعلق أساسا بطرح إشكالية تطور الاحتجاجات والدلالات السوسيولوجية التي يحملها تغيير فضاءات ممارستها في جغرافيا المغرب وتاريخه. وهنا تطرح عدة أسئلة من قبيل: لماذا انتقل، في السنوات الأخيرة، الحراك الاحتجاجي من المدن الكبرى إلى المدن الصغيرة والمتوسطة في الأطراف المنسية؟ كيف تتحول الاحتجاجات المرتبطة ببعض ردود الأفعال الغاضبة إلى فعل احتجاجي، ثم إلى حركة اجتماعية تستقطب الحشود، وتحمل إرهاصات التغيير؟ كيف نفسر ظاهرة ميل الاحتجاجات في المدن الكبرى إلى التطبيع مع المنظومة الاقتصادية والسياسية واتجاهها لتبني أسلوب السلم الاجتماعي، وفي المقابل انتقال الغليان والحراك إلى الأطراف النائية الأكثر هشاشة؟ هل الأمر يتعلق بدورة الاحتجاج التي قد تظهر أحينا في غياب الفرص السياسية والشروط البنيوية؟ أم يتعلق الأمر بمجرد تبادل للأدوار بين المركز والمحيط؟ أم أن الأمر يتعلق بتكوين وعي جديد في المحيط، ناشئ عن الشعور بالمرارة والغبن من تراكم الإقصاء و” الحكرة”، نتيجة القسمة الجائرة للثروة الوطنية؟ وما هي رمزية انتقال الاحتجاج للأطراف؟ هل هو مؤشر للانسداد والترهل السياسي في المركز؟
وارتباطا بهذه الأسئلة، نلاحظ أن مجمل الحراك الاحتجاجي، منذ الستينيات من القرن العشرين، كان يتم في الغالب في المدن الكبرى، ذات الكثافة السكانية العالية، حيث تتركز الأنشطة الاقتصادية والمالية. وغالبا ما يتم تأطير تلك الاحتجاجات بمطالب ذات حمولة سياسية، تكون إما ضمنية أو صريحة. لكن حدثت تغييرات خلال السبعينيات والثمانينيات، بحيث اتخذ الحراك شكل انتفاضات غير مؤطرة سياسيا وتنظيميا. وقد شكل ذلك الإرهاصات الأولى لبداية التراجع التدريجي لمنسوب التنظيم والتأطير السياسي للحراك الاحتجاجي، لكن دون أن تقطع المطالب العامة للانتفاضات نهائيا مع الطابع السياسي الضمني.
أما مرحلة التسعينيات فقد امتازت بتوسع الحركات الاحتجاجية، التي ارتبطت بظهور مفهوم “الفضاء العام” في المغرب باعتباره، على حد تعبير الباحثة في علم الاجتماع السياسي نادية البعون، ” مجالا مستقلا عن الدولة وعن الحقل السياسي”. فالدولة كانت تنهج سياسة غض الطرف عن الاحتجاجات ذات الطبيعة الاجتماعية الصرفة، تظاهرا منها بمسايرة خطاب الدمقرطة والحقوق، ولكن في الحقيقة يعود الأمر إلى أن الاحتجاجات بهذا الشكل لم تعد تشكل أي تهديد لها، نظرا لضعف حمولتها السياسية، ولكونها تتم من دون أية وساطة حزبية. وقد ازداد تحييد الفضاء العام بفعل، ما تسميه ذات الباحثة، بتوفر “الظرفية المائعة” (conjoncture fluide) وهي ظرفية احتجاجية تتميز باشتراك فاعلين من مشارب إيديولوجية وسياسية متنوعة (يسارية ، إسلامية، يمينية، وسطية) في نفس الحركات الاحتجاجية، مما يقلص من مركزية السياسي فيها، ويفتح الباب أمام توافقات تكون مرتبطة بتحقيق مطالب اجتماعية واقتصادية بالدرجة الأولى. ففي سياق هذه الظرفية “السائلة” كانت تتم، في حقبة التسعينيات، احتجاجات متوالية لذوي الشهادات المعطلين أمام البرلمان، وكذلك الاحتجاجات التي ارتبطت بالخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية سنة2000، وغيرها. ولا زال تأثير هذه الظرفية مستمرا في العديد من الاحتجاجات، بما في ذلك حركة 20 فبراير، التي لم تسلم من التأثيرات السلبية “للظرفية المائعة”.
وكما يذهب لذلك عبد الرحمان رشيق في دراسته عن “الحركات الاحتجاجية بالمغرب، من التمرد إلى التظاهر”(2014)، فإن فهم مسار الاحتجاجات بالمغرب مرتبط بتطور أشكال الصراع السياسي وبتطور العلاقة بين الأجيال الفاعلة في هذا الصراع. وهكذا سنجد أنه في خضم احتدام الصراع بين الفاعلين السياسيين، منذ الستينيات، تبلورت إستراتيجية لدى الدولة تستهدف تحجيم الأحزاب السياسية وتدجينها وكبح قدراتها الاحتجاجية؛ فأدى ذلك إلى أن الحراك اتخذ شكل انتفاضات جماهيرية غير مؤطرة تنظيميا في بعض المدن الكبرى. فغالبا ما يتم استغلال تداعيات بعض القرارات اللاشعبية التي يتخذها بعض المسؤولين لتنفجر فئات المتضررين، إما في شكل احتجاج أو انتفاضة أو حراك. أما فيما يخص ديمومتها في الزمن فغالبا ما تكون محدودة، بحيث يتم إخمادها في أغلب الحالات بالقوة، فتخبو لتظهر من جديد بعد فترة قد تطول أو تقصر، لكن غياب التأطير السياسي لا يعني غياب الشعارات الحاملة للمضمون السياسي، مع رفع سقفها، أحيانا، أو خفضه، حسب ميزان القوة، وحسب تموقع الفاعلين. ومنذ 1965 كانت البدايات الأولى لحدوث مواجهة مباشرة بين الدولة والمنتفضين بعيدا عن وساطة الأحزاب السياسية، التي سوف تكتفي، في ما بعد، بالاستثمار السياسي لتلك الانتفاضات في تدعيم دورها التفاوضي أو تحقيق مكاسب سياسية.
لقد حققت الدولة مكاسب في الصراع أدت إلى تراجع القدرة التنظيمية للأحزاب، التي لم تعد تتصدر بشكل مكشوف الحراك الاحتجاجي، لكن مع ذلك ظلت الأجندات السياسية حاضرة في جل الانتفاضات خصوصا تلك التي تمت في سنوات 1965و1981 و1984 و1990.ويبرز ذلك من خلال الشعارات المطلبية التي كانت تتعلق بالإصلاحات السياسية والدستورية؛ وإصلاح منظومة التعليم؛ والحد من هيمنة نظام الإنتاج الرأسمالي ومقاومة التبعية وإرساء العدالة الاجتماعية والاشتراكية. أما الفاعلون في الحراك والانتفاضات فكانوا ينتمون في الغالب للطبقة الوسطى ( من فئة رجال التعليم والطلبة والتلاميذ والموظفين والتجار الصغار والفلاحين الصغار)، التي كانت تريد أن تلعب دورا في المشهد السياسي المغربي خلال العقود الأخيرة من القرن الماضي. وقد شكلت الفضاءات العمومية في مدن المركز المكان الذي احتضن تلك الاحتجاجات والانتفاضات.
غير أن البوادر الفعلية لبداية فك الارتباط بالمظلة السياسية بدأت في الحقيقة منذ نهاية التسعينات من القرن الماضي، حيث ظهر فتور في التعبئة السياسية، كما غابت الفرص السياسية المواتية. وقد تزامن ذلك مع إرساء التناوب التوافقي وما نتج عنه من احباطات أدت إلى تقليص تدريجي للثقة في الفاعل السياسي وفي المشروع السياسي برمته. وكانت تلك المرحلة فارقة في الوعي السياسي المغربي، لأنها سجلت لحظة بداية العودة إلى الفضاء الخاص( الفردانية)، وانطفاء جذوة الحماس الوطني السياسي، الذي تزامن مع المرحلة التي شهدت استقلال المغرب.
ومنذ تلك الفترة إلى الآن جرت مياه كثيرة تحت الجسر، وحدثت تحولات تميزت بعجز في السياسات العمومية وإقصاء النموذج التنموي المعتمد للأطراف المنسية، وضعف التماسك الاجتماعي والاندماج الوطني. كما تنامي العجز الاجتماعي وكبرت الفجوة المجالية بين المركز والأطراف، نتيجة استقواء المركز، وانسداد آفاق التشغيل، وضعف التنمية المحلية، وتراكم أصناف “الحكرة” والإحباط والشعور بالغبن. ومما زاد في الطين بلة قصور الجهوية الموسعة أمام فقر بعض الجهات المنسية، وغياب أي بديل اقتصادي يعوض ما ضاع من مكتسبات في بعض المناطق كجرادة مثلا حيث أصبح “الرغيف الأسود” هو الملاذ الأخير للساكنة.
لقد أدى تراكم الاحباطات وخيبات الأمل وانسداد الآفاق إلى خلق وضعية سيكولوجية سقط فيها جدار الخوف، وتم الانخراط في دينامية جديدة في المناطق المنسية تميزت بجرأة الاحتجاج في الفضاء العام.
هكذا انتقلت بؤر التوتر من المركز إلى المدن الصغرى في الأطراف النائية. وما تكاد تهدأ منطقة حتى يبدأ الغليان في أخرى ( من الحسيمة إلى جرادة مرورا بتندرارة واوطاط الحاج وزاكورة وغيرها من المناطق في الأطراف المنسية). فمطلب ” الكرامة أولا ” جعل اليوم من الظاهرة الاحتجاجية في الأطراف الهامشية معطى موضوعي موجود، وذلك لأن هذا الحراك الاحتجاجي يشكل قطيعة مع ما كان سائدا في مدن الهامش من ركود وانتظارية. كما أن من خصوصية شعاراته ومطالبه أنها أخذت مسافة عن الطابع السياسي المباشر، مفضلة التركيز على ما هو اجتماعي واقتصادي وثقافي، وعلى كل ما يمت بصلة بضمان العيش الكريم، مع اللجوء إلى أساليب مستجدة وغير مسبوقة للنضال من أجل تحقيق مطلب الكرامة. كما تم فرز قيادات ميدانية محلية وشعبية بعيدا عن كل تعبئة حزبية أو أي دعم من المركز، أو أية جهة خارجية.
نحن، إذن، أمام جيل جديد من الحراك الاحتجاجي في الأطراف المنسية ينأى بنفسه عن السياسة الحزبية الضيقة وعن الاستراتيجيات الغامضة، ويلتف حول مطلب “الكرامة أولا”. وهذا الوعي الجديد الناشئ أصبح ينظر لمطلب “الكرامة” على أساس أنه مرتبط بالحق في العيش الكريم، في مغرب تتحقق فيه العدالة الاجتماعية والمجالية. لقد انتهت المرحلة التي كانت فيها كل موارد المحيط وإمكاناته توظف في خدمة المركز وبدون مقابل. وجاءت الفرصة الآن لإسماع صوت من كان يصنف ضمن المغرب غير النافع. لقد كان الفقر في المناطق الهامشية، وطيلة عقود، مرادفا للخنوع وللقبول بالأمر الواقع. أما اليوم فإن الفقر الذي يبلغ حد خدش الكرامة لم يعد مقبولا، ولا يمكن التعايش معه.
أما عن سبب استقطاب المدن الصغرى الهامشية للحراك الاحتجاجي في الفترة الأخيرة، فمرده، كما سبقت الإشارة، إلى كون الفضاء العمومي بالمدن الكبرى قد تم تحييده سياسيا، بعد أن كان مراقبا أمنيا قبل التسعينيات، والفاعلون فيه أصبحوا يتحركون في إطار ضوابط محددة. كما أن السلطة أصبحت متمرسة على القيام بالتدبير التوقعي لهذا الفضاء العمومي، بحيث صار المشهد يخضع لإخراج مسبق ومتحكم فيه. فالدولة لم تعد تخشى استعمال الفضاء العام من طرف المحتجين في المركز، لأنها حققت نجاحا في تحييده، وذلك بإفراغ الاحتجاجات من أي طابع سياسي. إذن لقد تزامن تحييد الفضاء العمومي مع تحييد الاحتجاجات الاجتماعية. وهكذا كان يترأى للدولة أنها تتقوى كلما ضعفت الوساطة الحزبية، لأن المجال الحيوي والطبيعي لاشتغال المعارضة الحزبية هو، في الحقيقة، تأطير وقيادة الاحتجاجات.
ويختلف الأمر بالنسبة للفضاء العمومي في المدن الصغرى وفي الأطراف ( خصوصا حالة الحسيمة وجرادة)، حيث نلاحظ أن الحراك الاحتجاجي قد سجل تطورا نوعيا، حينما انتقل من مستوى الاحتجاج إلى مستوى الحركة الاجتماعية. وقد تأتى ذلك بفعل كون الدولة لم تتمكن بعد من التحكم في الفضاء العمومي في المدن الصغرى والأطراف وتحييده، كما وقع في المركز. ويعود السبب في ذلك إلى كون السياق هنا والمعطيات المحلية والجهوية لا تسعف الدولة في ممارسة التدبير التوقعي للفضاء العمومي في الأطراف الهامشية. كما يلعب الحضور المكثف للرموز التاريخية والثقافية في المخيال الفردي والجماعي المحلي دورا رئيسا في التعبئة، وفي الجاهزية، وفي الاستماتة في الحراك في الفضاءات العمومية. يضاف إلى كل ذلك أن الرابط الاجتماعي لا يزال قويا في المدن الصغرى؛ وأشكال التضامن الآلي لا تزال قائمة بحكم استمرارية الشبكات التقليدية في التعارف والتواصل والتآزر. وغير خاف أهمية هذا التضامن الآلي في التعبئة في المدن الصغرى، وهو الأمر الذي صار إلى زوال في المركز، كما بينا ذلك سابقا .
تشترك، إذن، احتجاجات وحراك الأطراف المنسية من جغرافية المغرب في الالتفاف حول أطر مرجعية اجتماعية وثقافية وقيمية، تجعلها قريبة من ملامح الحركة الاجتماعية، ونجمل أهمها في ما يلي:
ــ تثمين الهوية الثقافية والاجتماعية من خلال إثبات الذات وتمجيد الخصوصية المحلية والهوية الأصلية ( الأعلام والرموز المحلية)؛
ــ تَمَثل وجود جرح هوياتي (جرح غائر لم يندمل مع مرور الزمن) والانغلاق في ثنائية أصلية وجودية (الحياة أو الموت). لذلك نجد في الحراك تواتر أحد أكثر الشعارات جذرية وهو” الموت ولا المذلة “. ويدل ذلك على أن الحراك في الأطراف الهامشية ينهل، في غياب التأطير السياسي والنقابي، من مرجعية أصلية ضمنية تتأرجح بين ثنائية ميتافيزيقية إما الحياة وإما الموت؛
ــ الزمن الاحتجاجي/ الحراكي مستمر مع الاستماتة في الاحتجاج، دون تصور لأية إستراتيجية تفاوضية أو جدولة زمنية للمآل، والاستخفاف بالمخاطر مهما كانت؛
ـ الرغبة والسعي للاعتراف، بحيث يصبح الاندماج الوطني مرتبطا بالاعتراف إما بالرمزية التاريخية أو بالانتماء الترابي؛
ـ اعتبار الكرامة أعز ما يطلب، وما دونها فهو لا قيمة له، والمطالب الاجتماعية والاقتصادية هي وسائل وآليات فقط لبلوغ الغاية المنشودة وهي الكرامة؛
ـ فقدان الثقة في كل أشكال التمثيلية والتطلع لنوع من الديمقراطية المباشرة أو الإقدام على ” أخذ الحقوق باليد في الشارع” ورفض الوساطات التمثيلية التقليدية، مما يعيق أي شكل من التفاوض أو يؤدي به، حتى إن تم، إلى السقوط في مأزق؛
ـ توصيف الخصم بأنه عنيد ومتعدد الأقنعة، فهو إما أن يكون هو: الفساد أو الظلم أو السياسة أو الاستبداد أو الفقر أو المخزن…الخ، وأحينا كثيرة يتم اختزال كل ذلك في كلمة واحدة هي ” الحكرة “.
وتلتقي هذه المحددات المرجعية لثقافة الحراك الاحتجاجي في مدن الهامش المغربي، التي تبين الإطار المعرفي والقيمي الناظم للحراك، مع معطيات سوسيولوجية الحركات الاجتماعية، خصوصا النموذج التفسيري، الذي أورده السوسيولوجي الفرنسي آلان تورين (Alain Touraine) عند حديثه عن المبادئ الثلاثة الكفيلة بضمان التحول من الفعل الاجتماعي إلى الحراك الاجتماعي، وهي المبادئ المؤسِّسة لمفهوم الحركة الاجتماعية كحركة من أجل التغيير الاجتماعي، وهي: مبدأ الهوية( الذاتية والجماعية) ومبدأ التعارض( الخصم) ومبدأ الكلية ( الوعي الجمعي الشمولي). تأسيسا إذن على تحليل المرجعيات والسياقات والخطابات وآليات الاشتغال، يبدو أن الحراك الاحتجاجي في الأطراف الهامشية من المغرب، يتوفر على ملامح وعناصر التحول إلى حركة اجتماعية، تطمح إلى تغيير الأبيتوس المتحكم في علاقة المواطن بالسلطة.
وبعيدا عن بعض المقتربات النظرية التي تعتبر أن هناك خيوطا رفيعة بين السياسي والاجتماعي، وأن الفعل الاحتجاجي والحراكي هو فعل مركب ويتقاطع فيه البعدان معا، يمكن القول بأنه، باستثناء حراك 20 فبراير، الذي ارتبط بتوفر فرص سياسية مرتبطة بمتغيرات إقليمية، فإن الحراك المغربي الذي امتد في السنوات الأخيرة، إلى الأطراف المنسية أصبح يميل بالدرجة الأولى إلى الاستقطاب الاجتماعي والثقافي. وذلك بشكل مواز لتوارى ما هو سياسي إلى مراتب أقل صدارة، نتيجة تدهور صورة السياسي في المجتمع، وضعف آليات الممانعة. وفي الحقيقة فإن هذه الخلاصة تساير ما تذهب إليه بعض معطيات سوسيولوجية الحركات الاجتماعية، التي أصبحت تتحدث عن تأثير ” العمق الاجتماعي ” باعتباره حاضنا للشبكات والأفكار والرموز والمعتقدات الراسخ لدى فئات اجتماعية منتمية ” للمجتمع العميق”. ويحيل هذا المفهوم على نظام معرفي متكامل وعلى آليات للتنظيم والفعالية والاستدامة وإعادة الإنتاج. فالمجتمع العميق هو عبارة عن رأسمال اجتماعي قد يفضي، عند حصول الفرص المواتية، إلى رأسمال سياسي ضمني أو معلن. ويبدو أنه بقدر ما ينحاز الحراك الاحتجاجي في الهامش المغربي، لهذا العمق الاجتماعي فهو يظل ظاهريا، على الأقل، خارج أية إستراتيجية سياسية واضحة.
إن السياق المأزقي الذي نعيشه حاليا مفتوح على عدة احتمالات وسيناريوهات مرتبطة بإستراتيجية الدولة. فهل سوف تسمح بإرساء توازن متكافئ بين الفاعلين في الفضاء العمومي في المركز وفي المحيط، وتعيد للوساطة أدوارها،أم أنها سوف تتمادى في نهج الإنفراد بالمبادرة السياسية وتهميش باقي الفاعلين؟ إن الدولة تراهن لحد الآن على الاستجابة للمطالب الاقتصادية والاجتماعية؛ وعلى التآكل الداخلي للحراك؛ كما تراهن بدرجة أكبر على قدرتها على إفشال كل الفرص والمسارات التي تيسر الانتقال الفعلي للحراك من الاحتجاج إلى الحركة الاجتماعية.