في كتاب الإنجيل حكمة رائعة للمسيح عليه السلام وهو يوصي حوارييه بالنظر دائما إلى الثمرة لأنها دليلهم الوحيد إلى الشجرة. فثمرة الحامض مثلا لا يمكن أن تأتي من شجرة التفاح، كما أن الشوك الصحراوي لا ينتج توتا بريا.

مناسبة الكلام هي المذكرة 22*17 الأخيرة المنظمة للتوجيه المدرسي والمهني الصادرة بتاريخ 06 مارس 2017 والتي كثر النقاش حولها مؤخرا بعدما تبين قصورها عن الإحاطة بجميع الاكراهات الواقعية للممارسة الميدانية بالقطاعات المدرسية. لكن البعد الأساسي الذي بقي بعيدا عن هذا النقاش هو الإطار المرجعي الذي يحكم ″التصور الجديد″ لمنظومة التوجيه، وهنا بيت القصيد.

هذه المذكرة ما هي في الحقيقة إلا الثمرة الأولى لشجرة المقاربة التدبيرية l’approche gestionnaire التي بدأت جذورها تمتد عميقا في جسم الممارسة التربوية، وباقي الثمار الأخرى ستتساقط تباعا على رؤوس أطر التوجيه وخصوصا المستشارات والمستشارين منهم كما سقطت التفاحة على رأس عالم الفيزياء إسحاق نيوتن. الفارق بالطبع أن التفاحة أجابت على تساؤلات هذا العالم حول الجاذبية بينما وفي حالة أطر التوجيه فالثمرات التي ستتساقط الواحدة تلو الأخرى لن تجيب عن التساؤلات وإنما ستثير زوبعة من المشاكل والأزمات لا حصر لها وستجذب منظومة التوجيه إلى الحضيض.

ولكي لا يحمل كلامنا على التهويل والمبالغة، دعونا نكتشف أولا بعضا من سمات اديولوجيا التدبيرl’idéologie gestionnaire التي بدأت تغزو جميع الخدمات العمومية وليس فقط التربية والتعليم – راجع بهذا الخصوص محاضرات الفيلسوف الفرنسي Michel Foucault حول مفهوم السياسة الحيوية la biopolitique بcollège de France  وكتاب la société malade de la gestion  لعالم الاجتماع الفرنسي Vincent de Gaulejac.

أولا: خطاب هذا النوع من المقاربات هو خطاب مغلق un discours clos, Herbert Marcuse وعام يمتص بشراهة كبيرة الخطابات الأخرى المغايرة كما هو الشأن بالنسبة للخطاب التربوي الذي بدأ ينكمش تحت وطأة مفردات التدبير الفضفاضة التي تعني كل شيء ولا شيء في نفس الآن، والشيء ونقيضه معا في ازدواجية غريبة وقرصنة لمعاني اللغة وللمصطلحات لا مثيل لهما.

فماذا نفهم مثلا من هذه المفردات الواردة في العروض التي ألقيت أمام وزير التربية الوطنية حول ″التصور الجديد″ للتوجيه والذي يتردد صداها في المذكرة 22*17 سنتين قبل إصدارها؟

1- التوجيه هو الدعم البيداغوجي المستدام!

2- التوجيه المبكر!

3- المساعدة على التوجيه بعد تربوي مندمج!

4- الملاحظة والمواكبة المنتظمة للمتعلمين فرادى وجماعات أساس التوجيه!

5- المشروع الشخصي للمتعلم محور الفعل التربوي!…

أليست هذه التعابير وجها من وجوه اللغة الخشبية الفارغة من أي مضمون؟

ثانيا: موازاة مع خطاب التفاهة اللصيق بهذا النوع من المقاربات discours de l’insignifiance يتطور خطاب آخر هو خطاب النتائج والمؤشرات والتدقيقات والدلائل والأطر المرجعية والتقييم…في غياب تام للحد الأدنى من ظروف ووسائل العمل، أي انجاز كل شيء بلا شيء! ولا حاجة إلى التذكير بأن آخر ما جاء في العروض والمذكرة المذكورة هي العبارة التالية:″التنصيص على مواصلة الجهود الرامية إلى توفير وسائل العمل الضرورية مع التأكيد على تعويضات الأطر عند الاقتضاء″!!!

ثالثا: تضخم الجانب التقني والإجرائي على حساب الغايات الكبرى لمنظومة التوجيه التربوي التي يتم تجزيئها وتفكيكها إلى وحدات لا حصر لها بمنطق التايلورية الكلاسيكي le Taylorisme كما يظهر جليا في المفردات التالية: إعادة تدقيق أدوار أطر التوجيه – إعادة تنظيم تدخلاتهم – الانتقال من المهام إلى تحديد التدخلات – دليل مواكبة التلميذ من الابتدائي إلى الثانوي الإعدادي…وهلم جرا!

رابعا: التدبير بالنتائج وفي إطار ربط المسؤولية بالمحاسبة يلقي باللوم على آخر العنقود وليس أوله أو مراحل سيرورته المختلفة، وفي حالتنا هذه يتم توجيه أصابع الاتهام في ارتفاع معدلات البطالة إلى سوء التوجيه!!! وبالرجوع إلى التعريف الأكاديمي للبطالة والتي هي النتيجة الحتمية للتفاوت البنيوي ما بين عدد مناصب الشغل التي يخلقها النظام الاقتصادي وعدد الأفراد النشيطين القادرين على الوصول إلى هذه المناصب، جاز لنا أن نتساءل عن مبررات مثل هذه التصريحات التي تربط مابين البطالة وسوء التوجيه!!!

بعد هذا العرض السريع لبعض من خصائص المقاربة الاقتصادية في التوجيه، نعود إلى طرح سؤالنا المعنون لهذه المقالة: وماذا بعد المذكرة 22*17؟

ولكي لا نطلق الكلام على عواهنه فمفاتيح الجواب هي بالذات المفاهيم الأربع التي عرضنا لها سابقا والتي ستؤسس لا محالة للتدابير التالية مستقبلا:

أولا: لأن لا أحد من هيئة التدريس سيتطوع للقيام بمهام الأستاذ الكفيل الذي يعول عليه في عملية إدماج التوجيه في الممارسة التربوية، وخصوصا في غياب التعويض المادي لذلك ولأن المشروع الشخصي هو محور الفعل التربوي، فستقومون أيها المستشارون والمستشارات بدمج المساعدة على التوجيه في الفعل التربوي عبر الملاحظة والمواكبة المنتظمة للمتعلمين فرادى وجماعات وعبر الأنشطة الصفية واللاصفية الموجهة في إطار التعليم المدرسي وضمن سيرورة التربية والتكوين في أفق الدعم البيداغوجي المستدام واعتمادا على التوجيه المبكر للتلاميذ!!!

بعبارة أكثر وضوحا ستولون القهقرى وستدرسون مادة التوجيه المدرسي والمهني عوض ممارسة التوجيه!!!

ثانيا: لا تحلموا بأية تعويضات مادية فأنتم ممنوعون من الصرف. وستنضاف مصاريف التنقل مابين مؤسسات قطاعكم إلى معاناتكم مع الأنشطة الصفية واللاصفية وتمرير الروائز المهنية وإعداد الشباب للحياة الاجتماعية والمهنية من ممدرسين وغير ممدرسين وباحثين عن العمل أو الراغبين في تطوير أو تغيير العمل…وستغذون أضحوكة في أعين جميع من يحيط بكم من تقنيي النظافة إلى المديرين مرورا بالأساتذة والحراس العامين والنظار…إلى أقربائكم!!!

ثالثا: تحت مسمى الدلائل والأطر المرجعية لخدمات وممارسات التوجيه، ستتسلل الديداكتيك إلى قطاعاتكم- إن بقيت – وستغرقون في بحر من الجذاذات كأساتذة الابتدائي لأن الغاية هي تدقيق تدخلاتكم وفقا للتصور الجديد فلا بأس إذن من جذاذة لاستقبال التلاميذ، وأخرى لاستقبال أوليائهم، وأخرى للتواصل معهم، وأخرى للتنسيق معهم، وأخرى لمواكبة انتقال أبنائهم بين الأسلاك، وأخرى لتنشيط النوادي الموجهة…!!!

رابعا: ستحاسبون أيها المستشارون والمستشارات على نسب الولوج إلى مدارس ومعاهد التعليم العالي ذات الاستقطاب المحدود وعلى نسب اختيار الشعب الأدبية التي عفا عنها الزمن وعلى نسب التوجيه إلى التكوين المهني…وسيتم تقييمكم على أساس عدد التلاميذ الموجهين إلى التكوين المهني أو المسالك والمهن النبيلة من طب وهندسة ومحاماة…لأن ذلك من مؤشرات مردوديتكم وفاعليتكم كما أن سوء التوجيه هو سبب ارتفاع معدلات البطالة في صفوف الشباب! لا تستغربوا لأن مستشاري التوجيه المهني في فرنسا يتم تقييمهم منذ عقود بنفس المنطق وأغلبهم نفذوا بجلودهم من هذا العمل السوريالي!

أخيرا ولكي تكتمل باقي مشاهد هذه الدراما التربوية وتتضح الصورة أكثر لا بد من طرح الأسئلة المحرقة التالية:

1- من هم فلاحو شجرة الخطيئة هذه وثمراتها التي ستقف لا محالة كغصة في حلق الاستشارة والتوجيه؟ مع العلم وبالعودة سنتين قليلا إلى الوراء والى تصريحات وعروض رئيس مشروع تطوير منظومة التوجيه المدرسي والمهني بالوزارة فصياغة المذكرة 22*17 لم تكن يوما ما عملا فرديا بل هي ثمرة تنسيق وتواصل وعمل مشترك بين ثلة من مفتشي التوجيه بجميع الأكاديميات وفي غياب المستشارات والمستشارين بالطبع!

2- لماذا لم تتطرق العروض التي ألقيت أمام وزيري التربية الوطنية السابقين إلى دور مستشاري التكوين المهني في التوجيه؟ ولماذا تم تحميل المسؤولية فقط إلى أطر التوجيه العاملين بوزارة التربية الوطنية وخصوصا المستشارات المستشارين منهم؟ ألا يقتضي المنطق عرض مساهمة كل من الفئتين، فئة مستشاري التكوين المهني وفئة مستشاري التربية الوطنية في التوجيه المدرسي والمهني؟ لماذا الصمت عن الفئة الأولى وترويج الأزمة في حق الفئة الثانية؟

3- أليس الترويج للأزمة نوعا من السرقة المهنية الموصوفة والكاملة الأركان للمجهودات الجبارة التي بذلها كافة أطر التوجيه التربوي للنهوض بالإعلام والمساعدة على التوجيه خلال العقد الأخير عبر مجموعة من المواقع الالكترونية عالية الاحتراف والملتقيات الإقليمية والجهوية الناجحة للإعلام والتوجيه في الوقت الذي كانت فيه الوزارة غائبة تماما عن هذا المجال؟

4- ألم يكن حريا بالوزارة تكريم أصحاب هذه المبادرات من المواقع الالكترونية والملتقيات الإقليمية والجهوية الدراسية والمهنية الناجحة عوضا عن إمطارهم بالمذكرة 22*17؟

5- من الذي تجب محاسبته في الحقيقة؟ أهم المستشارون والمستشارات المرابطين بالقطاعات المدرسية رغم ظروف العمل الرديئة وغياب الحد الأدنى من الوسائل الضرورية؟ أم هم مفتشو التوجيه المستترون وراء المذكرة وما سيأتي بعدها؟

كثيرة هي الأسئلة المؤلمة حول تناقضات هذا المجال، لكن لا داعي للإجابة عنها لأن الزمن كشاف!