تعيش المنطقة العربية على وقع أزمات إقتصادية و اجتماعية خانقة ، عنوانها الأكبر تباطؤ النمو الإقتصادي، و ضعف معدل النمو السنوي المتوسط لنصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي..وهذه الظاهرة ليست بالجديدة لكن هي سيرورة تاريخية بدأت منذ سبعينات القرن الماضي، مع تبني سياسات التقويم الهيكلي، والانتقال من هيمنة القطاع العام إلى القطاع الخاص،فالمنطقة العربية أو المعروفة في أدبيات التنمية الدولية بالشرق الأوسط و شمال إفريقيا والمعروفة إختصارا MENA تشهد أزمة تنمية خانقة مقارنة بمناطق جغرافية أخرى…

 فمع نهاية عقد الستينات و التي سيطر فيها القطاع العام على أغلب إقتصاديات المنطقة، تم الانتقال في السبعينات إلى تصور تنموي يقوم على مفهوم الدولة الرشيقة، بدلا من الدولة المتدخلة،و توسيع دور القطاع الخاص و إعطائه الأولية في التشغيل و الاستثمار، و تقليص حجم الإنفاق العمومي على السلع و الخدمات العمومية مع خصخصة هذه السلع و الخدمات بالتدريج، و هذا التحول من النموذج التنموي الدولاتي، إلى نموذج أكثر ليبرالية هو نتاج لارتفاع الدين العمومي الخارجي، و الركوض التضخمي و ارتفاع معدلات البطالة، و شح السيولة المالية الضرورية للإستثمار..

و على الرغم من الاختلافات البينية بين بلدان الإقليم في درجات النمو الإقتصادي ،  فإن الأداء العام لمنطقة “مينا” ظل أقل من باقي المناطق،فخلال الفترة مابين 1980و 1990 شهدت المنطقة ركود في نصيب الفرد من الناتج القومي الإجمالي، بل إن معدل النمو السنوي كان سلبيا،ولكن في العقدين اللاحقين شهد متوسط النمو ارتفاعا طفيفا ، لكن ظل أدنى من المتوسط في باقي البلدان النامية، ففي الفترة من 70إلى 90 سجلت منطقة ” مينا” 0.2 – ، مقابل 2.1 في جنوب آسيا و 2.5بالبلدان النامية ، و 5.6 بشرق آسيا و المحيط الهادئ..و على الرغم من التحسن في معدل نمو نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بمنطقة “مينا”خلال الفترة مآبين 1990و 2010 إلا أن معدل متوسط النمو السنوي ظل أقل من باقي المناطق، فقد سجلت “مينا”2.4 مقابل 4.5 بجنوب آسيا و 4.8بالبلدان النامية و 7.4 بشرق آسيا و المحيط الهادئ..

و يمكن تفسير هذه النتائج السلبية لنصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، بثلاث عوامل أساسية:

أولا _ ضعف معدلات النمو الإقتصادي فنسب النمو المسجلة في المنطقة تظل ضعيفة في الغالب و غير قادرة على استيعاب الإحتياجات الناشئة..

ثانيا_ تباطؤ النمو يضاف إليه سوء في تخصيص و إدارة الموارد و خاصة انتشار الفساد و غياب الشفافية في التحصيل و الإنفاق..

ثالثا_ و على الرغم من أهمية العاملين السابقين، إلا أن النمو الديموغرافي الذي شهدته المنطقة كان أعلى بكثير من معدل النمو الإقتصادي، وهو ما جعل من نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي يتأكل، فمعدل النمو السكاني للمنطقة كان الأعلى في العالم خلال العقدين مابين 70و 90، وذلك كنتيجة للفورة السكانية الناتجة عن الإصلاحات الإجتماعية و الخدمات الصحية خلال الستينات من القرن الماضي، غير أن هذا المعدل استقر خلال الفترة  1990/2010، و مع ذلك فإن معدل النمو السكاني في منطقة “مينا” أعلى بنحو 17% عن الزيادة السكانية في جنوب آسيا خلال نفس الفترة، في حين أن معدل نمو نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في “مينا” أدني بنحو 47% منه في جنوب آسيا..

و الجدير بالذكر، أن المنطقة العربية ليست على نفس المنحى من حيث النمو السكاني، فالبلدان المغاربية مثلا حققت استقرارا ديموغرافيا، مقابل بلدان الخليج و الأردن و سوريا التي لازالت تعرف نمو سكاني مرتفع نسيبيا،ففي مصر ودول عربية أخرى مثل العراق وسوريا والأردن والسعودية يتضاعف عدد السكان كل 20 إلى 25 سنة تقريبا، ففي مصر  يقدر هذا العدد حاليا بأكثر من 91 مليون نسمة مقابل أقل من 35 مليون نسمة أواسط سبعينات القرن الماضي. وفي السعودية يزيد عدد السعوديين على 21 مليون نسمة حاليا مقابل 7 ملايين في عام 1974، أما في العراق يقارب عدد السكان حاليا 40 مليون مقابل أقل من 30 مليون نسمة عام 2007…

و هذه التحولات الديموغرافية تعد سببا في التغييرات السياسية و الاجتماعية التي تشهدها المنطقة، ومن المحتمل أن حالة اللاستقرار ستمتد إلى أزيد من عقدين من الزمن…فمختلف البلدان التي استطاعت تحقيق توازن بين النمو الاقتصادي و النمو الديموغرافي، تمكنت من تحقيق استقرار سياسي و إجتماعي، و البلدان العربية لازالت لم تخرج بعد من المنطقة الرمادية، لاسيما و أن سيادة الحكم الأبوي التيوقراطي، وغياب التنافس السياسي الحر يعمق من أزمة التحول السلس، وينضاف إلى كل هذه العوامل عنصر إضافي،هو التدخل الأجنبي في شؤون الإقليم…

و يعد التحول العنيف الذي تعيشه المنطقة أمرا حتميا، فالمنطقة تنتقل من مرحلة الإنفجار إلى الاستقرار السكاني ، هذا مع اتساع شريحة المتعلمين، و كلما تحقق هذان العاملان إلا و ارتفعت مطالب عامة الناس فالإستقرار الديموغرافي و التعليم يغيران ذهنية عموم الناس ، وهو الأمر الذي يولد طلب ملح على الشغل و السكن و باقي الخدمات و السلع العمومية كالتعليم و الصحة ، كما أن اتساع دائرة التعليم يؤدي إلى تحول بعض المطالب الثانوية، إلى مطالب ضرورية، ومن ذلك تنامي مطلب الحرية، والحقوق المدنية و السياسية و غيرها من الحقوق  كتحرر المرأة والمشاركة السياسية…. فالنمو السكاني المرتفع يضع معظم بلدان “مينا”  أمام حلقة مفرغة في غاية الخطورة، إذ تتفاقم  مشاكل الفقر والبطالة وضعف الاستقرار السياسي والاقتصادي في هذه الدول، بالإضافة إلى تنامي مطلب الحرية و العدالة الاجتماعية و الدمقرطة، وهي دائرة مفرغة يصعب الخروج منها بالأسلوب المتبع من قبل الحكومات، و مما يعمق من المأساة التدخل الأجنبي الذي يعيق  التحول الديموغرافي السلس، بما في ذلك ضعف السياسات التنموية و غياب الحكم الصالح..

ومبدئيا،  الانفجار السكاني، لاينبغي النظر إليه على أنه نقطة سوداء وعائق تنموي بالمطلق، بل على العكس من ذلك يمكن أن يمثل الرأسمال البشري قوة إقتصادية و تنموية لا يستهان بها، لكن شريطة تبني سياسات ناجعة في مجال التعليم والتكوين و تثمين الرأسمال البشري، و تبني سياسات تنموية و اختيارات إقتصادية تتماشى مع معدلات النمو السكاني…

خاصة و أنه في ظل الإقتصاد المعرفي، يعد العامل البشري نعمة و ليس نقمة، إذا كانت السياسات العمومية ناجعة، لكن في البلدان العربية، علينا أن نتجنب الخطاب الإحصائي ضيق الأفق، و الذي يختار أحد التفسيرات المحدودة الأفق عندما يحاول المقارنة بين متغيرين النمو الاقتصادي من جانب و النمو السكاني من الجانب الأخر..

فمنذ وقت ليس بالبعيد ساد هذا الخطاب في سياق نظرية “مالتوس” ، و مفادها أن وتيرة التكاثر  السكاني، هي أسرع من وتيرة ازدياد المحاصيل الزراعية وكميات الغذاء المتوفرة للاستهلاك.

ويرجع السبب في حصول هذه الفجوة بحسب مالتوس إلى أن البشر يتكاثرون كل 25 سنة وفقا لمتتالية هندسية، أي أن أعداد السكان يتضاعف بعد كل ربع قرن وستستمر في الزيادة إلى ما لا نهاية، وفي المقابل ينمو إنتاج الموارد الغذائية وفقا لمتتالية حسابية، فقط بسبب محدودية الأراضي الصالحة للزراعة وتناقص الإيرادات جراء كثافة الاستغلال…

وهذا من شأنه أن يؤدي في المحصلة إلى اختلال التوازن بين عدد السكان من جهة وإنتاج الغذاء اللازم لإطعامهم من جهة أخرى، مما ينذر بمشاكل اقتصادية واجتماعية خطيرة من فقر وجوع، وبروز لظواهر مجتمعية سيئة كالتشرد والتسول واحتراف النصب والسرقة.

و الواقع أن التجربة أثبتت عكس ذلك، فبالرغم من الانفجار السكاني الذي شهده العالم منذ الثورة الصناعية، إلا أن حجم الموارد الإقتصادية، و ما يتم إنتاجه من غداء و كساء ودواء ، يفوق بكثير إحتياجات البشرية، لكن الإحتكار للثروات محليا و كونيا، وغياب العدالة في التوزيع، و هيمنة القلة على الأغلبية، هي المسؤولة عن مانراه من جوع و أوبئة وفقر، لكن البلدان التي استطاعت تأسيس أنظمة سياسية و إقتصادية عادلة و رشيدة، وتوسيع دائرة شبكات الأمان الاجتماعي، تمكنت من تحويل ما يسمى بالقنبلة الديموغرافية إلى أداة للتنمية و النمو الاقتصادي المتوازن و المنسجم، و  تجربة الصين و الهند خير مثال…

فالبلاد العربية مطالبة بمواجهة الاختلالات الحقيقية، وفي مقدمتها غياب الحكم الصالح، وعجز السياسات التنموية، و انتشار الفساد ، و هذر الموارد العمومية، و توظيفها توظيفا سيئا، بدليل أن ثروات المنطق تهرب للخارج و تنفق في التسلح و التأسيس لنظم أمنية و قمعية، بدل أن توظف في توسيع التعليم و الإستثمار المنتج بغرض خلق دورة حميدة للتنمية تبدأ بالتعليم و تنتهي بتوسيع طبقة وسطى، تعد صمام أمان للتحول السياسي و الإجتماعي الأمن، لكن أغلب الأنظمة العربية فاقدة لبوصلة التغيير وتحاول التجديف عكس التيار…و الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون..