تعيش بلدان المغرب العربي تحت مخاوف من انتشار وباء الكوليرا، و قد سجلت أولى حالات الاصابة بهذا الداء في الجزائر ، و انتقلت عدواه إلى المغرب إذ تردد أنباء لم يتسنى لنا التأكد من صحتها، بإصابة حالتيين بهذا الوباء، وحتى و إن أنكرت  وزارة الصحة المغربية تسجيل أي حالة إصابة، إلا أنها لن تستطيع إنكار حالة الفزع و التأهب لمواجهة المرض..

و تعرف “الكوليرا” والتي يطلق عليها  أحيانا اسم ” الكوليرا الآسيوية ” و”الكوليرا الوبائية”، وتعد  من الأمراض المعوية المعدية، وتنتقل الجرثومة إلى البشر عن طريق تناول طعام أو شرب مياه ملوثة ببكتيريا ضمة الكوليرا من مرضى كوليرا آخرين. ولقد كان يُفترض لفترة طويلة أن الإنسان هو المستودع الرئيسي للكوليرا، ولكن تواجدت أدلة كثيرة على أن البيئات المائية يمكن أن تعمل كمستودعات للبكتيريا، وتاريخيا تعود جذور الكوليرا إلى شبه القارة الهندية، بفعل وجود نهر الغانج، و الذي يعد  بمثابة خزان ملوث. ..

وقد انتشر المرض من خلال طرق التجارة  لروسيا، ثم إلى غرب أوروبا، ومن أوروبا إلى أمريكا الشمالية، ولم تعد تعتبر الكوليرا تهديدا ملحا للصحة في العظيد من بلدان العالم نظرا لترشيح و كلورة إمدادات المياه و تطور قنوات الصرف الصحي  و تحسن إجراءات الوقاية و  الصحة العامة ، لذلك فإن هذا الوباء له صلة بالفقر، فهو يصنف ضمن أمراض الفقر..

و الغرض من المقال ليس تحليل طبيعة وباء الكوليرا و ألية فتكه بالجهاز الهضمي للإنسان و أسلوب العدوى، لكن ما يهمنا من هذا الوباء هو ” العدوى” و قدرة الداء في تخطي الحدود المغلقة بين البلدين منذ نحو عقدين ، كما نجح الوباء في توحيد جهود البلدين و دفعها  لاتخاد نفس التذاببر الإحترازية، بينما عجزت عدوى التنمية و التعاون و التكامل أن تكون بنفس فعالية عدوى الكوليرا ذات المنشأ الٱسيوي..

فعلى خلاف معظم بلدان العالم تتجه جهود بلدان المجال الجغرافي الواحد إلى فتح الحدود، و تجاوز الخلافات مهما كانت مستعصية، فمثلا اليابان قامت بغزو و احتلال مساحات شاسعة من الصين و كوريا، ومع ذلك للنظر إلى علاقات التعاون و التكامل بين أعداء الأمس، قد يقول قائل أن الجروح إندملت، و أجيبه بأن تقسيم شبه الجزيرة الكورية إلى شمال و جنوب هو نتاج للاحتلال الياباني و للحرب الكورية مابين 1950- 1953 ،وهي حرب خلفت ألاف القتلى و الأسرى، وشاركت فيها قوى دولية ومحلية، و جسدت قمة الصراع في حقبة الحرب الباردة..

و مع ذلك تتجاوز البلدان و الشعوب معاناتها،و تعمل على طي صفحات من التاريخ غلب عليها منطق الصراع و العنف، و تتطلع بإيجابية إلى المستقبل،  فحركة التجارة و تدفقات السلع و الخدمات و روؤوس الأموال و انتقال الأشخاص أفضل و أنجع من كل سياسة عدوانية…

لكن إذا كانت بلدان شرق أسيا شهدت ميلاد ظاهرة أسميتها ب ” عدوى التنمية” ، بمعنى التنافس بين هذه البلدان في البناء و التنمية و إقتناص كل فرصة لتحقيق معدلات نمو أكبر ، و تبني سياسيات حسن الجوار و سياسات خارجية تخدم الإستقرار و التعايش و تعمق أواصر التكامل و التعاون…فالصين و الهند دخلتا في نزاع مسلح أكثر من مرة وكان أخرها في عقد الثامنينات من القرن الماضي،ومع ذلك لنرى مستوى العلاقة بين البلدين، مع العلم أن التنافس بين البلدين لازال و مستوى الخلافات مستمر، لكن يتم التغلب على ذلك برفع هامش التعاون الإقتصادي و التكامل الإقليمي ومن ذلك مجموعة BRICS  التي تضم أعداء الأمس (الصين و الهند و روسيا)..

لكن “عدوى التنمية” مصطلح لازال بعيدا عن أدبيات التنمية في بلداننا المغاربية والعربية، فبلداننا لها القابلية لإستقبال و احتضان أمراض الفقر ، و تلك وصمة عار على جبين حكومات و أنظمة هذه البلاد و خير دليل على فشل سياساتها التنموية و الصحية.. فعقليات النخب الحاكمة و الحكومات الجبرية تهيء البيئة الحاضنة للأوبئة و تعيق بالمقابل كل إمكانية لتحقق التنمية والنهضة في تعارض تام مع  إرادة الشعوب، فمن دون شك أن الشعوب المغاربية  تتطلع إلى التعاون و التكامل، بدلا من التوسع في سياسات التصعيد و العسكرة، وما يواكب ذلك من غلق للحدود و قطع العلاقات الإقتصادية والتجارية أو في أحسن الأحوال تقليصها ووضع قيود على حرية حركتها..

نتمنى أن تدرك الجزائر و المغرب أن مستقبل و أمن و استقرار  البلدين ، يمر عبر بوابة التعاون و التكامل السياسي و الإقتصادي و تنسيق السياسات و توحيدها باتجاه تقوية موقف البلدين الهش في مواجهة التحديات الداخلية و الخارجية،  أما الصراع و التوتر حول ملف الصحراء فمن الممكن ترحيله إلى وقت لاحق، و تأجيل البث فيه إلى حين، و البداية و الأولوية فتح الحدود بين البلدين، و تعزيز التعاون و التكامل، و ركزت على المغرب و الجزائر ، بالنظر إلى دورهما الحاسم في تشكيل فسيفساء المغرب العربي الكبير ، فهما أصل المشكل و مفتاح الحل…

فالصراع بين المغرب و الجزائر لا ولن يثمر أي نتائج ، و المستفيد الأكبر من حالة التفرقة والصراع القوى الدولية،  استنادا إلى القانون الاستعماري التقليدي” فرق تسد”، فالإتحاد الأروبي يستفيد من التفرقة لاسيما في جزئية الهجرة و الولوج للأسواق، فهو يريد من هذه البلدان أن تلعب دورا في حماية حدوده الجنوبية من موجات الهجرة و اللجوء ، لكن شريطة أن يتعامل مع كل بلد مغاربي على حدة، و في ذلك إضعاف لموقف كل دولة…

لكن لو اتحدت البلدان المغاربية وأصبحت سياساتها الخارجية موحدة ، لحققت مكاسب دبلوماسية و اقتصادية ومالية في غاية الأهمية، و لكان الاتحاد الأروبي ملزما بإعطاء تنازلات أكبر، كما أن الوحدة ستخرج المنطقة من الهيمنة الأمريكية و الروسية، و التي تستفيد من حالة الصراع لتمرير صفقات أسلحة باهظة الكلفة، و تضر البلدان المغارببة أكثر مما تخدم استقرارها و أمنها..

فاستقرار و أمن المغرب و الجزائر مرتبط بتحقيق التنمية، و تحسين مستوى الأداء الإقتصادي، و رفع معدلات النمو الإقتصادي ليتجاوز عتبة 3٪، حتى يتسنى لهذه البلدان امتصاص معدلات البطالة المرتفعة، و الحد من الفقر الذي أصبح يشمل فئات أوسع..

فاستمرار الوضع على ما هو عليه أمر بعيد التحقق، فالاستقرار هش، و المطالب الإجتماعية والسياسية في البلدان المغاربية تؤشر على حراك شعبي قادم بالمغرب و الجزائر تحديدا، و جدل المقاطعة التي تعبر عن انسداد الأفق السياسي في المغرب، و الجدل العام حول الانتخابات الرئاسية و التمديد للرئيس بوتفليقة بالجزائر، لن تمر بسلام مالم تستجب القيادة السياسية لمطالب عامة الناس و في مقدمتهم الشباب، الذي أصبح أكثر إدراكا إلى أن معاناته و معاناة شعبه، نتاج طبيعي لفساد الحكم ، و نهب الثروات الوطنية، و استغلال القضايا الوطنية و تضخيمها بغرض الإستمرار في الهيمنة على المناصب و المكاسب…

لذلك، نود لو أن عدوى التنمية كانت لها نفس القدرة في تجاوز الحدود ضدا عن رغبة النظام السياسي في المغرب و الجزائر ، لكن للأسف التنمية عدوى تنتشر في بيئة ملائمة للتوسع و الانتشار وفي مقدمة ذلك القابلية  لتوسيع خيارات الشعوب و تحسين وضعها الإقتصادي و الإجتماعي، و جعل الشعوب مصدر السلطة، و هو ما لا يتوفر في البلدان المغاربية ، لكن إرادة الشعوب قادرة على كسر سطوة الإستبداد  والفساد ..و هذه الإرادة الشعبية ستنتشر عدواها كما انتشرت عدوى الحرية بعد 2011…و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون…