ميناء مدينة الحسيمة للمسافرين مثل حالة باقي موانئ شمال المغرب فى الناظور، وطنجة (بشقيّه ميناء المدينة والمتوسّطيّ) ناهيك عن مداخل مدينتيْ سبتة ومليلية السّليبتين ،كلّ هذه نقاط العبور عرفت فى الأيام الأخيرة إكتظاظاً  بشريّاً غيرَ مسبوق، وازدحاماً للسّيارات على غير العادة، إذ تجمهرت فيها أعداد هائلة من المسافرين المغاربة العائدين الى بلدان إقامتهم فى الديار الأوربية، كلّ هذه المراسي أو نقاط العبور نحو الضفّة الأوربيّة الأخرى ما انفكّت تعرف صَخَباً، ولجَباً، ودَأباً ليس له نظير، حيث تُسجّل العينُ، والكاميرا،والهواتفُ المحمولة مشاهدَ مؤلمة نظراً للنقصٍ الذريع فى الإعدادات التي تتبجّح بها فى هذا الشأن الجهات الوصّية المعنية، والقطاعات المسؤولة المكلّفة بالمغاربة المقيمين في الخارج وشؤون الهجرة وأحوالها  . 

 ما فتئت السّيارات تتوارد  بدون انقطاع لتأخذ مكانَها فى  المواقف المُخصّصة للمسافرين ،إنه تاريخ 31 أغسطس (آب) الفارط 2018 الذي تصادف مع نهاية موسم الصّيف، وانصرام العُطل،والإجازات،وعيد الأضحى الذي يحتفي به المغاربة أكثرَ من أيّ مناسبة أخرى، الحرارة لا تُطاق،والناس وُقُوفٌ تحت شمسٍ لافحةٍ، حارقةٍ، ملتهبةٍ، حاميةِ الوطيس. يُضاف إلى ذلك خَصَاص واضح فى المرافق المُخصّصة للنظافة،ودورات المياه، والمراحيض وما أشبه ، هذا ما عاشه عشرات المغاربة العائدين إلى بلدان إقامتهم فى المدّة الأخيرة حسب الأخبار الواردة من مدينة البوغاز مُلتقى البحريْن طنجة وسواها من الموانئ المغربية، والإسبانية المحاذية للسّاحل المتوسّطي، الناسُ فى حيرةٍ من أمرهم،  الأطفالُ يصرخون، والصّبية يصيحون،والآباء يهرولون نحو مكاتب الشّرطة لختم الجوازات،ونحو إدارات، ورجال الجمارك لتنحية تسجيل خروج السيارات ذات اللوحات الأجنبية من الحواسيب الإلكترونية التي سجّلتها عند الدخول . 

كلّ شئٍ على ما يُرام !

  تبدو هذه الاجراءات وكأنها تسير على خير ما يُرام لدى رجال الشرطة ..أما عند رجال الجمارك فتراهم يقفون، يتحرّكون، يجُولون،ويجُوبون، ويصُولون ،ينتظرون، وينظرون نظراتٍ شزرى نحو هذا وذاك خاصّة هؤلاء الذين يرتدون منهم بِدَلاً رماديّة سميكة شبيهة بمعاطف رجال المطافئ،ويحملُ بعضُهم أدوات حديدية دقيقة  لفسخ أجزاء، وأطراف،وواجهات السّيارات التي يشكّون فى آمرها،من مفكّات البراغي، وكمّاشات، وملاقط فولاذية، تقف السيارات مُصطفّة أمامهم وهم ينحنون على هذه ،ويتّكئون على تلك ،وهناك من يمتحن العجلات المطاطية،والمحرّك، والكراسي الأمامية والخلفية وواقيات التصادم ،هذه العمليات قد تدوم لمدّة دقائق معدودات، وقد تستغرق أوقاتاً طويلة مُضنية ، مردّ هذه الإجراءات التفتيشبة الدقيقة يعود إلى التخوّف من تهريب المحظورات، والممنوعات بين العدوتيْن المغربيّة والأوربيّة.. تبدو الأمور اعتيادية،طبيعيّة، وروتينية ..ولكنها تتمّ فى أجواء غير مريحة، فالجمركيّ  فى الغالب فى مختلف بلدان العالم هو رجلٌ جدّي لا تعلو البّسمة مُحيّاه، وهو معذور فى ذلك على كلّ حال نظراً للمهمّة الصّعبة المنوطة به التي تتطلّب الثقة، والأمانة، والصّرامة، والإنضباط، ويفوز غالبيّة رجال الشّرطة بقصب السّبق فى المجال المعاكس لهذا الوجوم،لذا فهم حريصون على الإبتسام،وهذا شئ محمود وجميل،أمّا الجمركيّ فمن عادته أن ينظر إلى المُسافرين بنظراتٍ ثاقِبة، صَارِمة،جاحِظة ،وهو يحدّثهم بلغة الآمر النّاهي ، افتحْ أبوابَ السيّارة ،وافتحْ مُستودَعَها (الكُوفر) ،أنْزِلْ الحقائبَ والحاجيات..! يجري التفتيش الدقيق على مختلف الواجهات بتأنٍّ، وتريّثٍ، وتؤدة،الكاميرات الذكيّة الخفيّة لا تتوقف عن التصوير، والتسجيل،ورجالُ الجمارك هم كذلك مُرَاقَبُون،ومُتابَعُون فى هذا الشأن ، وتُوحي بعض عمليات التفتيش للناظر أنّ الأمر يبدو وكأنّ بعض المسافرين فعلاً هم مُهرِّبون أو مُتواطِئون فى التهريب ممّا يُسبّب  لبعضهم  نوعاً من الإحراج. يبدو أنّ عمليات التفتيش أصبحت مؤخّراً تشمل كلّ المسافرين على اختلاف درجاتهم فى الدّولة،وهذا أمر محمود يدخل فى باب الحِرص على أداء هذه المهمّة الدقيقة على خير ما يُرام على جميع المواطنين بدون ميز ولا حيف،كما يدخل هذا الإجراء فى باب الحرص على تساوي المواطنين فى الحقوق والواجبات..! .(كلّ شئ على ما يُرام ) يقول الجمركيّ بجديّةٍ وحزمٍ ثمّ يتقدّم المواطنون فى هدوء بسيّاراتهم المُثقلة بالبضائع،والسّلع،والحاجيات الخاصّة وقد أضناهم التّعب، والعياء، والإنهاك نحو فوهة مدخل الباخرة العملاقة وكأنّهم داخلون إلى غارٍ مُعتم،وتبدو ممرّات المرآب وكأنه نَفَق تتخلله أضواء خافتة،باهتة. 

ازدحام واكتظاظ غيرُ مسبُوقيْن

على ظهر المركب الاسباني الكبير  تبدو الأمور فى هذه التواريخ من العام  غير طبيعية،ولن نذهب بعيداً فالمركب الذي غادر ميناء الحسيمة فى التاريخ المذكور أعلاه فى إتّجاه مدينة موتريل الإسبانية كان شبيهاً بمراكب الهجرات المُنظّمة، والهجرات غير الشّرعية التي نراها فى عرض البحار،وكذا التي كانت تتمّ خلال اندلاع الحروب الكبرى، وتفاقم الأزمات الجهوية،و نشوب الخلافات الدولية، أو عند ما تحطّ  الحروب أوزارَها. 

كان المركب شبيهاً بالمراكب التي تمخرالبحرَ بين الجزر الأسيوية المتناثرة فى غياهب المحيط الهندي،والتي تُنهي إلينا الأخبار بين الفينة والأخرى أنها غالباً ما تنتهي بكوارث مأساوية مأسوفٍ عليها فى عرض أعالي البحار نظراً لحملها أكثر من طاقاتها الإستيعابية من المسافرين، كان المركب غاصّاً بأفواج هائلة من البشر من أطفال،ورجال، ونساء،وشيوخ، وشباب، وصبيان وصبايا ..كلهم ينتمون لأجيال مختلفة، وهم ذوو أعمار متفاوتة، على الرّغم من أنّهم دفعوا الثمن المحدّد للرحلة  إلاّ أنهم -ربّما- لم يجدوا المقاعد الكافية للجلوس، فكانوا يتمددّون فى كلّ مكان على أرضية السّفينة، فى المقاهي،وفى وباحات الإستراحة، والممرّات، وفى كلّ مكان، فى وسط السفينة العملاقة و فى حيزومها، ومؤخّرتها حيث يتعذّر المشي بين الأجسام المستلقية على الأرض التي أنهكها التعب، ونال منها العياء من فرط الإنتظار!،العاملون بالسّفينة من ندلاء، ومُرشدين، ورجال النظافة لا يقولون لهم شيئاً البتّة،عمّا ما يشاهدونه من إختلالات لا يسمح بها قانون الملاحة الدولي، على عكس ما يحدث،ويُطبّق بصرامة فى مراكب السّفر الإسبانية الأخرى الرابطة بين مدن مالقة، والجزيرة الخضراء،وألمريّة، وموتريل وبين  مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين ،وكأنّ هذا التصرّف هو أمر مباح ومسموح به على ظهر هذه السفينة بشكلٍ إستثنائي..ولا شكّ أنّ هذا المنظر المُشين ينبئ أو يُوحي بأنّ السّفينة ربما كانت تحمل أزيدَ ما تتحمّله طاقاتها الإستيعابية، وبالتالي لم يجد المسافرون مقاعدَ كافية للجلوس، كان ذلك المنظر يقطّع نياط القلوب ، ويمزّق مُضغ الأفئدة، مخلوقات آدمية من جميع الأعمار، والأجناس مُستلقية فى خنوع على أرضية السفينة فى أوضاع مثيرة للشفقة ،والمرارة فى آنٍ واحد. 

آهٍ.. على فلذات الأكباد

آهٍ.. على تلك الأجيال الصّاعدة من فلذات الاكباد الذين يهاجرون، ويقطعون المهامهَ والبحارَ، ويجوبون الفيافيَ والقفارَ لضمان لقمة عيشهم اليومي ..مُخلّفين وراءهم الوطنَ الحبيب، وتاركين آباءَهم، وعوائلَهم، وأقاربَهم وراء البحر، هناك خلف الآفاق البعيدة المترامية الأطراف،ويتبادر إلى الذّهن فى تلك الهنيهة وأنت تنظر إليهم ، أو عندما ينتهي إليك أنينُهم، وصِياحُهم، وتأوّهاتُهم ،أو وأنت تُصغي لأحاديثهم ،ومحاوراتهم، وشكاويهم، يتبادرُ التساؤل التالي : أيّ مُستقبلٍ ينتظر هؤلاء من أبناء جلدتنا، وطينتنا، وعشيرتنا، ووطننا؟ سواء فى بلدان مهاجرهم أو فى بلدانهم الأصلية … ؟ إنها مسألة عويصة حقاً تعاني منها الجالية المهاجرة إلى مختلف أطراف المعمور ، إنك عندما تنظر إليهم تشعر وكأنّك حديث النّزول من برج بابل الأسطوري الشّاهق الذي بلبل الله فيه ألسنة هؤلاء الذين حاولوا تسلّقه ورمي الشمس بالسّهام، والنبال ،والأقواس،فصارو يتحدثون فيما بينهم بلغات متباينة غير مفهومة،آبّاء يتحدثون مع أبنائهم، أو أبناء يخاطبون آباءَهم بلغات عديدة مختلفة،وبلهجات بها رطانة يمجّها الذّوق، فتسمع فى كلّ لحظة وحين تمتمات، وهمهمات، وفقرات، أوتعابير متقطّعة أو متقاطعة من مختلف اللغات : الهولاندية،والألمانية، والإيطالية، والفلامانية ،والفرنسية، والإسبانية،والكطلانية، والإنجليزية، وأخيراً الرّيفية، والدارجة المغربية فى ندُرةٍ، وقلةٍ، وخَصاص.!

ارحمُوا مَنْ فى الأرض.. 

هذه الجالية التي تبذل قصاراها من أجل العودة إلى وطنها الأصلي كلّ صيف،والتي تواجه مخاطرَ شتّى خلال رحلتيْ الذهاب والإياب ، إذ يتعرّض غيرُ قليل من أفرادها لهجومات قطّاع الطرق، واللصوص والعصابات المنظمة المتخصّصة التي تتعرّض لهم بمختلف الوسائل، والحيل،والمكايد، والدسائس لسرقتهم ، كما أنهم يعرّضون أنفسَهم وأولادَهم وذويهم لأخطار حقيقية مُحدقة فى الطرقات حيث يكون العياء قد أخذ منهم مأخذَه فيصبحون عرضة لحوادث السير،والتصادم لعدم استطاعتهم توفير الرّاحة اللاّزمة لأنفسهم خلال رحلات السفر الطويلة المضنية ، هذه الجالية جديرة بأن تحظى بمزيد من العناية، والرّعاية، والإهتمام ،وحتى وإن كانت الجهات المعنية الوصيّة تبذل جهوداً مضنية لتقديم الدّعم والمساعدة الضرورين لها كلّ عام (الوزارة المكلفة بالمغاربة المقيمين في الخارج وشؤون الهجرة ، مؤسّسة محمد السادس  للتضامن، وعمليات مرحبا وسواها من الجهات التي تُعنى بهذا الموضوع الحيوي). هذه الجالية التي تقارب الستّة ملايين نسمة من مغاربة العالم  الذين يدعمون الإقتصاد المغربي بما يحوّلونه سنوياً إلى بلدهم  من مبالغ طائلة تنيف على 65  مليار درهم من العملة الصّعبة، ينبغي والحالة هذه  التفكير بشكلٍ جدّي فى خلق آليات عمل جديدة أكثر نجاعة ومردودية للعمل من أجل تحسين وضعية هذه الجالية التي بالإضافة إلى معاناتها لمرارة الهجرة، وتجرّع مضض الإغتراب عن الأهل، والبعاد عن أرض الوطن الغالي، فإنها تعاني كذلك من منغّصات،وعراقيل، وصعوبات السّفر،والتنقال، والترحال كلّ عام لإحياء صلة الرّحم مع أهاليهم وذويهم التي يوليها المغاربة أهمية قصوى فى تقاليدهم الحميدة، ومعتقداتهم ،وقناعاتهم الراسخة. 

 قديماً قال الشاعر:( وَطَنِي لوشُغِلْتُ بالخُلْدِ عنهُ  /  نَازَعتْني إليه فى الخُلدِ نفسي ، وقال آخر : ( وما الوطنُ المَحبْوبُ إلاّ يتيمةٌ  /  وباقي المعالي كالدّراري التوائم) ،وقال آخر : ( ولِي وطنٌ آليتُ ألاّ أبيعَه  /  وأنْ لا أرىَ له يدَ الدهر مالكا… وحبّبَ أوطانَ الرّجالِ إليهمُ   /  مآربٌ قضّاها الشَّبابُ هنالكا ). وقال (أبو تمّام )ما معناه :  (نقّلْ فؤادَكَ حيثُ شئتَ من الهوى(النوىَ)  /  ما الحبُّ إلاَ للحبيب( للوطن) الأوّلِ…كمْ منزلٍ فى الأرضِ يألفُه الفتىَ  /  وحَنينُه أبداً لأوّلِ منزِلِ ).