
من أجل تربية للذوات الفاعلة للتحرر من نهب و تسيب النخب المنفعلة

تبعا للقناعة المتجددة على مستوى الصلاحية العلمية بشأن التربية بوصفها عملية إنسانية تستثمر في المعارف و العلوم و التقنيات من أجل إدراك الكائن الإنساني بغرض تمكينه من اقتدارات و مهارات الولوج إلى الحياة و تصنيعها و الإسهام في قيادتها.
آراء أخرى
هذا يعني أن التربية من هذا المنطلق هي عملية إدراك الذهن الإنساني بكل مقوماته وفق جهود تتكامل من أجله المعارف و العلوم، بالتركيز على المربي من حيث الهوية و المكانة و المعرفة المتنوعة و التكوين العلمي المتجدد والميسر للإدراك و الموسع لفرص و أفاق التدخل التربوي . إن التفكير بالتربية و تأهيل القيمين عليها مسؤولية أخطر وأشد حدة من الدفاع الوطني. و عليه، لا يمكن اختزالها في تعلمات تنتج شغالين يحتاج إليهم المتحكمون في أسواق الشغل الآنية، و لا يجوز أن توظف في إنتاج التابعين الممتثلين للقيم السائدة، بل الأمر يتجلى في إعداد ذوات فاعلة و أشخاصا و جماعات متحررة من كافة ضروب القلق و الحاجة و الجشع و التسلط و النزوع نحو الاستحواذ و التملك. مهمة التربية تيسير كل الفرص و الأفاق نحو المرء ليدرك كينونته و يعمق بشكل صحيح تمثلاته للحرية و التعبير العملي عنها فكرا و إبداعا و إنتاجا متجددا على درب بناء الحضارة الإنسانية بالحرص على توظيف قدراته و مواهبه و مهاراته في التفكير بسعادة الكون و الكائنات و العمل المتواصل من أجل صيانتها و ارتقائها على نهج المحبة التي لا تتحقق إلا بإدراك الأخر لا بالمعنى الانتهازي أو الاستغلالي أو التحكمي و إنما بالتواصل الفعال معه و فهم مجاله الحيوي و تدعيم كل الجهود المبذولة من أجل تمكينه.
فمن الصعب القول بتربية لا تركز على الإدراك الجيد لشخصية المستهدف منها بكل الأبعاد النمائية والأحوال المضمورة في الداخل و الوقوف العلمي على جذورها و مستوى عملها و مدى تأثيراتها، عبر فتح مساحات التعبير عبر الإيجاز اللامتناهي في الأقوال و الأعمال التي يستطيع المستهدف التعبير عنها دون اكتراث بما يسمى الانضباط، و خاصة عند عمليات بناءا إدراكات القيم على العلمية التربوية له، فتعبيراته اللفظية و العملية كثيرا ما تسهم في إدراك التفككات و الحوافز التي يتميز بها و هذا يتطلب قيمين أقوياء و مفكرين بشكل مركز بالتربية علميا و عمليا للتمكن من الإجابات عن كافة الأسئلة بعيدا عن كل غموض أو اختزال لأن الغرض هو بناء علاقة إنسانية تحتاج إلى العمل التربوي من المهد إلى اللحد، لا يختزل فيها مسارات الفرد في التعلمات المتعلقة بفك الرموز و لكن بمسار بناء الشخصية و تمكينها من اقتدارات الولوج إلى الحياة.
فالتربية اعتقاد بالحياة و الإدراك الجيد للحاضر و الإيمان بالمستقبل فهي الحرث بالعلم و التدبير بعلم و الحصاد بعلم. و لا قدرة على القرابة منها إلا لدى الجاهددين من أجل الاستمتاع بكنوز القلوب1.
ففي ظل الأزمة الإنسانية التي تتعدد مظاهرها، و تتنوع خلفياتها و إن اختلفت حدة أثارها جراء هيمنة الهو الأعلى المتمثل في السوق الذي يكافح في الإنسانية تحت شعار الكل قابل للتبضيع و التسليع و البيع و الاستئجار بما في ذلك الإنسان عبر مراهنته على لهايات التسلية و مناهج و برامج التشكيل بدل التربية و التكوين و التمكين، تأتي لتستجيب لاحتياجات السوق و ليس لمتطلبات انتقال الإنسان من خانة الفرد المستهلك إلى رحاب الشخص الفاعل، فالتنكيل و التنميط لا يسمح بتاتا بتربية الانفعالات و التمكن من توازنها، كما يحول دون اكتشاف الذكاءات والحرص على تكويرها مما يسهم في إعاقة امتلاك المرء لبوصلة الإدراك و ملكة التروي و التدبير و التفكير المركب من قبل التعرف المحدود و المتخصص و تقبل الاختلاف الفكري و العقائدي و التنوع الثقافي و توسيع أفق الإبداع و الاختراع و الإنجاز.
إنها أزمة التربية و التكوين و الشأن العام، والمستهدفون من ذلك يعرفون ما يطالهم و ما يواجههم على المستويات الترابية و القطاعية و الوطنية و العالمية. و لا يدركون إلا القليل عن معاناة و صعوبات عوالمهم الداخلية الشخصية. إن الأزمى أزمة غربة يعانيها الكائن الإنساني بمرارة داخل ما يمكن تسميته بالحميمية الأسرية جراء التربية على التشييئ المتخفية وراء شعارات مفروغة من أي محتوى و لا علاقة لها بالاحتياجات الحقيقية و الملحة التي يحتاج إليها المرء، و التي لا تقبل بالتدرج في إشباعها، لازال الاعتقاد لدى العديد من الجاثمين على هذا الفعل الإنساني يختزلونه في تلك الجهود الرامية إلى تنمية ملكات الفرد و مساعدته على التكيف الإيجابي مع البيئة، أو أنها في غالب الأحوال تفيد النمو و التغير الذي يحدث في مختلف الجوانب الجسدية والذهنية و النفسية و الاجتماعية للفرد جراء تأثيرات البيئة و ما تفرزه من خبرات لديه و ذلك يتطلب التخطيط لهذه العملية.
1: ىكوستوكيري، مفاتيح التربية السعيددة، ترجمة الدكتور مصطفى لعزوي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1435-2014. ص7.
إن التفكير المحدود بالتربية و العبث بها عبر ما يسمى بالسياسات العمومية و الذي يعدم حضورها وأهميتها في حياة المرء و الجماعة و المجتمع لتكون الأفضلية في معالجة قضاياهم الخاصة و العامة عبر مخافر الشرطة و منابر القضاء و بالإحالة على السجون و الإصلاحيات و على مراكز الطب النفسي و العقلي في أحسن الأحوال، و الذي كثيرا ما ييسر ترخيص استعمال المهدئات و المنشطات التي يراد لها أن تصبح من أكثر السلع المستهلكة في العالم، و التي لا تؤمن علاجا أو تأهيلا أو تمكينا، بل توسع نطاقات العنف و الإحباط و الانسحاب و تيسر سبل التطبيع معها و تكوين مشاعر وهمية للسعادة من خلال تناولها. فالكثير من الموارد الإنسانية التي تهدر في واقعنا المعيش سجينة الإدمان على الاستهلاك بكل صنوفه لتأمين شعور وهمي باللذة و السعادة ولو مؤقتا عبر تلك المهدئات أو من خلال الموارد المخدرة أو المسكرة و التخلص من وقع التوتر الذي أصبح قارا و متفاقما لدى العديد من الناس و من مختلف الأجيال والشرائح العمرية، فالغالبية تشكوا من الآلام و الضعف الجسدي و العجز عن القيام بالأعمال جراء اضطراب التوازن الانفعالي الذي ينعدم في أجندة القيمين على صياغة العملية التربوية كفعل إنساني عمومي يسمع و يقرأ المتتبع لأحواله عبر حقب متعددة بأن تحتاج إلى التخلص من الارتجال و إقصاء البحث العلمي في التشخيص الموضوعي و الميسر لإدراك الإنسان المستهدف من العملية التربوية على المستويات الذهنية و الانفعالية.
إن معالجة قضايا التربية و التكوين لا يمكن أن يتم من خلال خطابات حميمية أو قوانين صادق عليها المشرع أو حتى تأمين بنايات و تجسيرات و احتياجات مادية، بل لا يمكن الاطمئنان لمردوديته بإعداد مواثيق دولية أو وطنية أو من خلال نصوص دستورية مستنهلة من تجارب إنسانية أخرى، ما دام اختزال هذا الفعل في محور من أهم محاوره و هو التعليم داخل الصف الدراسي و الذي لا يكفي لتحقيق غايات الإدراك و التمكين التي ينشدها الفعل التربوي و الذي يضيق أنفاسه و تتلاشى طموحاته عندما يحاصر داخل العمل المدرسي الذي لا يصل إلى تغطية عشرون بالمائة من هذه الثورة معرضا للهدر و التبديد في غياب فعل تربوي يغطي كافة مرافق الحياة اليومية و يرتقي بالمرء من خانة الفرد إلى رحاب الشخص الفاعل.
ولنقول بصدق تمليه قيم التفكير و العمل بالواجب نحو الإنسان و سعادته شخصيا و مجتمعيا، بأن أغلبية المشاريع التي تهم ما يسمى بالتربية و التكوين تتسم بهيمنة هاجس سوق الشغل، و هي هيمنة كثيرا ما تعكس التوتر و القلق و الضغط الطي يعانيه القيمون على صياغة تلك المشاريع و التي غالبا ما تدفع بهم أحوالهم إلى التفكير بعواطف قد تستجيب للمتحكم في سوق الشغل الذي لا يتسم بالاستقرار و قد ينتج شغالين يوظفون للوفاء باحتياجات مؤقتة و لكن لا تسمح بإعداد مفكرين أقوياء على الإسهام في خلق و توسيع أفاق الحياة السعيدة بما في ذلك إبداع أسواق عمل أكثر إنتاجية و فعالية في رفع تحديات الحاضر و المستقبل.
و إذا كان من غير المفيد التفكير بالتربية عبر الوازع العاطفي أو المصالحي و السياسوي أو الربحي تحت يافطة تعليم نافع من أجل شغل منتج. و هو شعار براق يحفز على الإقبال و التعاطف في ظل واقع توظف فيه العطالة كأداة من أدوات الإدارة بالأزمات، و هو ما يبدو واضحا من محتويات المادة الثامنة عشر من مشروع قانون الإطار رقم 17-51 المتعلق بمنظومة التربية و التعليم و التكوين و البحث العلمي التي تختزل الهدف من الإصلاح في انفتاح التعليم على المحيط الخارجي بالتركيز على ملائمة المهن التعليمية و التكوينات مع حاجات سوق الشغل و هو رغبة في توظيف جهود المدارس و مراكز التكوين المهني بمختلف مستوياتها إلى مجرد منشآت لإنتاج القوى الخدمية حسب احتياجات السوق الذي يرفض التفكير و الإبداع فالتعلم حق من حقوق الإنسان لكن بالمواصفات و الأهداف و الغايات التي تحددها الجهات المتحكمة في السوق، و التي تتطلب خداما يتقنون لغات السوق على المستوى العملي و ليس لغات التواصل الحضاري و البحث العلمي و لغات فك العزلة عن الأشخاص أصحاب القدرات المختلفة و التي يتطلب إدراكهم الإتقان الجيد و المتجدد للغاتهم الخاصة و منها مثلا لغة الإشارة للتعامل مع فاقدي القدرة على السمع أو الكلام أو هما معا أو لغة برايل للتعامل مع فاقدي أو فاقدي البصر.
إن السعي الحريص على تشكيل الإنسان بالتركيز على تعميق صيغة الفرد لديه هي إسهام في توسع الاضطرابات الانفعالية لديه، و إعاقة توازنها و عرقلة كبيرة نحو كل تطور لاقتداراته الفكرية و الإبداعية و العملية و العلائقية. و هي صعوبات لا تتحدث عنها المشاريع القانونية و السياسات العمومية القطاعية و التكاملية التي يختصر كل همها في صياغة متنفسات للتخفيف عن عاتق الميزانية العامة من كلفة الإنفاق المخصص للتعليم، و لو تلب ذلك التخلي عن المجانية في تقديم هذا الحق الطبيعي لكل إنسان و حصره في المراحل الأولى من التعليم الأولي إلى حين الإعدادي. فليس هناك قلق بشأن عوامل الاضطرابات التي تطال الواقع الفردي و الجماعي و المجتمعي، و لا يأبه بالتفكير و البحث عن تشخيصها و معالجتها عبر النظام الذي لا يمكن التحكم فيه جراء الصلة الوثيقة التي ترطبه بالطبيعة الإنسانية و الطبيعة البيئية التي تحتاج باستمرار لإدراك متجدد يصعب محاصرته لأن في ذلك محاصرة للمرء وو الحيلولة دون انتقاله من خانة الفرد إلى دائرة الشخص ثم إلى رحاب و فضاءات أعلى تتطور و تتوسع بتوسع و نمو إرادة الإنسان. و هذا يتطلب معالجات جديدة لا تقبل الاستحواذ، معالجات تؤمن العمل التربي المنتج للمفكرين و المبدعين الذين يستطيعون الإسهام المتكافئ في قيادة الواقع بدل الاقتصار على الحرفيين و مشغلي الآلات.
معالجات تؤمن الاستقلالية في التفكير و العمل بصالح الحضارة الإنسانية و ليس لأجل هيمنة السوق. فالتربية كعملية إنسانية تعتني بالمرء منذ المرحلة الجنينية و إلى غاية مغادرته للحياة الدنيا بالتركيز على تمكينه من التميز و الإبداع الذي يصعب على أي مجتمع التقدم من دونها مهما كانت ثرواته المادية. و هذا التمكين يتطلب تفكيرا مركبا يعتمد على البحث العلمي التكاملي لتيسير الإدراك العميق لشخصية المستهدف من العملية التربوية. و هذا يصعب تحقيقه من قبل ذوات تحظى على المساعدات الاجتماعية و تحولها من موقع ليس ع النافلة إلى مكانة الفرض. فالأمر يستدعي ذواتا فاعلة طبيعية و اعتبارية قوية على إعطاء التربية عمقها الإنساني المتحضر، و الذات الفاعلة التي نحتاج إليها في العمل التربوي ليس بالإنسان الكامل أو الاستثنائي و لكنها الشخصية التي يقوم أداؤها الفكري و العملي و التقييمي على قواعد العناية بكل أبعادها الفلسفية و الأخلاقية و الدينية و العلمية و التقنية. إنها الذات القوية على تحليل شخصيتها يوميا و التحليل الذاتي كما يقول إريك فروم،2 لكي يدرك بشكل دائم و فعال نفسه طوال حياته. فهو الفاعل المتعمق على درب البحث العلمي المتجدد لشخصيته بكل بواعثها و دوافعها الاشعورية قويا على رصد مقومات قوته و مكامن ضعفه و لأهدافه و طموحاته و تناقضاته و اختلافاته. فهو الذي يحلل نفسه بين فعل ممارسة التركيز و التبصر تكلفه من ثروته الزمنية تسعون دقيقة في اليوم، يجمع فيها بين مزاولة التركيز و التأمل إلى درجة يصعب الاستمرار و الحضور الفعال من دونها، لأن الأمر لديه يتعلق بتكوين ذوات فاعلة قوية على العناية فكرا و علما و عملا بسعادة الإنسان و ليس قطيعا من الكائنات الحية المحرومة من أي رصيد سيكولوجي يفسر لها معنى الحياة، ولا تنهج التهافت على الريع مهما كانت التكلفة المعنوية و التضحية بحقوق المجتمع بكل أجياله.
2: فن الإصغاء، ترجمة محمود منق الهاشمي، الطبعة الأولى، دار الحوار، اللاذقية، سوريا2013. ص 241.
وعليه، لا تنحصر مسؤولية هذا الصنف من المربيين في الحرص على الوفاء بمتطلبات مستهدفيهم فحسب، بل يكرسون العناية بارتقاء مقومات شخصياتهم و تحصينهم من الوقوع في التشييئ و استباحة الآخرين و تبخيس الإنسان و تحديد سعر للاتجار به عبر تشديد الكيس عليه في غياهب سجون الاستهلاك و جبروت القروض ذات الفوائد الفاحشة، و براثين الذعر و الحرمان و سعير الاضطرابات و التشنجات النفسية، و فقدان مستلزمات الإدراك و التفكير و الانهزام التام للأمراض الانتهازية النفسية و الجسدية جراء الحرمان من الحق في التمنيع النفسي والاجتماعي و المعرفي.
إن المربي القوي على انتشال الإنسان المعاصر في هذه الأوحال المقاومة للتحضر ليس مدرسا أو قيما على عمل تربوي في منشأة أو مركز للأطفال أو الناشئين أو الشباب بل هو الذات الفاعلة التي يحتاجها المجتمع لقيادة كل مكوناته الثقافية و السوسيواقتصادية و السياسية القوية على استثباب ثقافة التحرر من كافة مواطن الاحتجاز و السجن النفسي و السوسيواقتصادي بالتركيز على النهوض بالذهن و تيسير سبل الإدراك و الاقتناع بضرورة الانتقال من خانة الفرد البيولوجي إلى رحاب الذات الفاعلة المتصالحة مع كافة مكوناتها و القوية على الحضور المنتج فكرا و عملا في كل معارك الارتقاء بسعادة الإنسانية.
فغاية المربي هنا تحرير الإنسانية من كافة العوائق المسماة بالنخب و النظم و القوانين و المناهج و البرامج المثبطة للتفكير و الإبداع و الابتكار المعرفي و التقني و جعله حكرا على قلة توظفه في بسط هيمنتها و استبدادها و التحكم في حاضر و مستقبل الأجيال و افتقادها للمتاعات الجسدية و النفسية و الاجتماعية و الحضارية و إغراقها في الفردية المؤطرة بالنرجسية و المدبرة بالعنف و المخدرات و السطو و الإدمان على سوق سموم الاستهلاك مهما كانت تكلفتها، و التي تستفزهم عبر الإشهار و المهرجانات المشوهة للقن و اللقاءات العصبية المسيئة للرياضة و المقررات الدراسية الخالية من العلم و المكرسة للتخلف و الحركات الداعية للانقسامية و التمييز العنصري بين مكونات المجتمع بناءا على وقائع و حسابات لا مسؤولية للأجيال الإنسانية الجديدة عن مخلفاتها.
إن غاية المربي العمل على علاج و تأهيل و تمكين ضحايا النظام التربوي السائد و مقاومة كافة التدخلات المكافحة من أجل تعميق تخلفه متخفية تحت يافطات مشبوهة لا علاقة لها لا بالإصلاح و لا بالتقدم لأن في ذلك ضرر حقيقي بمصالحها المختصرة في حساباتها البنكية داخل البلاد و خارجها، و في كيفية الاستحواذ على القروض والمساعدات و تحويلها إلى فرص يتم اقتناصها عبر الشركات المهيمنة على كل الصفقات العمومية الوطنية و الترابية.
إنها مقاومة حضارية لتحصين الذات الإنسانية ضد كل السموم التي تستهدفها و تعيق نموها بكل أبعاده و تحولها إلى مجرد كائن عدواني مضطرب لا مكان في اهتماماته للمروءة و المعرفة و الحب و العمل و الفكر و الإبداع و المكان و الزمان فكريا و عمليا. و هو سبيل قد يرضي المستبد و النخب المتخصصة في تدبير الاستبداد…، لكنه يضع المجتمع برمته في خطر التمويت النفسي و الاجتماعي الذي كان وسيلة من وسائل الهيمنة السياسية في جهود سابقة حسب إريك فروم، سينقل إلى زلزال إنساني و في أعلى الدرجات على سلم الخطر يصعب مجابهته بأي زلزال أخر سياسي أو اقتصادي أو أمني أو إداري.
فهل بالإمكان فتح الحوار الحر و الطليق و الملزم لكافة أطرافه على المستويات المحلية و الإقليمية الوطنية و القطاعية بإشراف علمي مستقل عن كل ما هو سياسي أو إداري أو اقتصادي أو إثني يمنح للمرء في مختلف مراحل حياته معارف علمية و تقنية متجددة يرفع من وعيه بأن التربية عملية إنسانية توظف المعارف و العلوم و التقنيات من أجل إدراك الإنسان و تمكينه من اقتدارات و مهارات الولوج السليم و الجيد و المتجدد للحياة و تصنيعها و الإسهام في قيادتها؟
هل بالإمكان الإقدام على قيام الحياة العامة بكل أبعادها و مؤسساتها و أجهزتها على قاعدة التربية و فق المنظور السالف ذكره؟
هل بالاستطاعة وضع حد للعبث بالتربية و التكوين و تحريرها من الاحتلال و عملائه في الداخل؟
إن تحديات الواقع لا يمكن رفعها وفق تصورات الوهم، أو أطماع السوق أو بالاعتماد على ما يسمى بالنخب المنفعلة أو الممتثلة، و لكن بالتربية و التكوين القوية على تدشين البلاد لمرحلة حضارية جديدة قوامها المعرفة و الفكر و الإبداع و الاختراع بذوات فاعلة بالفكر و المعرفة العلمية و التقنية. الذوات الفاعلة كمنتوج خالص لتربية و تكوين تستطيع باختراعاتها و ابتكاراتها و معايير أنجع الارتقاء بديناميات المجتمع و تواجده الفعال داخل مسارات الحضارة الإنسانية.
هذه الذوات الفاعلة هي الأقوى على إبداع منظورات جديدة للمجتمع و المشاريع المجتمعية و للمؤسسات و الأجهزة و الثقافة و التدين و العدالة و الإنصاف و الأمن بالإضافة إلى الاقتصاد و السياسة و التقدم الحضاري، لأنها ذوات قو على إنتاج المعرفة و تقاسمها مع الآخرين و تحرير القدرات لديهم و عدم محاصرتهم في حدود استعمال المعرفة أو استهلاكها فقط، بل بتوسيع السبل لإبداعهم لمعارف علمية و تقنية و إبداعات أرقى نجاعة و إنتاجية.
إن الذات الفاعلة التي يجب توخيها من التربية و التكوين لا تقبل المجتمع العمالتي التابع الخاضع لمتحكمات المجتمع المفكر و المخترع و المنظر و القائد الملهم، المتبوع الذي يقوده من يسميهم أحد الوزراء الأمريكيين السابقين “إريك A.REICH” المتلاعبون بالرموز.3
فالذوات الفاعلة لا تقبل بمجتمع التلاعب بالرموز من لدن ما يسمى بالنخب الأوليغارشية المحتكرة لمقومات الفكر و الإبداع و الابتكار و الجثم على المقدرات و المعلومات المتعلقة بمصير المجتمع و نسميها أوراق و استراتيجيات و مفاهيم و خبرات و صناديق سوداء، فليس هناك تقدم لأي مجتمع معاصر يقوم على نخب متخصصة و لكن على الذوات الفاعلة ذات التخصصات المتكاملة التي ترفض التمييز و تنشد تأمين التمكين كحق من حقوق الإنسان المتمثل في امتلاك القدرات و المهارات و كافة شروط إنجاز الفعل الحضاري بثقة و أمانة و علمية متجددة لا تقبل بتحكم السوق المنتج للأحقاد الاجتماعية و الظلم الاقتصادي أو الترف المنتج للتخلف الفكري و التبلد الحضاري كما هو حال البلاد المترفة طبيعيا و الفقيرة فكريا و علميا.
إن الإرادة المتطلعة إلى تشييد مجتمع الذوات الفاعلة القوية على تصنيع المعرفة و إنتاج الفكر و العلم لا تقبل التمييز في التربية و التكوين بين أبناء المجتمع الإنساني لأنها تصبوا إلى التكامل مع المجتمعات الإنسانية الأخرى و ليس السيطرة عليها أو الخضوع لها.
فهل هذه الإرادة متوفرة في التوجهات الحالية؟ بكل تأكيد لا بدليل أن القيم على السياسة خاضع للمتحكمين في السوق الذين أفرغوا ما يسمى بالنخب عامة و التكنوقراطية خاصة من كل محتوى قيمي نبيل و حولوها إلى عصابات للنهب و الاستحواذ و الهيمنة و استثباب الإدمان على الاستهلاك و امتهان القدرات و احتقار الذكاءات و العجز عن القيام بأبسط الأعمال جراء التربية على الاستيلاب و الانسحاب و العنف و التحايل على العيش.
3 :Duram part.Michel (coordonne par) : societe de connaissance. Fractures et evolutions. Ede CNRS.Paris 2009. P27.
كما يتجلى في المقررات (الإصلاحية) الجديدة التي فرضت لتدريس أطفال اليوم لتأمين تبعيتهم للقيمين على السوق وخدامهم من السياسيين و الإعلاميين و الجمعويين و النقابيين و يعطى المحسوبين على البحث العلمي و على الفن و على الرياضة و الثقافة و حقوق الإنسان الكثير من المفسدين المتسترين وراء الحداثة المتبرءة منهم براءة الذئب من غيض يوسف.
إن الدعوة إلى التركيز العلمي و العملي الرسمي و الطوعي على بناء و تأهيل الذوات الفاعلة كشرط للانتقال الحضاري، تستدعي كافة القوى الغيورة على الإنسانية إلى الانخراط في ميادين حضارية من أجل إسهامات إيجابية في صياغة عمل تربوي قادر على بناء الذوات الفاعلة قوية على تخليص الإنسانية من التسلط و الاحتكار و الحرمان واستغلال المعرفة و العلم و التقنية في إعدام التمكين الإنساني و هيمنة نخب الاحتيال التاريخي التي تشكل العائق الحقيقي أمام نمو شخصي أو جماعي أو مجتمعي متحضر.