الدارجة المغربية وتدريس اللغة العربية
تقديم
آراء أخرى
طرح إدراج مصطلحات “دارجة” في المقرر الدراسي نقاشات حامية، تقاسمها تياران أساسيان؛ الأول دافع عن فكرة إدماجها، ولا يرى ضيرا في جعلها وسيلة للتدريس، وأداة للاستئناس في الكتب المدرسية دورها تيسير التواصل بين المتعلمين والمادة المعرفية. والثاني كان أكثر صرامة في تعامله مع الموضوع، من خلال دعوته إلى عدم المساس بجوهر اللغة العربية باعتبارها اللغة الرسمية إلى جانب اللغة الأمازيغية في دستور المملكة المغربية.
والحال أن النقاشات كانت في كثير من الأحيان أبعد ما تكون عن سياقها التعليمي، لتعبر مرة أخرى عن الانقسامية التي يعرفها المجتمع المغربي بين ما يمكن تصنيفهم ب”الحداثيين” الداعين إلى عدم تقديس اللغة العربية وفصلها عن المكون الديني باعتبارها لسانا القرآن المشترك بين جميع المغاربة. وبين “المحافظين والقوميين” المدافعين عن اللغة العربية ضد ما يعتبرونه الهجوم المنتظم والمقصود ضدها.
وتفاعلا مع هذا الخليط من النقاش العمومي حيث تمتزج السياسة بالثقافة والتربية في محاولاتها لتفسير موقع المصطلحات الواردة في الكتاب المدرسي الخاص باللغة العربية، تحاول الورقة دون انسياق مقصود لأحد التوجهين، تقديم تفسير من زاويتيه البيداغوجية والديداكتيكية. ويطرح الموضوع بمستويين، أول يتعلق بدور اللغة الأم في تدريس اللغة الأجنبية، وثان بموقع الكلمات الدارجة المدرجة في الكتاب المدرسي.
أولا: في علاقة اللغة “الأم” باللغة “الأجنبية”
تنتمي اللغة الأم لدى الطفل إلى خبرته المباشرة والحميمة، تم تطويرها بشكل عفوي من خلال التجارب التي أحدثها الاتصال ببيئته المباشرة. إنها ليست بالضرورة فعلا تفاعليا وعقلانيا مفكرا فيه، إنما أقرب لتشكيلة تميل للارتباط بالحياة العاطفية وتطورها تعبر عن تنظيم ذاتي يشير إلى تلك العلاقة الحميمة التي ربطت الطفل بمحيطة. لذلك نجد مسار اكتسابها لا يخضع لنفس المسار الذي يسلكه تعلم اللغة الأجنبية، وهي الملاحظة التي ميزت منظور فيجوتسكي (VYGOTSKI L., Pensée et langage, 1985) حين اعتبر أن الطفل يستوعب داخل المدرسة لغة أجنبية بشكل مختلف تمامًا عن كيفيات تعلم لغته الأم، وهذا الاستيعاب يتبع مسارًا متعارضًا بشكل مباشر مع ذلك المأخوذ من تطور اللغة الأم. إذ لا يبدأ الطفل في استيعاب لغته الأم من خلال دراسة الأبجدية والقراءة والكتابة، ومعنى الكلمات، وفهم القواعد، وتفكيك بنية الجملة، وكل الأشياء التي عادة ما تشكل بداية تعلم اللغة الأجنبية. فالطفل يكتسب لغته الأم على عكس اللغة الأجنبية بطريقة غير واعية وغير مقصودة. وإذا أمكن القول، إن تطور اللغة الأم ينطلق من الأسفل نحو الأعلى على عكس اللغة الأجنبية التي تكتسب من أعلى إلى أسفل. ولكن أية علاقة يمكن أن تربط اللغتين من الناحية البيداغوجية والديداكتيكية؟ وإلى أي حد يمكن الاستعانة باللغة الأم لتعليم اللغة الأجنبية؟
البحث عن جواب لهذا التساؤل يحيل على منظورين متناقضين، الأول تجسده المدرستان السلوكية والبنيوية، لا يعطي أي دور للغة الأولى في تعليم اللغة الثانية، يعزل هذه الأخيرة ويجعل اكتسابها عملية مستقلة تماما عن كل تدخل أو تأثير مباشر للغة الأولى. فهذا المنظور يقوم على التفرقة والتمييز بين الأنظمة اللغوية، تعبر فيه كل لغة عن كيان مستقل في حد ذاته، لا يختزله ولا يحتويه أي نظام لغوي بديل، باعتباره تصنيفا خاصا وهيكلة ذاتية للواقع.
من الناحية الديداكتيكية، يقيم هذا التصور قطيعة مطلقة بين اللغة الأم واللغة الأجنبية، ولا يعترف بأي دور للغة الأولى في السيرورة التعليمية الخاصة باللغة الثانية. كون اللجوء إليها يؤدي إلى تداخلات (Interférences) بين اللغتين، بما يرافق ذلك من تعدد للأخطاء في السيرورة التعلمية. لذلك أصر المنظوران البنيوي والسلوكي على إنشاء فصل حقيقي بين اللغتين أثناء التعلم. وتعتبر المقاربة السلوكية إحدى أشهر المقاربات البيداغوجية التي عرفت انتشارا واسعا خلال ستينيات القرن العشرين، والأكثر تجسيدا لهذا التصور في المجال التعليمي.
في هذا التصور ينظر للغة الثانية كمعرفة مستقلة على غرار المواد الدراسية الأخرى، يقتصر دور البيداغوجيا على البحث في الصيغ الممكنة لوضعها بشكل سلس داخل ذاكرة التلاميذ، الفارغة من كل مكتسبات سابقة، ومعلمات لغوية (Repères linguistiques) مكتسبة صاحبت تعلم اللغة الأولى. لذلك تبقى على استعداد دائم لاستقبال القالب اللغوي الجديد وجعله جزءا موازيا للقوالب اللغوية السابقة. ومنه، يصير موقع العقل في هذا المجال هامشيا بل سلبيا، يقتصر دوره على استقبال المعلومات الخارجية تسهيلا لعملية شحن الذاكرة من البنيات والمعجم الخاص باللغة المستهدفة من التعليم.
سيمكن النهج المعرفي من معاكسة المنظور السلوكي والبنيوي لتعلم اللغات الأجنبية، بإعطاء وضع(Statut) جديد للدماغ البشري، ومنحه دورًا مستقلًا يسمح له بالمشاركة بفعالية في استكشاف وفهم المجال الحسي والإدراكي للطفل، لا يقتصر دوره على نقل البيانات (La transmission) المستقاة من المحيط والتجارب الفردية، وإنما يمنحه قدرة ناجعة على تحويلها وإعادة هيكلتها وترتيبها وفق أنماط خاصة به. ومن ثم، يمكن من الناحية العملية تجاوز تلك التمايزات والاختلافات الطبيعية بين اللغات، واستثمار أنماط العمل المشتركة أو المتشابهة بين اللغات لتطوير ممارسة ديداكتيكية فعالة تسمح بتسهيل تعلم اللغات الأجنبية انطلاقا من اللغة الأم.
أما إشكالية التداخل اللغوي من منظور التيار المعرفي، فلا يتم تجاوزها على أساس عملية نسخ طبقة لغوية فوق طبقات لغوية سابقة كما يراها المنظور البنيوي، وإنما يتطلب حله المرور عبر عالم التمثلات الخاصة بالأطفال. حيث تمثل البنيات والقوالب اللغوية المكتسبة والمنتظمة داخل اللغة الأم، ومجموع القواعد والمعايير التي تستند عليها، تلك المساحة التي تنبني عليها اللغة الثانية، فهي تشكل إطارها المرجعي يعطي معنى للقواعد الأصلية الخاصة بالنظام اللغوي الجديد.
وبصرف النظر عن الاكتساب البسيط للمعرفة في معناها الشامل، يكمن التعلم الفعال في الانطلاق من بنيات معرفية مثبتة لدى الأفراد سماها جون بياجي شيمات (Schèmes)، والانتهاء إلى اكتساب أخرى جديدة أو تطوير القائمة منها كنتاج لتفاعل الفرد والمجتمع أو موضوع التفاعل، أي استناد الوظيفة الجديدة على الوظيفة أو الوظائف المثبتة بالفعل. وهو ما يشكل سيرورة التحول والتطور الفعلي لدى الأفراد، في إطار ما سماه بياجي ” التنظيم الذاتي” اعتمادا على عمليتين عقليتين رئيسيتين؛ الاستيعاب (Assimilation) وظيفتها استقبال المعلومات المستقاة من البيئة ووضعها في تراكيب معرفية متوفرة أصلا لدى الفرد، والمواءمة(Accommodation) وظيفتها تعديل وتطوير وتصحيح الأبنية المعرفية القائمة وإثرائها لتطوير توجهات جديدة وجعلها أكثر قدرة على التعميم وتكوين المفاهيم.
لهذا التوضيح في اكتساب المعرفة من منظور بياجي، أهمية في تحليل العلاقة القائمة بين بين اللغة الأم واللغة الأجنبية، بحيث نجعل من الأولى وظيفة استقبال أو شيمات مكتسبة، يتأسس عليها تعلم النظام الخاص باللغة الأجنبية، والذي يفترض وجود نظام فعلي من المعاني داخل اللغة الأم. ففي تعلم اللغة الأجنبية، لا يحتاج الطفل من جديد تطوير دلالات لغوية للأشياء، وتشكيل معانٍ جديدة للكلمات، واستيعاب مفاهيم جديدة للأشياء، بل في حاجة لاكتساب معجم جديد يتطابق ونظام المفاهيم المكتسب سابقا داخل المنظومة المعرفية الخاصة باللغة الأم. والمصطلح الأجنبي الذي يستوعبه الطفل حول “الشيء” لا تربطه علاقة مباشرة به، بل يرتبطان من خلال علاقة الوساطة التي مارسها مصطلح اللغة الأم حول الشيء نفسه.
من الناحية الديداكتيكية، يمكن للغة الأم أن تمثل لغة للتواصل، تسمح بتسهيل التفاعل داخل فضاءات الحياة المدرسية. ويمكنها كذلك أن تصير لغة للتدريس، باعتبارها حاملا (Vecteur) شفويا –أو كتابيا- لنقل المعرفة لجميع المواد، بما في ذلك اللغات الأجنبية المستهدفة من التعلم، لتسهيل تعلمها في إطارها المعياري، وتمكين الأطفال من جوانبها النحوية والمعجمية؛ المكتوبة والمنطوقة. فاستعمالها متاح كأداة ميسرة (Médiateur) للتعلم داخل المدرسة، وهو استخدام حيوي ومشروع، بل وضروري في كثير من الحالات (الرياضيات والعلوم).
2. في موقع المصطلحات “الدارجة” المدرجة بالكتاب المدرسي
انتهى الموضوع في النقطة الأولى مع المنظور المعرفي، إلى رسم علاقة إيجابية بين اللغة الأم وتدريس اللغة الأجنبية. فهي من جهة، مكتسب سابق ينطلق منه تعلم اللغة الأجنبية مستندا على تمثلات الأطفال تجاه فكرة اللغة، وعلى بعض الخرائط والبنيات اللغوية المكتسبة. فاللغة الأم في هذا التصور تمثل “شيمة” لدى الطفل ينطلق منها لتعلم اللغة الأجنبية باعتبارها “شيمة” جديدة. من جهة ثانية تمثل أداة للتواصل داخل الفصل الدراسي تسهل تمرير المحتوى الدراسي وتيسير تحقيق التعلمات. فكلما تعسر الوصول للفهم من قبل التلاميذ، يمكن للغة الأم أن تصير معينا ديداكتيكيا يسمح بتجاوز المعيقات ذات الطابع اللغوي. ولكن، هل يمثل إدراج مصطلحات “دارجة” في الكتاب المدرسي في إطار هذه العلاقة الإيجابية التي تربط تعلم اللغة الأجنبية باللغة الأم؟
يعد الكتاب المدرسي آلية من بين الآليات المتاحة أمام المدرسة لتمرير المنهاج الدراسي الصريح والمعبر عن السياسية التعليمية للبلد. فهو يشكل بذلك حاملا ديداكتيكيا للأبعاد الثقافية للمجتمع بكل تلاوينها وأشكالها. وتنوعه وتعبيره عن الاختلافات بل والتناقضات الفردية والجماعية يجسد ديموقراطية الفضاء التعليمي (المنظور الديموقراطي للتربية عند ديوي- Dewey, education and Democracy-). وفي إطار هذا التوجه، يمكن إيجاد شرعية بيداغوجية لإدراج شتى أنواع الثقافات المحلية والتعبيرات الشعبية خاصة المتداولة بشكل مشترك بين غالبية الأفراد، و”البريوات” والبغرير” و”الغريبة” باعتبارها مفردات ضمن الثمان المفردات التي أدرجت في الكتاب المثار للجدل. جميعا تعبر عن مشترك ثقافي لا يحيل فقط على معنى ومضمون المفردات نفسها، بل على جزء من الحياة الاجتماعية والثقافية، والدينية على وجه التحديد. فالأطباق المعنية رمز من الرموز المعبرة عن الهوية الثقافية للمغاربة؛ الأعياد الدينية ومختلف المناسبات الاجتماعية. فهل كان الكتاب المدرسي الخاص باللغة العربية الحامل البيداغوجي المناسب والسليم للقيام بذلك؟
الجواب على التساؤل يفترض اللغة العربية الفصحى لغة أجنبية مقارنة باللسان الدارج، كون كل منهما يقوم على نظام خاص به، وبهيكل محدد مختلف عن الآخر، مكون من قواعد تربط بعض الرموز الخاصة من كلمات وجمل بمعان معينة (تعريف دي سوسير). وهذا الفصل أساسي لتجاوز بعض المقاربات التي تجعل اللغة العربية “لغة أم” داخل الدول العربية “دستوريا”. ولأن تدريس اللغة العربية في المستوى الأول من السلك الابتدائي يستهدف تطوير كفاية لغوية خاصة بالمادة، تتمحور حول فهم المسموع والمقروء وإنتاج نصوص شفهية وكتابية… اعتمادا على الرصيد المعرفي والمعجمي والقيمي وعلى البنيات اللغوية المكتسبة بشكل مستضمر (مستجدات المنهاج الدراسي للسلك الابتدائي، 2018). فإن تنمية تلك الكفاية اللغوية يستلزم في جزء منها تطوير “معجم” خاص باللغة العربية، معجم ينتمي إليها وليس غريبا مستمدا من لغات أجنبية. وهنا تطرح المصطلحات “الدارجة” إشكالا بيداغوجيا يعيق تعلم اللغة العربية. فهي تظل معجما لا ينتمي للغة العربية المعيارية، ومن ثم، لا يمكن استعماله في إنماء وتطوير الكفاية المستهدفة في المستوى الأول.
من الناحية الديداكتيكية، لا يمثل استعمال المصطلحات الدارجة في كتاب اللغة العربية أداة للتواصل يسهل تمرير معجم اللغة المستهدفة. وبالرغم من كونها اصطلاحات قد تتضمن تحفيزا على الاكتساب لارتباطها بالواقع المعيش للمتعلمين وهو ما يتوافق ومبدأ “الملاءمة وإعطاء معنى للتعلمات” الوارد في المستجدات نفسها (2018، ص. 44)، فإن ورودها في شكل معجم دخيل عن اللغة العربية يفقدها دورها وخاصيتها الديداكتيكية. فإعطاء المعنى للتعلمات لا يعتمد على ترويج معجم خارجي عن المادة، وإنما وضع اللغة المقصودة من التعلم في سياقات معاشة وقريبة من التلاميذ تجعلهم يستشعرون أهميتها ووظيفتها العملية (استعمال التراسل…).
وحتى إن كان إدراج الدارجة يمثل تمريرا لشكل من أشكال الثقافة المغربية، باعتبارها إحدى الوظائف الرئيسية للمدرسة الديموقراطية الحديثة، إلا أن عملية التمرير لا يمكنها أن تتعارض والأسس الديداكتيكية التي تقوم عليها عمليات تدريس اللغات المعيارية. فاستعمال الاصطلاحات الواردة في كتاب اللغة العربية “البريوات” مثلا في الرياضيات في أنشطة العد، بتضمين مجموعات مكونة من أعداد محدودة من البريوات و”الغريبة” و”البغرير”، ومطالبة المتعلمين بتعدادها وكتابة الرقم أسفلها، يعتبر نشاطا بهدف تعلمي رياضياتي بحامل ثقافي ذو معنى بالنسبة للتلاميذ.
ومنه، ننتهي إلى القول أنه، بالرغم من الدور المركزي للغة الأم في تدريس اللغات الأجنبية استنادا إلى خلاصات التصور المعرفي للتعلم، إلا أنه يصعب إيجاد مسوغات بيداغوجية لحضور المصطلحات “الدارجة” بالصيغة التي تم إدراجها في كتاب اللغة العربية. فتطوير اللغة وإيجاد الترابطات بين اللغة الأم “الدارجة” واللغة العربية المعيارية، إنما يبقى مجالا لاشتغال واجتهاد اللسانيين قبل أن تكون عملية تندرج ضمن الأعمال التي يمكن للسياسة التعليمية القيام بها.