في علم النفس الاجتماعي الذي يهتم بالإضافة الى السلوك الفرداني وطبيعة المجتمع وتحولاته السوسيواجتماعية والثقافية والبيئية، يقارب أيضا التأثيرات الأخرى المرتبطة بالمحيط ودينامية الجماعة، وهو يحيل إلى مكامن تلك الخصائص النفسية وأنماط التفاعل الاجتماعي والتأثيرات التبادلية بين الأفراد.
    موضوع يفتح الشهية لقراءة المتن السياسي المهلهل لرئيس حكومتنا الموقر السيد العثماني، الذي استعصى على الفهم واستحال إلى جهاز مفاهيمي حقيق بالنظر وإعادة التفكير والمحاججة النفسانية والبيولوجية الطبية ، حسب تأويل نظرية عالم النفس الاجتماعي ليون فستنجر، الذي يقول بأن الناس يُصَابون بالقلق عندما يصل إلى علمَهم معلوماتٍ جديدة تتعارض مع ما كانوا يعتقدونه من قبل. ويرى أن الناس قد يقومون بفعل الكثير كي يتجنبوا هذا القلق.
    فستنجر سمى هذا الهاجس الاكتئابي بالتنافر المدرك. وهو ما أصاب رئيس الحكومة تماما. ففي الوقت الذي تلح فيه جماعته بقلقها إزاء حليفها الحكومي الذي أضحى زعيما افتراضيا لأغلبية الحكومة الهجينة، مطالبة بإعادة صياغة وتقييم عاجل لوضعية التحالف الرخو، ينافح العثماني باقتدارية عبثية غريبة الإبقاء على الوضع الكارثي للحكومية دون نقص ولا زيادة. والأدهى والأمر بحثه عن تبريرات براغماتية جديدة رتقا لما يعتقد أنه السبيل الوحيد للتخفي خلف الكرسي ، وانكبابه غير المفهوم لتذويب حدود التفاهمات الجارية في الكواليس، والتي تربط وجود البيجيدي بالحلفاء الأعداء الذين نزلوا بمظلاتهم تحت أعين القصر وبتزكية مفتوحة على كل الخيارات والسيناريوهات.
    من يقرأ آخر تصريحات العثماني التي يبدد فيها كل الشكوك القائمة حول مدى قدرته على الاستمرار في تحمل أوزار إخفاقاته وتنازلاته، يدرك تماما كيف تستطيع الطعمة الاخوانجية على المناورة والاسترضاء وتجفيف منابع السخط وتكريس فوبيا الخوف من مستقبل البلاد. 
     بالعودة إلى نظرية ليون فتسنجر، هناك ما يحيل إلى أن المسؤولين الذين يعتقدون بفشلهم الذريع يتجنبون النجاح دائما حتى ولو كان من السهل عليهم الحصول عليه، إذ إن نجاحهم سيتعارض مع اعتقادهم في أنفسهم بوصفهم أشخاصا فاشلين.
وهو ما وقع للعثماني بالضبط والربط. الرجل يدرك بحسه السيكولوجي، وهو مجال اشتغاله المهني، أن فائض الوقت يزيد عن حاجة البلاد إلى تغيير الوجوه والبرنامج والاولويات، ويضعنا في مأزق اللاعودة تحت وابل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية داخليا وخارجيا. ومع ذلك يلح على السقوط وتحويل الأنظار إلى المتاهات والتعطيل الفج لمدخرات الدستور وفعالياته.
    في القصة الأخيرة التي تجاسرت فيها مواخير أغلبية العثماني تراشقا وشتائم واتهامات وتعريضات، وصلت في أحايين للقطيعة والقتل السياسي، صرح الأخير وقلبه بين يديه أن التراشق إياه لن يؤدي لسقوط الحكومة ولن يسهم البتة في تفككها، مهما حصل من نقاش داخلي أو سجال، مشبها ما وقع بين البيجيديين والتجمعيين هو نفسه ما يقع بين الأزواج!؟
وما دام التراشق بالشتائم جزء من الفهم السطحي للمدلول المغاير حول مفهومية التراشق كتعبير عن “التناضل” أو “التبادل” أو “الترامي” أو ” التقاذف” فإن الاستعارة السياسية تطمس المعنى المفتوح للتراشق كفلسفة حراكية تصحيحية نقدانية، تبغي التوجيه والإرشاد والرغبة في الإصلاح. وهو تماما ما تستنتجه عفوية وعقلانية العثماني، الذي كانت له يد السبق في جمع ما لا يجمع وفك ما لا يفكك ودحض ما لا يؤول؟!
   إن اعتبار زواج البيجيدي بالتجمعيين الاحرار دون مراعاة لطريقة العقد وشهوده والتزاماته ومآلاته هو سقوط آخر في نزوعات أيديولوجية وردود أفعال مرضية، ناتجة عن ضغوطات سياسوية وعجز خفي عن السيطرة على مثيرات حزبوية، وسيكون لهذا الارتكان غير المحسوب تداعيات خطيرة، ما بين الكراهية والعدوان، حيث الكبث واجهة للتخلص من الطاقات والمشاعر المحمولة على المجتمع، وحيث الدوافع تتحول من الكراهية إلى رفض العيش وقابلية إعدام الآخر.
     في كتاب جديد لعالم النفس الاجتماعي ديفيد ماكريني بعنوان (أنت لست بهذا الذكاء) يروي المؤلف جانبا سيكولوجيا خفيا في شخصية الفاشل المدعي، كونه يريد أن يتقمص دورا لا محدودا أقل بكثير من طاقته العقلية، وسرعان ما يصطدم بأفعال واستنتاجات خارج السيطرة!.
    ماكريني يقول إن الفاشل الكذوب لا يتعلم من أخطائه ويحجم عن الإنصات للمجتمع، وفي الوقت ذاته يتصور أن العالم كله يخشى نجاحه!.
   الذكاء يا سيدي رئيس الحكومة لا يعني أن تكون أفضل من الآخرين، مثلما سبقك أولوا العزم من قادتك الذين خابت ظنونهم وذهبوا إلى مزبلة التاريخ، بل أن تكون أفضل مما كنت عليه سابقا، حيث فقه النوازل والتشريع الفقهي والحدود والقصاص وعلوم الإحالة والمقاصد … إلخ.

    بل الذكاء يعني من ضمن ما يعنيه الحنكة والدربة على فعل الأفضل ومعرفة اجتذاب نقط القوة وابتكار التجارب واستغلال الفرص وتنظيم الأفكار وترويضها على الفعل الميداني والتعلم من الغير .. وفوق ذلك كله إسعاد الآخرين.
    ولم يفت ماكريني إعادة صياغة سؤال الشر بعد تقديم أجوبة عقلانية حاسمة في ماهية الذكاء والغباء والتغافل. لقد أورد مآلية الشر كنتيجة فارقة بين الخطأ والفجاجة، حيث تسكن الأنا المتضخمة ضمن بوليصة مفتونة بالضياع والمتاهة، فكان السؤال المقابل صريحا سابرا لحالة حكومتنا العثمانية الميؤوس منها : 

  – لماذا يتحول الصالحون فجأة إلى أشرار؟
على افتراض أن السيد العثماني كان إلى عهد قريب، شأنه شأن باقي أعضاء حركته وحزبه يزعمون الصلاح والتقوى ويقيمون الشعائر ويحدون الحدود ويرتقون المدارج العليا!.
فسبحان مغير الأحوال الذي يغير الحال إلى حال ويسخر حظوظ الدنيا إلى ما يعلم ، حيث يصرف الشر وينذر بمآلات الأشرار!.