الحدود الانتقائية: التمييز في التحركات والهجرات العالمية
تشهد الهجرات العالمية في القرن الحادي والعشرين تحولات عميقة تعكس التغيرات السياسية، الاقتصادية، والاجتماعية التي يشهدها العالم. هذه التحولات لم تعد مجرد تعبير عن حركة بشرية تقليدية نحو البحث عن فرص أفضل، بل أضحت عنصرا مركزيا في سياسات الدول الكبرى التي تسعى للحفاظ على هوياتها الثقافية والعرقية في مواجهة ما تراه تهديدا لتوازناتها الداخلية. على الرغم من أن الهجرة كانت ولا تزال جزءا لا يتجزأ من التاريخ البشري، حيث ساهمت في تشكيل الحضارات والتبادل الثقافي بين الشعوب، إلا أن العقود الأخيرة أظهرت تحولا ملحوظا في طريقة التعامل مع هذه الظاهرة.
آراء أخرى
في الوقت الذي تزداد فيه معدلات الهجرة نتيجة للتغيرات المناخية، الحروب، وتدهور الأوضاع الاقتصادية في العديد من دول الجنوب، نجد أن الدول المتقدمة تعتمد سياسات انتقائية صارمة للتحكم في تدفقات المهاجرين. هذه السياسات تعكس بشكل جلي الخوف من فقدان الهوية الثقافية والعرقية في هذه الدول، حيث أضحت مسألة الهجرة ليست مجرد قضية أمنية أو اقتصادية، بل مسألة وجودية بالنسبة للعديد من الحكومات التي تسعى للحفاظ على تماسكها الاجتماعي. في ظل هذه السياسات، أصبح المهاجرون يعاملون ليس بناء على حاجة إنسانية أو التزام بالقيم العالمية التي تدعو إلى التضامن بين الشعوب، بل بناء على معايير عرقية ودينية تحدد من له الحق في العبور ومن يجب أن يمنع.
مع تزايد شيخوخة السكان في العديد من الدول المتقدمة، ونقص اليد العاملة المحلية نتيجة لانخفاض معدلات الولادات، أصبحت الهجرة عنصرا ضروريا لاستمرار النمو الاقتصادي. ولكن بالرغم من ذلك، فإن الدول التي تواجه هذه التحديات الديموغرافية لا تزال تفضل الحفاظ على السيطرة الصارمة على من يدخل إليها، مستندة إلى معايير ثقافية ودينية تجعل من الهجرة “المقبولة” مقيدة لمجموعات معينة فقط. هذا التوجه يظهر بوضوح في السياسات التي تعتمدها هذه الدول، حيث يتم تفضيل المهاجرين الذين يعتبرون أكثر “انسجاما” مع القيم الثقافية أو الدينية السائدة على حساب أولئك الذين قد يعتبرون تهديدا لهذه الهوية.
تواجه العديد من الدول النامية ضغوطا كبيرة بسبب الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، ما يدفع بموجات هائلة من المهاجرين إلى البحث عن فرص أفضل في دول الشمال. ولكن مع سياسات الهجرة الانتقائية التي تمارسها الدول المتقدمة، يجد هؤلاء المهاجرون أنفسهم محاصرين بين حلم تحسين أوضاعهم المعيشية وبين واقع الحدود المغلقة والسياسات التمييزية. في هذا السياق، أصبح التدفق البشري اليوم أكثر تعقيدا من أي وقت مضى، حيث تلتقي فيه الحاجة الاقتصادية للدول المتقدمة بنقص اليد العاملة مع الرغبة في الحفاظ على التوازن العرقي والثقافي.
بالإضافة إلى الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية للهجرة، فإن هذه الظاهرة أصبحت أيضا وسيلة لقياس مدى التزام الدول بالقيم الإنسانية التي تدعو إلى التضامن والعدالة. في حين أن العديد من الحكومات تتبنى خطابات تدعو إلى احترام حقوق الإنسان وتوفير الحماية للمهاجرين واللاجئين، فإن الواقع يظهر تناقضا واضحا بين الخطاب والممارسة. على أرض الواقع، تعتمد الدول الكبرى سياسات تهدف إلى حماية مصالحها الضيقة، حيث يتم انتقاء المهاجرين بناء على قدرتهم على “التكيف” مع المجتمع المضيف أو بناء على معايير عرقية وثقافية ودينية محددة.
الهجرة، كما كانت دائما، تعتبر عنصرا رئيسيا في التقدم الاقتصادي والاجتماعي للدول. فالمهاجرون يلعبون دورا حيويا في سد الفجوات في سوق العمل، خاصة في القطاعات التي تعاني من نقص في اليد العاملة المحلية. ومع ذلك، فإن الخوف من التغير الديموغرافي والضغط الثقافي جعل هذه الدول تتبنى سياسات قمعية تجاه الهجرة. بدلا من الاستفادة من التدفقات البشرية لدفع عجلة النمو الاقتصادي وتطوير المجتمع، أصبح التركيز ينصب على كيفية الحد من دخول المهاجرين غير “المرغوب فيهم” لضمان استمرار الهيمنة العرقية والثقافية.
الهجرة اليوم ليست مجرد قضية تتعلق بالفقر أو الحروب أو الفرص الاقتصادية. إنها قضية ترتبط بالسياسة العالمية، حيث تتحكم الدول الكبرى في تدفقات البشر بناء على معايير تخدم مصالحها الاقتصادية والثقافية. وبينما تظل الهجرة ضرورية لاستمرار نمو هذه الدول بسبب نقص اليد العاملة وتناقص معدلات الولادات، فإن السياسات التمييزية تعرقل هذا التدفق وتحصره في نطاق ضيق لا يخدم سوى فئات محددة من المهاجرين.
في نهاية المطاف، تبقى الهجرة عنصرا محوريا في تطور المجتمعات الإنسانية، ولا يمكن لأي دولة أن تتجنب هذه الظاهرة أو تقف أمامها دون دفع ثمن باهظ على المدى البعيد. سياسات الانتقاء والتمييز قد تؤدي إلى تعزيز الهيمنة الثقافية والعرقية على المدى القصير، لكنها في الوقت ذاته تهدد بتفاقم التوترات الاجتماعية والاقتصادية، سواء في الدول المستقبلة أو الدول المصدرة للمهاجرين. ولذا، فإنه من الضروري إعادة التفكير في هذه السياسات بما يتماشى مع القيم الإنسانية والعدالة العالمية، لضمان تدفقات بشرية تسهم في بناء مجتمعات متنوعة ومستدامة.
الولايات المتحدة: دولة حديثة بجذور إقصائية
تعتبر الولايات المتحدة نموذجا بارزا لدولة حديثة قامت على أسس الإقصاء العرقي والثقافي، إذ تم تأسيسها بعد سلسلة من المجازر والإبادة التي تعرضت لها الشعوب الأصلية التي عاشت على هذه الأراضي لآلاف السنين. رافق هذا التأسيس الاستعماري عمليات طرد ممنهجة لتلك الشعوب والاستيلاء على أراضيها ومواردها، وهو ما ترك أثرا عميقا على الهويات الثقافية والاجتماعية في المنطقة. هذا الإرث من العنف والإقصاء لا يزال يتردد صداه في سياسات الولايات المتحدة الحالية، خاصة فيما يتعلق بالهجرة. ففي وقتنا الراهن، تشكل الهجرة من أمريكا اللاتينية محورا حساسا في السياسة الداخلية الأمريكية، خاصة مع استمرار تدفق المهاجرين من دول مثل المكسيك، غواتيمالا، والسلفادور.
تشير الإحصائيات إلى أن الحدود الجنوبية للولايات المتحدة مع المكسيك شهدت أكثر من 2. 4 مليون محاولة عبور غير قانونية في سنة 2022، وهو رقم قياسي يعكس حجم التحدي الذي تواجهه السلطات الأمريكية. تشكل الأغلبية الساحقة من هؤلاء المهاجرين القادمين من بلدان أمريكا اللاتينية، ما يزيد من الضغوط على الأوساط السياسية المحافظة في البلاد. هذه الأوساط تخشى من أن استمرار تدفق المهاجرين اللاتينيين سيؤدي إلى تغييرات ديموغرافية تؤثر على التركيبة السكانية والبنية الثقافية والاجتماعية للولايات المتحدة. إذ يعتقد الكثير من المحافظين أن هذه الهجرة المكثفة قد تفقد البلاد “أغلبيتها” الثقافية الأوروبية-الأمريكية.
هذا القلق المتزايد دفع الحكومة الأمريكية إلى تبني سياسات صارمة تهدف إلى الحد من الهجرة غير الشرعية عبر تعزيز الرقابة الحدودية. ولعل الجدار الحدودي الممتد على طول 3,145 كيلومترا بين الولايات المتحدة والمكسيك يعد من أبرز الإجراءات التي تم اتخاذها في هذا السياق. تم إنفاق مليارات الدولارات على بناء هذا الجدار وتعزيز الأمن على الحدود في محاولة للحد من تدفق المهاجرين. ولكن، على الرغم من أن هذه السياسات تبرر في العادة بدواعي اقتصادية وأمنية، إلا أنها تحمل في طياتها أهدافا أعمق تتعلق بالحفاظ على الهيمنة الثقافية الأوروبية-الأمريكية في البلاد.
إضافة إلى ذلك، تشير التوقعات الديموغرافية إلى أن نسبة السكان البيض في الولايات المتحدة قد تنخفض إلى أقل من 50% بحلول سنة 2045، ما يزيد من مخاوف التيارات المحافظة التي ترى في المهاجرين من أمريكا اللاتينية تهديدا لهذه الأغلبية السكانية. هذه المخاوف تعزز من الدعم لسياسات الهجرة الصارمة، حيث ينظر إلى المهاجرين كعناصر قد تؤثر على الهوية الوطنية وتعيد تشكيل توازنات القوى الثقافية والاجتماعية في البلاد.
على الجانب الآخر، نشهد في أمريكا اللاتينية، وخاصة في دول مثل بوليفيا، الإكوادور، وبيرو، تناميا في وعي الشعوب الأصلية بقضاياهم وتاريخهم. هذه الشعوب بدأت ترى في الأوروبيين غزاة استولوا على أراضيهم وأقصوا ثقافاتهم. هذا الوعي المتزايد يعبر عنه بوضوح حركات سياسية واجتماعية تسعى إلى استعادة الحقوق والهوية الثقافية. أحد الأمثلة البارزة على ذلك هو حركة ” ماس”) حركة نحو الاشتراكية( التي يقودها الرئيس البوليفي السابق إيفو موراليس، الذي يعد أول رئيس في أمريكا الجنوبية من أصول أصلية. من خلال هذه الحركات، يتم رفع الصوت بأن الشعوب الأصلية في أمريكا الجنوبية تسعى إلى استعادة حقوقها وثقافاتها التي تعرضت للتهميش والاضطهاد منذ وصول الأوروبيين إلى القارة.
هذا التوجه يبرز أن العلاقات بين أمريكا اللاتينية والولايات المتحدة، التي تعتبر امتدادا ثقافيا لأوروبا، لا تزال مشوبة بالتوترات التاريخية التي تعود إلى الحقبة الاستعمارية. تلك الحقبة التي خلفت وراءها إرثا من الاستغلال والإقصاء ما زال يلقي بظلاله على العلاقات السياسية والثقافية بين أمريكا اللاتينية والولايات المتحدة في الوقت الحاضر.
ورغم كل هذه التحديات، تستمر الولايات المتحدة في تشديد سياساتها الحدودية تجاه المهاجرين القادمين من أمريكا اللاتينية. الإنفاق على تعزيز الحواجز الجغرافية وتطبيق القوانين الصارمة يتزايد، في محاولة للحد من الهجرة غير الشرعية. في الوقت نفسه، يظل الجدال حول قضايا الهوية الوطنية والمستقبل الديموغرافي للبلاد قائما، حيث يخشى الكثيرون من أن التدفق المستمر للمهاجرين سيعيد تشكيل الولايات المتحدة بطرق قد لا تكون متوافقة مع الرؤية المحافظة السائدة في بعض الأوساط.
أوروبا: صعود اليمين المتطرف والخوف من الهجرة من شمال إفريقيا
تواجه أوروبا في العقود الأخيرة تحولات جذرية على مستوى سياسات الهجرة، حيث تعتمد العديد من دولها سياسات انتقائية صارمة، خصوصا تجاه القادمين من دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط. هذه السياسات تعكس تصاعد نفوذ الأحزاب اليمينية المتطرفة التي تتغذى على خطاب الخوف من المهاجرين المسلمين، وهو ما يجعل موضوع الهجرة واحدا من القضايا المركزية في البرامج الانتخابية لهذه الأحزاب. في دول مثل فرنسا، إيطاليا، ألمانيا، وإسبانيا، أصبح الخطاب السياسي لليمين المتطرف يركز بشكل كبير على الهجرة باعتبارها تهديدا للهوية الوطنية الأوروبية، خاصة الهجرة القادمة من دول ذات أغلبية مسلمة.
تشير الإحصائيات إلى أن عدد طلبات اللجوء المقدمة في الاتحاد الأوروبي في سنة 2021 بلغ حوالي 700,000 طلب، وكانت النسبة الأكبر من هؤلاء المهاجرين قادمة من دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط، مثل المغرب، الجزائر، سوريا، والعراق. هذا التدفق الكبير للمهاجرين من هذه المناطق يثير قلق الكثيرين في المجتمعات الأوروبية، خاصة في صفوف التيارات اليمينية، التي تستغل هذا الخوف لترويج فكرة أن المهاجرين المسلمين يمثلون تهديدا للهوية الثقافية والدينية لأوروبا. هذا الخطاب يظهر أن السياسات الأوروبية تجاه الهجرة لم تعد ترتكز فقط على معايير اقتصادية أو إنسانية، بل أصبحت وسيلة لحماية “الهوية المسيحية” والقيم الثقافية الغربية التي يعتقد البعض أنها مهددة.
وفي الوقت الذي تغلق فيه الأبواب أمام المهاجرين من شمال إفريقيا والشرق الأوسط، نجد أن السياسات الأوروبية تسهل دخول المهاجرين من أمريكا اللاتينية، حيث ينظر إليهم على أنهم أكثر توافقا مع الثقافة الأوروبية. هذا التفضيل يعود إلى عوامل عدة، أبرزها الدين المشترك (المسيحية) واللغة الإسبانية التي يتحدث بها العديد من المهاجرين اللاتينيين، ما يجعلهم يعتبرون أكثر “قابلية للاندماج”. وفقا لإحصائيات المفوضية الأوروبية، تم إصدار حوالي 4. 2 مليون تصريح إقامة لمهاجرين من خارج الاتحاد الأوروبي في سنة 2022، وكان حوالي 12% منهم من أمريكا اللاتينية، مقارنة بنسبة 6% فقط للقادمين من شمال إفريقيا، ما يعكس التوجه الانتقائي الواضح.
هذا الانتقاء يظهر بوضوح أن السياسات الأوروبية تجاه الهجرة ليست فقط نتيجة لمتطلبات السوق أو الحاجة إلى اليد العاملة، بل هي مدفوعة أيضا بمخاوف ثقافية ودينية. الخوف من “الآخر”، خصوصا من المسلمين، يتجلى في هذه السياسات التي تسعى للحفاظ على طابع أوروبا المسيحي والحد من تأثير المهاجرين المسلمين الذين ينظر إليهم غالبا كتهديد للهوية الوطنية.
في هذا السياق، يمكن أن نفهم صعود التيارات اليمينية المتطرفة في أوروبا، التي تروج لفكرة أن المسلمين يمثلون تهديدا ثقافيا ودينيا لقيم المجتمع الأوروبي. هذا الخطاب ليس جديدا، بل يمكن تتبعه إلى العصور الوسطى، حيث كانت أوروبا المسيحية في تصادم دائم مع العالم الإسلامي، خاصة خلال الحروب الصليبية. هذا التاريخ الطويل من التوترات والصراعات يستخدم اليوم لتبرير سياسات الإقصاء والتمييز ضد المهاجرين المسلمين.
ورغم الخطاب السياسي الذي يتحدث عن التعددية الثقافية واندماج المهاجرين، إلا أن الوقائع تظهر غير ذلك. أحد أبرز الأمثلة على هذا التمييز هو الرفض المتواصل لدمج دول ذات أغلبية مسلمة مثل ألبانيا، كوسوفو، والبوسنة والهرسك في الاتحاد الأوروبي. وعلى الرغم من أن هذه الدول تتبنى العديد من القيم الديمقراطية التي يفترض أن يدعمها الاتحاد الأوروبي، إلا أن الانتماء الديني لهذه الدول يعتبر أحد العوائق الرئيسية لانضمامها. هذا التمييز يبرز بوضوح في السياسة الأوروبية في التعامل مع الهجرة والمواطنة، حيث يتم استبعاد المسلمين بشكل منهجي.
التاريخ الأوروبي الحديث يبرز أيضا سياسة غير متكافئة في التعامل مع المسلمين الأوروبيين أنفسهم. فخلال الحرب الأهلية في البوسنة والهرسك في تسعينيات القرن الماضي، ارتكبت مجازر مروعة ضد المسلمين البوسنيين على يد القوات الصربية. ورغم أن هذه المجازر كانت معروفة على نطاق واسع، إلا أن المجتمع الدولي، بما في ذلك الدول الأوروبية، ظل صامتا إلى حد كبير، ولم يتدخل بشكل فعال لحماية المسلمين البوسنيين. هذه المجازر، التي راح ضحيتها الآلاف، تعد مثالا صارخا على الفشل في حماية المسلمين داخل القارة الأوروبية.
الصمت الذي رافق هذه المجازر يعتبر في نظر الكثيرين دليلا على عدم استعداد أوروبا للتدخل بفعالية عندما يتعلق الأمر بحماية المسلمين، حتى داخل حدودها. هذا الواقع يعزز الشعور بأن أوروبا لا تزال غير مستعدة لقبول المسلمين كجزء من نسيجها الاجتماعي، وأن الهجرة الإسلامية ستظل قضية تثير الانقسام والجدل لعقود قادمة.
يظهر الجمع بين هذه السياسات والوقائع أن أوروبا تواجه تحديا كبيرا فيما يتعلق بالتوفيق بين قيمها المعلنة بشأن التعددية الثقافية وحقوق الإنسان، وبين الواقع المتمثل في السياسات التمييزية التي تستهدف المسلمين بشكل خاص.
الخليج العربي: دخل مرتفع وتفادي اليد العاملة العربية
دول الخليج العربي تعتبر من أكثر المناطق التي تعتمد سياسات انتقائية صارمة تجاه اللاجئين والمهاجرين. ورغم الروابط الثقافية والدينية العميقة التي تربطها بالعديد من الدول العربية، خاصة سوريا، فلسطين، واليمن، إلا أن هذه الدول فضلت على مر السنين إغلاق حدودها أمام اللاجئين في الأزمات الكبرى. في الوقت الذي قدمت فيه دول الخليج مساعدات مالية ضخمة لدعم اللاجئين والمجتمعات المتضررة، فضلت الابتعاد عن استضافة هؤلاء اللاجئين على أراضيها.
خلال الحرب الأهلية السورية، التي تسببت في نزوح ملايين السوريين، كانت استجابة دول الخليج فيما يخص استضافة اللاجئين محدودة للغاية. تشير تقارير مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) إلى أن دول الخليج استقبلت فقط بضعة آلاف من اللاجئين السوريين، مقارنة بالعدد الهائل الذي استقبلته بعض الدول الأوروبية، والتي فتحت أبوابها أمام مئات الآلاف من اللاجئين. الوضع لا يختلف كثيرا فيما يتعلق بالحرب الأهلية في اليمن، التي بدأت في سنة 2014 وما زالت مستمرة حتى اليوم. رغم الروابط القوية بين دول الخليج واليمن، فإن تلك الدول لم تتخذ خطوات لاستضافة أعداد كبيرة من النازحين اليمنيين، مفضلة تقديم المساعدات الإنسانية بدلا من استضافة اللاجئين على أراضيها.
على الجانب الآخر، تعتمد دول الخليج بشكل كبير على استقدام اليد العاملة الوافدة، لكنها تختار بشكل انتقائي العمالة التي تأتي من دول جنوب آسيا مثل الهند، بنغلاديش، وباكستان. هذه العمالة تشكل جزءا كبيرا من سكان دول الخليج، خاصة في القطاعات التي تحتاج إلى عمالة كثيفة مثل البناء والخدمات. في قطر، على سبيل المثال، يشكل الوافدون حوالي 85% من إجمالي السكان، وهي نسبة تعكس الاعتماد الهائل على اليد العاملة الوافدة. ومع ذلك، ورغم العدد الكبير من العمالة الآسيوية، إلا أن ظروف العمل في كثير من الأحيان تكون صعبة، حيث لا تمنح للعمال حقوق العمل الأساسية الكافية. يستند هذا النظام على نظام الكفالة الذي يربط العامل بكفيل محلي، مما يعزز من تبعية العمالة الوافدة لأرباب العمل ويمنعها من الحصول على الحماية القانونية الكاملة. ورغم الانتقادات الدولية المتزايدة لنظام الكفالة، إلا أنه لا يزال قائما في العديد من دول الخليج.
في الوقت الذي تعتمد فيه دول الخليج على اليد العاملة الآسيوية، نجد أنها تتفادى استقدام اليد العاملة العربية، رغم الروابط الثقافية والدينية المشتركة. السبب الرئيسي وراء ذلك يعود إلى خوف السلطات الخليجية من أن تنصهر العمالة العربية بسرعة داخل المجتمعات الخليجية نظرا للتشابه الكبير في اللغة والثقافة والدين، ما قد يدفع هذه العمالة إلى المطالبة بحقوق اجتماعية وسياسية أوسع قد تؤثر على التركيبة العرقية والاجتماعية في دول الخليج. هذه التخوفات جعلت دول الخليج تفضل استقدام العمالة من دول جنوب آسيا التي ينظر إليها على أنها أقل تهديدا للتوازن الثقافي والعرقي.
دول الخليج العربي تعتبر من بين أغنى دول العالم، حيث تعتمد بشكل أساسي على صادرات النفط والغاز، ما جعلها تتمتع بدخل قومي مرتفع مقارنة بعدد سكانها القليل نسبيا. في دولة مثل قطر، يعد الناتج المحلي الإجمالي للفرد من بين الأعلى في العالم، حيث بلغ حوالي 61,000 دولار في سنة 2023.
بينما في المملكة العربية السعودية، يقدر الناتج المحلي الإجمالي للفرد بحوالي 22,000 دولار في نفس السنة. هذه الثروة الهائلة التي تتمتع بها دول الخليج تجعلها حذرة من أي تغييرات قد تؤثر على التركيبة الاجتماعية والسياسية. السلطات الخليجية تدرك أن استقدام أعداد كبيرة من اليد العاملة العربية قد يؤدي إلى تأثيرات عميقة على التوازنات العرقية والسياسية، ولذلك تفضل تجنب هذا السيناريو من خلال الاعتماد على العمالة الآسيوية التي تكون أقل قدرة على المطالبة بحقوق مدنية أو اجتماعية.
يمكن القول إن دول الخليج تعتمد سياسة مزدوجة فيما يتعلق بالهجرة: فهي ترفض استضافة اللاجئين العرب بسبب المخاوف من تأثيرهم على المجتمع، وفي الوقت ذاته تستقدم أعدادا هائلة من العمالة الآسيوية، لكن في إطار ظروف عمل صارمة تبقيهم بعيدين عن المشاركة الكاملة في المجتمع الخليجي.
الحدود كأداة للتمييز والسيطرة
تظهر السياسات التي تتبعها الدول الكبرى تجاه الهجرة أن الحدود لم تعد مجرد خطوط جغرافية تفصل بين الدول، بل أصبحت أدوات قوية تستخدم للتحكم في حركة الأفراد وتقييد دخولهم بناء على معايير عرقية ودينية وثقافية. سواء في الولايات المتحدة، أوروبا، أو دول الخليج العربي، تعتمد هذه الدول سياسات انتقائية تهدف إلى الحفاظ على الهيمنة الثقافية والسياسية للجماعات السائدة فيها. الهجرة التي كانت تعتبر في السابق جزءا طبيعيا من التحولات البشرية أصبحت اليوم تحديا وجوديا لكثير من الحكومات التي تخشى من تأثير المهاجرين على توازناتها الداخلية.
في ظل تصاعد أعداد اللاجئين والمهاجرين نتيجة للصراعات المسلحة، التغيرات المناخية، والأزمات الاقتصادية، نلاحظ أن هذه السياسات تصبح أكثر صرامة وتشدد. تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن عدد المهاجرين الدوليين بلغ حوالي 281 مليون شخص في عام 2020، وهو ما يمثل 3. 6% من سكان العالم. على الرغم من أن هذه النسبة قد تبدو ضئيلة، إلا أنها تثير مخاوف كبيرة لدى الدول الكبرى التي ترى في الهجرة تهديدا لنظامها الاجتماعي والاقتصادي، حيث ترتفع المخاوف من تغيير التوازنات الديموغرافية والثقافية التي تؤثر على هوية الدول.
الحدود لم تعد مجرد حواجز جغرافية فحسب، بل باتت أدوات سياسية تستخدم لحماية الهوية الوطنية من التأثيرات الخارجية. في الولايات المتحدة، الخوف من فقدان السيطرة الديموغرافية يدفع الحكومة إلى تشديد السياسات الحدودية، بينما في أوروبا، الخوف من تأثير المهاجرين المسلمين على الهوية المسيحية يدفع الكثير من الدول إلى تقييد حركة المهاجرين القادمين من دول ذات أغلبية مسلمة. وفي الخليج العربي، تعمل السلطات على انتقاء العمالة الوافدة لضمان الحفاظ على الهيمنة العرقية والسياسية وتفادي التأثيرات الثقافية التي قد تهدد استقرارها الداخلي.
وفي الوقت نفسه، ينظر إلى المهاجرين واللاجئين بشكل متزايد كتهديد، بدلا من اعتبارهم فرصة لتعزيز التنوع الثقافي والاقتصادي. هذه السياسات التمييزية تؤدي إلى تفاقم الأزمة الإنسانية العالمية وتحد من إمكانيات تحقيق التنمية المستدامة والشاملة. بينما تتزايد التحديات البيئية والسياسية، يصبح التعاون العالمي حول قضايا الهجرة واللجوء أمرا ضروريا لضمان مستقبل أكثر استقرارا وعدلا.
على المدى الطويل، يتطلب التعامل مع أزمة الهجرة إعادة النظر في السياسات الحالية التي غالبا ما تعتمد على الخوف والتفرقة، وتبني مقاربات أكثر إنصافا وعدلا تضع في اعتبارها الحقوق الإنسانية للمهاجرين واللاجئين. فتح الحدود على أساس القيم الإنسانية والعدل والاحترام المتبادل يمكن أن يسهم في بناء مجتمعات أكثر توازنا وتنوعا، حيث ينظر إلى المهاجرين واللاجئين كأفراد يسعون لتحسين حياتهم وللمساهمة في تنمية المجتمعات التي يستقرون فيها.
إن الاعتراف بحقوق المهاجرين ليس مجرد واجب إنساني، بل يمكن أن يكون فرصة حقيقية لتعزيز الاقتصاديات والمجتمعات عبر الاستفادة من التنوع الثقافي والديني. تعزيز التعايش بين الثقافات المختلفة وضمان حقوق المهاجرين كجزء لا يتجزأ من المجتمعات هو الحل المستدام الذي يتطلبه هذا العصر. الهجرة ليست التهديد الذي يخشى منه، بل يمكن أن تكون حلا يسهم في تحقيق مجتمع عالمي أكثر عدلا وإنسانية، حيث لا تعتبر الحدود أدوات للتمييز والسيطرة، بل جسورا للتعاون والتعايش.
* عزيز اللوزي، ناشط حقوقي مقيم في مدريد، يُكرس جهوده للدفاع عن حقوق الإنسان وقضايا المساواة والعدالة الاجتماعية. يعمل على تعزيز حقوق المهاجرين واللاجئين، بالإضافة إلى التركيز على السياسات التي تؤثر على الفئات المهمشة في المجتمع.