
إذا أردت حصاد مائة عام فعّلم شعب..

أشرت في مقال ” الحد الفاصل بين الاقتصاد الربوي الاستعبادي والاقتصاد الزكوي التراحمي…”إلى أننا نؤمن ونعمل ونحاول من خلال ما نخطه من كلمات، السير خطوة على درب إنجاز رؤية أو تصور، قد يشكل نقطة في بحر تطلع إنساني إلى نظام سياسي واقتصادي أكثر أمنا وعدلا وكرامة، شرقا وغربا، حاضرا ومستقبلا، أننا نرى من واقع التحليل أن البعض يريد حشر البشرية ودفعها بإتجاه إجراء عملية قيصرية على الهرم الديموغرافي و “إبادة” الملايير من البسطاء والمستضعفين والابرياء بحثا عن “المليار الذهبي” او بالأحرى “المليار الغبي”..
آراء أخرى
- تحويل التراب إلى ذهب
وخلافا لهذا التصور العنصري- الساذج ، فإننا نؤمن بأن عقول البشر مجتمعة قادرة على تحويل التراب إلى ذهب ساعة تحريرها من أغلال الاستعباد والاستبداد والاستحمار، ومن إكراهات الولاء لسياسات تمييزية وعنصرية واستعلائية تجعل الإنسان عدوا لأخيه الإنسان بدل أن يكون له سندا وعضدا، فأرض الله واسعة ونعمه لا تعد ولا تحصى وعينه لا تنام وسننه لا تقبل التبديل او التحويل..
- غزة العزة النموذج
والقادم أفضل إن استطاعت هذه الأمة تغليب خيريتها وبسط منهاجها للعالمين وطلب العلم ولو في الصين وإعداد القوة ما استطاعت إلى ذلك سبيلا فالمؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف.. فهذه الامة مطالبة بخروجها العاجل من حالة الوهن والاقتداء بالبقية الباقية من شرفائها وفضلاءها في غزة العزة.. وتحقيق هذا الطموح ينطلق من بناء العقول والكفاءات ، وتشكيل الطاقات البشرية البناءة والمؤهلة لرفع التحدي الحضاري، وتزكية الأخلاقيات، ورفع الهمم وإخراجها من دائرة السلبية والأنانية والسعي المرضي خلف ” لقمة العيش” ..
- نتائج البكالوريا
وما دمنا في هذه الأيام ننشغل بنتائج “البكالوريا” وأصبحت النتائج والتخصصات ومخرجات العملية التعليمية وأفاق المستقبل حديث الساعة والمجالس، فإننا سنخصص هذا المقال لقضية التعليم ودوره المحوي في التنمية وتحرير الشعوب من قيود التخلف والوهن والتبعية..
- تسليع التعليم
وبحكم التخصص فإني لا أجد أفضل من التجربة الصينية كعنوان لدور التعليم في عملية النهوض الحضاري، خاصة وأن الطريق المسلوك في إصلاح التعليم بالمغرب و -أغلب البلدان العربية- ، لن يقود إلا لمتتالية من الأزمات التي تهدد السلم الاجتماعي، وأن الإشكال الحقيقي الذي ينبغي أن يكون محل نقاش عام هو التوجه العمومي الرسمي نحو تسليع التعليم ورفع الدولة المغربية يدها عن التعليم والإتجاه الممنهج نحو تخصيص العملية التعليمية وجعل مسؤولية التمويل على عاتق الأسر، في الوقت الذي تتوسع في الإنفاق المظهري على المهرجانات والمشاريع الثانوية، فكيف يعقل في ظل الخصاص والشح المالي، أن يتم تخصيص أجور وإمتيازات لكبار المسؤولين العموميين والاستثمار في مشاريع لا تخدم إلا القلة، ولا تخدم جهود التنمية الحقيقية؟ ..
- السلم الاجتماعي
فالتنمية لا تصنعها الرواتب السخية للنواب والوزراء والمسؤوليين العموميين، وإنما يصنعها التعليم الجيد، ففي الوقت الذي تشهد فيه البلاد تخلف تنموي مريع، وفي الوقت الذي أصبح العالم يراهن على المعرفة كمحفز اقتصادي وتنموي، نجد المغرب وأغلب البلدان العربية ترفع يدها عن التعليم وفي ذلك ترسيخ وتوسيع للفجوة المعرفية، وتوسيع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، فالصعود في السلم الاجتماعي أصبح مرتبطا بجودة التعليم، وجودة التعليم مرتبطة بالقدرة على دفع تكاليفه، وهو أمر غير متاح إلا للأغنياء، وفي ذلك استمرار للوضع القائم، فأبناء الأغنياء يمسكون بزمام الثروة والسلطة وأبناء الفقراء عبيد للأغنياء..
- لماذا تأخر المسلمون؟
وقضية التعليم شكلت محور إهتمام رواد النهضة العربية في المشرق والمغرب منذ أواخر القرن التاسع عشر، وهي في قلب سؤال أكبر وأشمل لماذا تأخر والمسلمون، فكان الجواب أن سر التخلف يكمن في التعليم وشفرة تقدم الأمم في التعليم ..
فالغرب تقدم عندما استثمر في التعليم ، وأمامنا اليوم تجربة ماليزيا ودول شرق اسيا والعملاق الصين .. وهذا الإدراك عبر عنه بوضوح البروفيسور المرحوم المهدي المنجرة رحمه الله في كتابه “الاهانة في عهد الميغاإمبريالية” فقد أكد بشكل لا جدال فيه، أن المستقبل يصنع الأشياء التي تنجزها اليوم هي التي ستجدها في الغد.. ولصناعة الغد والمستقبل لابد من تعليم على درجة عالية من الجودة، ويساير العصر والتحولات السريعة التي في العالم…وإذا أردنا التموقع في التاريخ وفي العالم، لابد من إعطاء التعليم الاولوية وجعله أولوية الأولويات وأعظمها واقدسها..
- أقوى سلاح
وبدون تعليم جيد لا يمكن تحقيق التنمية والاستقرار الاجتماعي ، ف”التعليم أقوى سلاح تستطيع من خلاله تغيير العالم“، هذه العبارة الشهيرة قالها مناضل سياسي و حقوقي ومصلح اجتماعي اسمه نيلسون مانديلا، لكن قبل انتشار هذه الكلمة العميقة المعنى والواضحة الدلالة بحوالي 1400 سنة، نزل قول رب العالمين: ﴿اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم﴾ ( سورة العلق الآية 1-4)، إنها أول سورة نزلت في القرآن الكريم أي في رسالة الإسلام التي توصف اليوم من قبل بعض ذوي العقول «الجاهلة” بالظلامية والتخلف، فهذه السورة الكريمة تتضمن كلمتين هما مفتاح التقدم والتحضر البشري في كل العصور “اقرأ ” و “القلم” بمعنى تمجيد أمر القراءة والكتابة منذ أول لحظة في تاريخ البعثة المحمدية …
- التحولات الكبرى
وسأركز في هذه الصفحات على توضيح أهميته التعليم في التحولات الكبرى التي تشهدها المجتمعات الإنسانية، معتمدا على تجربة الصين والتي إعتمدت في نهضتها على التعليم، وهذا الاختيار اعتمد على مؤشرين :
المؤشر الأول : أن الصين شهدت خلال القرن الماضي أكبر تحول عرفه التاريخ وخاصة بعد 1979، فقد شهدت البلاد إصلاحات عميقة شملت جميع زوايا مملكة السماء، فتحولت الصين في ظرف ثلاث عقود من اقتصاد منغلق إلى اقتصاد منفتح، و من اقتصاد موجه إلى اقتصاد السوق ومن بلد زراعي إلى بلد صناعي، هذه التحولات الكبرى ضمنت للدولة إطارا تنمويا مستقرا ونموا اقتصاديا سريعا. فما بين 1978 و 2007 أي في ظرف حوالي 30 سنة (GDP) تضاعف بحوالي سبع مرات. أما الدخل الحقيقي للفرد فقد تضاعف بحوالي خمس مرات. وإنتاجية العمل تضاعفت بحوالي 4 مرات. بينما اتجه النمو الديمغرافي نحو التقلص، وهو توجه ملائم لاستمرار التوسع الاقتصادي.
- شعب متعلم
وفي صلب هذه التحولات الكبرى كان التعليم و نتائجه حاضرا بقوة في صياغة وإنجاح مختلف السياسات الإصلاحية، فتوفر الصين بعد 1978 على شعب متعلم بشكل جيد، مكن من تحقيق هذا التحول الثوري الهادئ في المجتمع الصيني، و بغرض تأكيد سلامة هذا التوجه في التحليل أعطي الأمثلة التالية:
إصلاحات 1978 عندما ركزت على تنمية الصناعات التحويلية، لم تكن لتفعل ذلك لو لم تتوفر وفرة اليد العاملة الرخيصة المتعلمة، فهي صناعة تعتمد على كثافة اليد العاملة التي تتوفر على قدر من الإلمام بالقراءة والكتابة.
- الأيدي العاملة الماهرة
التعليم ساعد في تنمية القدرة الابتكارية و تقوية القدرة التنافسية، فالإمساك بهذه الميزة يتطلب أيدي عاملة ماهرة من القمة حتى القاع، فمهارات الأيدي العاملة أصبحت السلاح التنافسي الرئيسي في القرن 21. فإذا كانت المقدرة العقلية تخلق تكنولوجيات جديدة فإن الأيدي العاملة الماهرة تمثل الأيدي والأرجل التي تسمح للبلد في تخفيض التكلفة، باستخدام مايجري توليده من تكنولوجيات جديدة للمنتجات والعمليات، وهو ماكانت تتوفر عليه الصين-إلى حد ما – عند انطلاق إصلاحات 1978 .
كما أن تعميم التعليم كان له تأثيرا بالغا في انخفاض الخصوبة ونجاح سياسة الحد من النسل، فلولا تعميم التعليم- وخاصة في أوساط النساء- لما تم خفض معدل الخصوبة. ومن المعلوم، أن تخفيض الخصوبة وانتشار التعليم، شكلا عاملين أساسيين في تحقيق الاستقرار السياسي و السلم الاجتماعي الذي شهدته الصين خلال العقود الأخيرة.
المؤشر الثاني: النظام التعليمي الصيني يعد من أكبر الأنظمة التعليمية في العالم من حيث عدد الطلاب و المتخرجين فحسب “شين تشانغ شينغ” نائب وزير الموارد البشرية والضمان الاجتماعي، فإن عدد المتخرجين من الجامعات والمعاهد الصينية بلغ حوالي 6.8 مليون شخص في العام 2012 بزيادة 200 ألف شخص مقارنة بعام 2011. والصينيين الذين يحملون درجة الدكتوراه تضاعفوا خمسة مرات خلال الفترة 1995-2005 وقد بلغ مجموع الجامعات والكليات في الصين 1552 وذلك في سنة 2003، ومجموع الأساتذة 725 ألف أستاذ و11 مليون طالب.
- نتائج مذهلة
كما أن النظام التعليمي أثبت جدارته على المستوى الدولي، فالتلاميذ الصينيون يحققون نتائج “مذهلة” في الاختبارات التربوية الدولية اختبارات (PISA) التي تجريها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية مرة كل ثلاث سنوات OECD وتعتبر المعيار الدولي الرئيس لقياس جودة الأنظمة التعليمية في البلدان المختلفة. ويهدف إلى قياس قدرات الطلبة في مجالات القراءة والرياضيات والعلوم. وتشير آخر النتائج إلى أن النظام التعليمي الصيني يتجاوز بجودته الانظمة التعليمية في كثير من الدول الغربية.
وقد سجلت الصين تقدما في مجال التعليم مقارنة بالبلدان النامية، إذ تمكنت من تعميم التعليم الإلزامي لمدة تسع سنوات في كل من المناطق الحضرية والريفية، كما أن معدل الالتحاق بالمدارس الابتدائية لدى الأطفال في سن الدراسة بلغ أكثر من 99 % بين عامي 2000 و 2005، كما سجلت زيادة في إجمالي معدل الالتحاق بالمدارس الإعدادية من 88.6 % إلى 95%. ومعدل التسرب من المدارس الابتدائية سجل انخفاضا إلى أدنى مستوى.
أما معدل محو أمية الكبار فقد انتقل من 67.1 % في عام 1980 إلى أكثر من 90.7 % في عام 2006، وهو معدل أعلى من المتوسط العالمي البالغ (78 ٪) والمتوسط في ما بين البلدان النامية (77 ٪) في عام 2004. كما أن متوسط عدد سنوات الدراسة التي تلقاها الأفراد الذين تتراوح أعمارهم بين 15 وأكثر ارتفع في الصين من 5.3 سنة في عام 1982 إلى 8.5 سنة في عام 2005.
كما أن التعليم العالي في الصين، شهد أيضا تطورا سريعا في السنوات الأخيرة، فالتسجيل الجامعي في عام 2003 ارتفع بما مقداره 73٪ عما كان عليه في عام 2000 و 3.1 مرات عن ما سجل في العام 1995، و عدد الطلاب المسجلين بالتعليم العالي كان 11.09 وهو ما يعني نموا بحوالي 281 % أعلى عن سنة 1995.
- بناء الرأسمال البشري
فالصين بذلت جهودا كبيرة في سبيل بناء الرأسمال البشري مقارنةً بالدول العربية التي استثمرت في الحجر و أهملت البشر، فالصين تجاوزتنا بعقود عديدة في المجال التعليمي والتقني، وذلك راجع إلي تردي النظام التعليمي المغربي بشكل خاص و العربي بشكل عام٠ فالسياسة التعليمية المتبعة في الصين سياسة فريدة وغير متبعة حتي في الدول الغربية المتقدمة، وبهذا الصدد يقول كاتب أمريكي وهو ” Nicholas Kristof” : “لقد زرت منطقة “تايشان” الواقعة جنوب إقليم “غوانغدونغ” الصيني فأدركت أن الفجوة التعليمية بين الصين والولايات المتحدة مافتئت تتقلص بسرعة وذلك خلال زيارتي لعدد من المدارس الابتدائية والإعدادية وبصفة عامة- والكلام لايزال للكاتب الأمريكي -أستطيع القول إن مستوي الرياضيات الذي يدرس حتي في مدارس الفلاحين في القري الصينية يشبه مستوي الرياضيات في المدارس الممتازة في منطقة نيويورك.. “.
- افخر المباني
وما يدعم هذا الطرح هو أن المدارس هي من افخر المباني في القرى والبلدات في أفقر مقاطعة في الصين وهي مقاطعة “غيزو”، وهو عكس الوضع السائد في المغرب وأغلب البلدان العربية حيث تكون مراكز التسوق واللهو في العادة افخر المباني في المدن. أما في القرى والمداشر فإن المدارس إن وجدت فهي بالتأكيد لا تصلح للاستعمال الآدمي حيث غياب المرافق الصحية وانقطاع الماء والتيار الكهربائي في غالب الأحيان..
- الهدف الحضاري
إن ما ينقص المغرب -ومعه البلدان العربية- ليس ضعف أو نذره الوسائل و الموارد المالية، بل غياب الهدف الحضاري الواضح للمجتمع ككل، فحجم الإنفاق العمومي على المهرجانات الفنية والإعلام العمومي التافه يؤكد على أن المشكل ليس نذرة الموارد المالية. فهذا المنحى في الإنفاق العمومي والخطاب الإعلامي و التثقيفي، يؤكد على رغبة أنظمة الحكم في ترسيخ سياسات تعليمية و تربوية تؤمن لهم استمرار إنتاج أجيال مستهلكة لا أجيال مبدعة ..
لكن هذه الأنظمة سوف تدفع ثمن باهظ لسياستها التعليمية: فالمواطن المستهلك الذي لاهدف له إلا الاستهلاك والمزيد من الاستهلاك يشكل عبء تقيل على المجتمع الذي ينتمي إليه، عكس المواطن المبدع الذي يشكل موردا وقيمة مضافة لمجتمعه لاسيما مع تحول الاقتصاد العالمي من اقتصاد حقيقي إلى اقتصاد رمزي يعتمد على العقول و الرأسمال البشري …
- فكرة مركزية
ومادام أن العالم العربي لم يحدد بعد فكرة مركزية لسياساته التعليمية والتربوية، وهدف حضاري وتنويري لرسالته الإنسانية.. فلن يستطيع تحقيق الثورات الكبرى على أرضه من دون إراقة المزيد الدماء، على عكس الصين التي عملت على تنفيذ الحكمة الصينية القائلة :” إذا أردت مشروعاً تحصده بعد عام فأزرع قمحاً، وإذا أردت الحصاد بعد عشرة أعوام فأغرس شجرة، وإذا أردت حصاد مائة عام فعّلم َشعب، فالحبوب التي تزرعها مرة تحصدها مرة والشجرة التي تغرسها مرة تقطفها عشر مرات أما إذا علمت شعباً فستحصد مئة عام “….. والله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون..
كاتب وأستاذ جامعي