المستشار والسنة "الأمازيغية"
من السنة “الأمازيغية” إلى السنة الفلاحية
آراء أخرى
الهوية الجامعة
أفاد بيان للديوان الملكي المغربي بتاريخ الرابع من شهر ماي 2023 بأن الملك محمد السادس أمر “بإقرار رأس السنة الأمازيغية، عطلة وطنية رسمية مؤدى عنها، على غرار فاتح محرم من السنة الهجرية ورأس السنة الميلادية“. كما أصدر الملك توجيهاته إلى رئيس الحكومة المغربية قصد “اتخاذ الإجراءات اللازمة لتفعيل هذا القرار الملكي السامي“، وفق ما جاء في نص البيان. وقد جاء هذا القرار كما ورد في البيان: “تجسيدا للعناية الكريمة، التي يوليها جلالة الملك للأمازيغية، باعتبارها مكونا رئيسيا للهوية المغربية الأصيلة الغنية بتعدد روافدها، وبوصفها رصيدا مشتركا لجميع المغاربة بدون استثناء“.
نستنتج من خلال بعض أسطر هذا البيان، أن قرار اعتماد هذه المناسبة عطلة وطنية رسمية، صدر عن الملك مباشرة، حتى لا يفهم من ترسيمها أنها خاصة بجهة أو حزب أو فئة من الفئات، وذلك من منطلق أن الملك هو من ضِمْنِ رموز وحدة الأمة، والضامن لدوام الدولة واستمرارها. كما أن البيان أشار إلى أن المناسبة تدخل في إطار التقاويم المعتمدة سابقا، والمتمثلة في رأس السنة الهجرية ورأس السنة الميلادية، أي أن اعتماد هذه المناسبة جاء نتيجة القياس على ما هو موجود، وفي ذلك نوع من الشرعنة Légitimation للغائب قياسا على الشاهد، ولنا في ذلك رأي سنوضحه أسفله.
ودائما في إطار إبعاد فكرة التفرقة عن ذهن المتلقي، فإن البيان تم ختمه بالإشارة إلى أن المكون الأمازيغي جزء من الهوية المغربية الأصيلة والغنية، وهو ما يُفهَم منه أن كل المكونات، والتي من بينها وأهمها المكون العربي، تندرج ضمن الهوية الجامعة التي تحكمها فكرة التعدد في إطار الوحدة، عكس ما يعمل بعض النزوعيين المتطرفين على تحقيقه، والمتمثل في التعدد في إطار التعدد، والذي يعني الفوضى والتصادم، وتمزيق النسيج الاجتماعي الذي عمل المغاربة على حبكه، كما عملوا على ضمان تماسكه وانسجامه منذ مئات السنين.
وظيفة المستشار
إن صياغة البيان بهذا الشكل ومراعاته لهذه الأبعاد، قد يُفهم منه أنه خضع لنقاش عميق وتداولته عقول المستشارين بما فيهم من يقومون بدور أساسي في المحيط الملكي، وكذا المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، بالإضافة إلى رئاسة الحكومة. إن دور المستشار هو تقديم الرأي في مختلف القضايا، وهو على الرغم من أن دوره يقف عند حد إبداء المشورة، إلا أنه من المفترض فيه أن يسهم في صناعة القرار السياسي بطريقة غير مباشرة، وذلك من خلال تقليب ما يراد اعتماده من قرارات على مختلف وجوهه، واستحضار مآلاته، وما قد ينتج عنه من نتائج على أرض الواقع مما قد لا يتم الانتباه إليه للوهلة الأولى.
يقول عبد الله بن المقفع (724 م ـ 759 م) إن على المستشار موافقة المستشير على صواب ما يَرَى، وتنبيهه برفق إلى خطأٍ إن أتى به، وتقليب الرأي فيما شكَّا فيه معا، وذلك حتى تستقيم لهما مشاورتهما. فطالب المشورة، وإن كان أفضل من المستشار رأيًا، فهو يزداد برأيه رأيًا إضافيا، كما تزداد النار بالزيت ضوءًا. ومراعاة هذا المبدأ أساسي في مثل هذه الحالات، وذلك لأنه يضمن أن تكون القرارات، في نهاية المطاف، موافقة للتوجهات الكبرى للدولة المغربية، والمتمثلة في الحفاظ على الوحدة والخصوصية المحلية، كما أكد على ذلك رواد الحركة الوطنية والمفكرين المغاربة الكبار. فهل كان الأمر كذلك فيما يتعلق بهذا القرار؟ وهل المستشار قام بما يلزمه القيام به، أم أنه ترك ثغرات كان عليه التفكير فيها، وصاغ البيان دون الانتباه إلى أن اعتماد هذا التقويم بالشكل الرائج في الإعلام، يخدش في استقلال المغرب وتَمَيُّزِه واستثنائه.
تقويم بتاريخ مُزَوَّر
من المعلوم أن ما يسمى بالسنة الأمازيغية هو ما كان يسميه المغاربة جميعا بالسنة الفلاحية، ودون الغوص في تفاصيل هذه المناسبة، نشير إلى أن التاريخ الذي تم ربطه بهذا التقويم، والذي سيبلغ هذه السنة 2974، لا علاقة له بالمغرب ولا بتاريخ المغاربة ولا بالهوية المغربية الأصيلة، كما تمت الإشارة إلى ذلك في بيان الديوان الملكي.
فأول من ربط السنة الفلاحية بهذا التاريخ، واخترع لها محطة تاريخية تنطلق منها، هو الجزائري عمَّار النْگادي والذي كان يحمل الجنسية الفرنسية، والذي كان يسمي نفسه أحيانا عمار الأوراسي وأحيانا أخرى عمار الشاوي، نسبة إلى المجموعة الأمازيغية التي تتحدث اللهجة الشاوية الزناتية بالجزائر. فقد عمل عمار النگادي على تصميم هذا التقويم واختار له محطة تاريخية بعينها، وجعل منها نقطة الصفر في هذا التقويم. ويتعلق الأمر بعام 950 قبل الميلاد، والذي اعتلى فيه الملك شيشنيق عرش مصر، وهو الملك نفسه الذي يسميه البعض شاشناق ويسميه البعض الآخر شيشونغ. فقد عمد النگادي إلى اختيار هذا التاريخ، أي سنة 950 قبل الميلاد، وأضاف إليه التاريخ الميلادي الذي اخترع فيه هذا التقويم لأول مرة، أي سنة 1980، فحصل على ما سماه بالتقويم الأمازيغي، الموافق آنذاك لـ 2930.
لا داعي لأن نفصل فيما نشب بين النْگادي وأصدقائه الآخرين الذين كان لكل منهم حساباته وارتباطاته السياسية والاستخباراتية الفرنسية والجزائرية، والذين من بينهم محمد أعراب باسعود، فكل ذلك يمكن الوقوف عليه من خلال أحداث تأسيس الأكاديمية البربرية في باريس ما بين 1966 و1978. ولكن ما نود التأكيد عليه، هو أن نقطة انطلاق هذا التقويم مرتبطة، حسب التأويل النزوعي العرقي، بهجوم الملك شيشونغ على المصريين والتمكن من العرش الفرعوني، وهو تأويل أسطوري وحكاية للأحداث التاريخية شبيهة بطريقة رواية أحداث الخيال العلمي. وبغض النظر عن هذا البعد، فإن نقطة انطلاق هذا التقويم، الذي كان فلاحيا مرتبطا بالطبيعة والفرح، تحول إلى مناسبة يتم التذكير فيها بأحداث أسطورية تشجع على العنف وعلى الحرب وعلى اعتداء الشعوب بعضها على بعض، وتجعل من ذلك قيمة إيجابية. وما يعزز هذا المنحى العدواني، هي تلك الصورة التي اختارها عمار النْگادي لمصاحبة هذا التقويم الذي اخترعه سنة 1980، والمتمثلة في مقاتل من الطوارق يضع يدعه على سيفه، ويحمل درعا باليد الأخرى.
لِكَيْ لا يكون المغرب تابعا
إننا حتى إذا افترضنا جدلا أن حدث هجوم شيشونغ على مصر يحمل قيما إيجابية، وهو ما يفتقر إليه حسب الرواية النزوعية العرقية القائمة على الأسطرة، فإن هذا الحدث لا علاقة له بتاريخ المغاربة لكي يتم تذكيرهم به كل سنة. وأنا أجزم أن المغاربة جميعا لم يسبق لهم أن عرفوا من هو شيشونغ هذا منذ ما يفوق ألاف السنين، والدليل هو أن قبره لم يُكْتَشف في مصر إلا في بداية القرن العشرين من طرف الفرنسيين. فهل المغاربة ظلوا طيلة هذا التاريخ نائمين إلى أن استيقظوا اليوم، ليكتشفوا شخصا مصريا فرعونيا أصيلا كما يؤكد التاريخ الموضوعي ذلك، شخصا بعيدا عنهم جغرافيا وثقافيا ووجدانيا، وليصبحوا ملزمين باستحضاره كل سنة والاحتفال به، والرحلة بأرواحهم وبأرواح أبنائهم آلاف الكلومترات، لكي يُجَرِّعوهم تاريخا مزوَّرا، ومُفَصَّلا على مَقاس السردية النزوعية العرقية التي لا علاقة لها بالأمازيغية المغربية المتوازنة؟!!
إن عمار النْگادي الفرنسي الجزائري، عندما اختار نقطة الصفر هاته، عمل على اختيار شيشونغ وادعى أنه جزائري، وهو في الحقيقة ليس كذلك، ويكفي رؤية نقش صورته على جدران معبد الكرنك للتأكد من هذه الحقيقة. ولذلك عندما أقامت الجزائر تمثالا لهذا الملك في مدينة تيزي وزو سنة 2021، تم اعتبار ذلك من طرف المصريين عملية سرقة لتاريخ بلادهم. فحَمَلَةُ الإيديولوجية الأمازيغية في الجزائر يدَّعون أن شيشونغ انطلق من أرضهم للاستلاء على العرش الفرعوني، بينما المصريون يعتبرونه ملكا مصريا أصيلا، وسليل أسرة كهنوتية غنية، ومنتم إلى مجموعة عُرفت بشدة بأسها وقتالها، بحيث يمكننا أن نتحدث عنها بلغة الحاضر بوصفها أسرة تمثل ما يشبه “الديكتاتورية العسكرية“، حسب تعبير المؤرخ محمد بيومي مهران المتخصص في التاريخ القديم. وهم بالفعل كذلك، إذ أنهم لم يذكروا عن أنفسهم فيما خلفوه للتاريخ إلا أنهـم فراعنة مصريون، حاربوا باسم مصر الفرعونية خارج حدودها، وأعادوا لها بقوتهم بعض سمعتها وهيبتها القديمة. وعلى الرغم من هذه الحقائق الدامغة، فإن مما يزيد من عبثية الأمر، هو أن ليبيا بدورها دخلت على خط هذا الصراع، فأصدرت حكومة الوفاق الليبية بيانا رسميا اعتبرت فيه شيشونغ شخصية ليبية خالصة ولا علاقة لها بأي بلد آخر!!
إن السؤال الذي يمكن طرحه على هذا المستوى هو: هل المغرب فقير فيما يتعلق بالشخصيات والرموز والأحداث لكي نَبْحَث عنها في تاريخ دول أخرى؟ وهل من الضروري أن يصبح المغرب بلدا تابعا؟ ألم يكن من الأولى للحكومة وللمستشارين المقربين من المحيط الملكي اقتراح اعتماد تسمية رأس السنة الفلاحية التي نجدها حاضرة لدى كل المغاربة دون استثناء، والتي لن ينتج عنها أي مزالق هوياتية لا في المستقبل القريب ولا البعيد؟
السنة الفلاحية والحكومة المتحيزة
إن مسوغ هذه الأسئلة، هو أن التقويم يربط الأجيال المقبلة بحدث بعينه، ويقدم قراءة ضمنية للتاريخ، ويحدد العلاقة بين مكونات الشعب الواحد والعلاقة بينه وبين الشعوب الأخرى. فهو قد يتخذ مدخلا لبناء هوية متوازنة، إذا كان مشيدا بإحكام وبقراءة جماعية عميقة للتاريخ تراعي مصالح الكل، كما أنه قد يتخذ مدخلا “لبناء” هوية مختلة، في حالة إذا ما كان مشيدا بتسرع ومن طرف شخص واحد معزول له عقده وميولاته النفسية والسياسية التي تخصه وحده، كما هو الشأن بالنسبة إلى عمَّار النْگادي “الجزائري” الفرنسي الذي أقام في فرنسا وأقامت فيه وتشبع بالتصورات الكولونيالية، فعمل على تعديل السنة الفلاحية وتحويلها جينيا وتسميتها تسمية عرقية. والغريب في الأمر هو أن الذين من المفترض فيهم أن يُمَحِّصوا هذا التقويم وينتقدوه، ليجعلوا منه مغربيا قُحّاَ، سرعان ما جعلوا من الملك شيشونغ رمزا لهم، وبدأوا يؤرخون بهجومه الأسطوري على مصر. وهذا ما نجده مُعْتَمَدا من طرف مدير المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية أحمد بوكوس في موقع هذه المؤسسة المُحْدَثة بظهير شريف، والتي من أدوارها إبداء الرأي للملك في التدابير التي من شأنها الحفاظ على اللغة والثقافة الأمازيغيتين، والنهوض بهما في جميع صورهما وتعابيرهما.
لقد ترك بيان الديوان الملكي الباب مفتوحا للحكومة، لكي تعمل على تنزيل هذه المناسبة في إطار الحدود التي تضمن وحدة المغاربة وانسجامهم وتجذرهم في أرضهم. فهل ستعمل على تحقيق ذلك؟ وجوابنا هو أن الحكومة عاجزة عن ذلك، لسبب بسيط هو أنها حكومة تنحاز إلى الطرح النزوعي العرقي. وليس أدل على ذلك، من إسناد رئيس الحكومة عزيز أخنوش ملف الأمازيغية إلى أمينة بن الشيخ، التي ننقل تصورها عن الأمازيغية كما يتضح من خلال الكثير من أقوالها، والتي من بينها ما يلي:
– العلم المغربي علم صنعه الاستعمار
– نحن الأمازيغ لا صلة لنا باللغة العربية
– اللغة العربية الفصحى لا أساس لها في واقع أرض وسماء بلادنا”
– علال الفاسي ومحمد عابد الجابري من “الكائدين والماكرين والمتربصين بالأمازيغية
– عبد الله العروي مهووس بالعربية ومدافع عن مصلحة العرب المشارقة
– العرب قاموا بغزو شمال إفريقيا للاستلاء على الخيرات ونهب الثروات وسبي النساء
– عقيدة الغزو والنهب والسبي الراسخة لدى العرب تعود اليوم متمثلة في داعش
– أهل فاس يَحْظَوْنَ بالمناصب بسبب عرقهم ونسبهم
– أهل فاس ليسوا من هذا الوطن بل وافدين إليه من الشرق
– أغلب الأمازيغ “تنصلوا وتنكروا لجذورهم من أجل الحصول على وظيفة
– أغلب الأمازيغ يرتمون في حضن العروبة
– الأمازيغ جبناء وجهلاء ومتنكرون لذواتهم
– الأمازيغ يتميزون بـالغباء السياسي والاستكانة للذل واحتقار الذات
فهل من يقول مثل هذا الكلام العنصري، يُنتَظَر منه أن يقدم استشارة متوازنة فيما يتعلق بالتقويم الذي ظل المغاربة طوال تاريخهم يسمونه برأس السنة الفلاحية، وهل صاحب هذه التصريحات العنصرية المجنونة بإمكانه أن يراعي وحدة المغاربة ويعلي من شأن رموزهم التاريخية، ويراعي مصلحتهم جميعا دون استثناء ودون تمييز؟؟ هل من يقول هذا الكلام يستحق صفة مسؤول؟؟
نختم ونقول: إن الطبيب الجراح السيء لا يجني إلا على مريض واحد، هو ذاك الذي وقع تحت يديه، بينما الأستاذ السيء فقد يجني على مجموعة من الطلاب بمختلف مستوياتهم، أما المسؤول السيء، فإن وضعه خطير، لأنه قد يجني على شعب كامل.