صحيح أن الحرب في أوكرانيا تشكل خطرا مباشرا على الأمن والسلم الدوليين بعد أن اتضحت الأبعاد الجيو – ستراتيجية لهذه الحرب مع دخول الغرب الأطلسي في مواجهة مباشرة ضد روسيا والصين وباقي الدول  المناهضة للأحادية القطبية، والتي بدأت دائرتها تتسع، حسب التقرير الأخير لمجلة L , économiste  وبالتالي رفض العقل السياسي الأمريكي لأي تفاوض قد يفضي إلى تقويض هيمنته.

 لكن في غياب ما يوحي بقرب حسم الصراع  الاستراتيجي بعد استبعاد خيار الدخول في حرب نووية حاسمة ودخول هذا الصراع حالة من الستاتيكو الذي كشف عن أزمة عميقة في النظام الدولي وشلل في  ٱلياته الأممية التي أصبحت عاجزة عن القيام بدورها في إحلال الأمن والسلم الدوليين، هل سينعكس ذلك على تحريك الجمود الحاصل في العلاقات الدولية في انتظار إطلاق توافقات بين القوى العظمى حول مٱل النظام العالمي الجديد، والذي لن يحدد طبيعته لاحقا سوى المنتصرون ؟

 أم أن جدلية الصراع لا تحتمل الفراغ في حقل الممارسة  السياسية، وأن ما نشهده حاليا من تقاطبات واسعة في العلاقات الدولية، والتي ترنو في اتجاهها العام إلى تأسيس أنظمة إقليمية جديدة في عالم الجنوب، مبنية على قاعدة الشراكات الاقتصادية والمصالح المشتركة، خاصة بعد أن بدأت العديد من دول العالم تنتفض وتناهض التبعية للدول الاستعمارية وتبني خيارات وطنية تنم عن ندية واضحة في علاقاتها الخارجية، ولنا في الندوة الصحفية ببن الرئيس الفرنسي ورئيس الكونغو الديمقراطية وأمثلة أخرى كثيرة خير دليل.

فلا مجال هنا لاتتظار تحقيق تفاهمات فوقية لبناء النظام العالمي الجديد، علما أن أسسه الواقعية والمنسجمة مع حركية التاريخ، بدأت في التبلور من خلال مؤشرات دالة  تضع المتتبع للسياسة الدولية في صلب ما يجري من تحولات تبرز دور دول الجنوب في هذا البناء، والتي تقف على طرفي نقيض من النظام العالمي الذي بنته الدول المنتصرة في الحروب الكونية السابقة.

في هذا السياق نستحضر التحولات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط كمنطقة تكثف الصراع الاستراتيجي سواء بسرديته الغربية التي تعتبره صراعا بين العالم الديموقراطي والعالم الأوتوقراطي، أو بالسردية الصينية  الروسية التي تعتبره مدخلا لإنهاء الأحادية القطبية  لصالح عالم متعدد الأقطاب.

 ويمكن القول إن منطقة الشرق الأوسط هي المنطقة الأكثر تأثرا بالحرب الجيو– ستراتيجية التي تدور رحاها بالأراضي الأوكرانية، كما أنها شكلت التمظهرات الأولى لبداية هذه المواجهة على الأراضي السورية، إذ أن التغيرات الحالية لخارطة تحالفات دولها تحيل على تبوئها صدارة التحولات التي بدأت تميل لصالح روسيا والصين، بعد أن تدخلتا على خط التسوية بين تركيا وسوريا وإيران والسعودية، وإدراك هذه الدول لضرورة  بناء مفهوم جديد للنظام والأمن الإقليميين، يأخذان بعين الاعتبار المصالح الاقتصادية والتجارية والأمنية لدول المنطقة بعيدا عن سياسات الابتزاز والتبعية التي كانت تحكم  قواعد النظام الدولي في إطار الأحادية القطبية.

في هذا السياق أتوقف عند أهم المؤشرات والأحداث التي طبعت  سياسات أو لنقل حسابات الدول المؤثرة في المنطقة :

1 /   المملكة العربية السعودية:

– عدم إلتزام السعودية بالعقوبات المفروضة على روسيا.

– إتخاذ قرارات سيادية في إطار منظمة أوبك بلوس بالتنسيق الوثيق مع روسيا.

– عقد شراكات استراتيجية مع الصين وروسيا.

– إعادة ربط العلاقات الدبلوماسية مع إيران وسوريا بوساطة صينية روسية، مع توجيه الدعوة للأخيرة لحضور قمة جامعة الدول العربية.

– فتح موانىء المملكة للسفن الحربية الروسية للتزود بالتموينات الضرورية.

– قبولها إلى جانب الهند وروسيا وإيران  بالتعامل بالعملات الوطنية في معاملاتهم التجارية وبالوان الصيني كعملة موحدة بدل الدولار.

– إلتحاق السعودية بمنظمة شنغهاي للتعاون مع طلب الحصول على العضوية في مجموعة دول البريكس.

2 / مصر :

–  رفص مصر لنظام العقوبات المفروض على روسيا.

– إنجاز مصر جنب روسيا لمشاريع  مشتركة إقتصادية وطاقية مهمة.

 – إستعدادها للمصالحة  مع كل من سوريا وإيران وتركيا.

– إبداء رغبتها في الانضمام إلى منظمة بريكس.

3/ تركيا : 

 إن التبعات الأمنية والاقتصادية التي تمخضت عن  الحرب السورية التي لم تكن في حسبان الاستراتيجية التركية ودعم أمريكا لمنظمة قصد التي تصنفها تركيا كمنظمة إرهابية ودعمها لليونان على حساب المصالح الترابية لتركيا، وكذا التحولات التي يشهدها النظام الدولي مع صعود قوى عالمية جديدة فاعلة في الساحة العالمية   وفي منطقة الشرق الأوسط، دفع تركيا إلى إعادة النظر في استراتيجيتها من خلال : 

 – إستعدادها  للحوار مع الدولة السورية.

– التقارب مع كل من مصر والسعودية.

– عقد شراكات مع  روسيا والصين وإيران.

 – معارضتها للعقوبات المفروضة على الاتحاد الروسي.

– إستعمال العملات الوطنية في معاملاتها  التجارية بدل الدولار.

 – إستعدادها للانضمام الى منظمة بريكس.

4 / إيران / سوريا : 

 رغم كل ما تعرضت له الدولتان من حصار وتخريب ساهمت فيه دول الجوار الإقليمي بايعاز أمريكي، فإن  تطورات الصراع الجيو – ستراتيجي الحالي وانعكاساته على المنطقة، بما تعرفه من تحولات عميقة في اتجاه إحداث مصالحات بينية، وذلك بتشجيع من الصين وروسيا دفع بالدولتين إلى الترحيب بأي مبادرة تروم إلى خدمة المصالح المشتركة.

 إن إدراك  الجميع  للأدوار التخريبية للغرب الأطلسي  الذي جعل من الهيمنة على العالم أداة لتفتيت المنطقة عبر تأجيج الصراعات البينية، وكذا إدراكهم لأهمية الحوار كآلية لحل النزاعات البينية، بما يخدم المصالح المشتركة ويستثمر الإمكانيات الهائلة التي تتوفر عليها المنطقة من أجل التقدم والازدهار، بدل هدرها في خدمة أجندات مدمرة لشعوبها، كل ذلك يؤشر بما لا يدع مجالا للشك أن هذه الدول اختارت نهجا جديدا في سياساتها الداخلية يهدف إلى بناء خطط إقتصادية تنموية وطنية، وخارجيا تبني سياسات تصالحية مع دول الجوار والتقارب الاستراتيجي مع كل من الصين و روسيا.

كل هذا يؤشر إذن على أن منطقة الشرق الأوسط باتت مرشحة أكثر من أي منطقة في العالم لتشهد بداية التحولات والإرهاصات الأولى لتشكل النظام العالمي الجديد في المنطقة وفي دول الجنوب، من خلال ما نعاينه من تبلور تكتلات إقليمية مبنية على شراكات متبادلة تعتمد احترام مبدأ سيادة الدول، بما يخدم مصالحها الاستراتيجية، وذلك بعد أن تعذر على القوى العالمية المتصارعة إيجاد تواففات تفضي لنظام عالمي جديد متعدد الأقطاب وتعذر حسم هذا الصراع الجيو – ستراتيجي بالوسائل العسكرية التقليدية واستبعاد الحرب النووية.

كخلاصة يمكن القول إن النظام العالمي الجديد  سيكون التعبير المكثف لأنظمة إقليمية جديدة  تلعب فيه دول الجنوب دورا بارزا في تقعيد أسسه القائمة على الحق المتساوي في التنمية والتطور بعيدا عن الصراعات الإيديولوجية والنزعات الهيمنية.

كما أن أبرز ما سيميز النظام العالمي المرتقب هو بناؤه  القاعدي الذي استقطب دول الجنوب في كل من الشرق الأوسط وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وذلك خلافا للنظام العالمي السابق الذي صيغ أو فرض بشكل عمودي من طرف الدول المنتصرة في الحرب الكونية.