إضاءات على إحتفالات الأمازيغ برأس سنتهم الجديدة
ترجّح مُعظمُ المصادر والمراجع والمظانّ أنّ كلمة “أمازيغ” تعني الرّجال الأحرار أو النبلاء في لغة الطوارق الأمازيغية، ومنها انتقل هذا المعنى إلى اللغة العربية. ويؤكّد الحسن بن محمد الوزّان، المعروف بـ”ليون الأفريقي”، صاحب كتاب “وصف إفريقيا” الشهير، وسواه هذا المعنى ذاته كذلك، و“الأمازيغ” هم مجموعات سكنية تقطن المناطق الممتدّة بين واحة سيوة (غربيّ مصر) شرقاً، إلى المحيط الأطلسيّ غرباً، ومن شمال البحر الأبيض المتوسّط، إلى جنوب الصّحراء الكبرى.
آراء أخرى
وفي يوم 13 يناير من الشهر الجاري 2023، انطلقت الاحتفالات في المغرب بحلول السنة الامازيغية الجديدة ، 2973، كما تم الاحتفال بنفس المناسبة في مختلف الضّيع والأرباض، والمناطق والنواحي والجهات والبقاع والأصقاع في المغرب وسواه من البلدان التي يوجد بها الامازيغ، وتتباين تسميات رأس السنة الأمازيغية في المغرب من منطقة إلى أخرى، بين “إيض يناير” أو “إيض سكاس” أو “حاكوزة”.
وحسَب جلّ الرّوايات، فإنّ هذا الاحتفال يُقرَن بانتصار الأمازيغ، بقيادة ملكهم “شيشنق” أو “شيشونغ”، على فرعون مصر عام 950 قبل الميلاد. ولطقوس ومظاهر هذه الاحتفالات صلات وثقى، وعلاقات وطيدة بخصوبة الأرض، وتطلّع الأمازيغ بأن تكون السّنة الأمازيغية الجديدة سنة فلاحية، خصبة، خيّرة، جيّدة، معطاءة حافلة بالمنتوجات، والخيرات التي كان لها دائماً ارتباط وثيق بالأرض. ومن ثمّ، ينبع حبّهم للأرض، ويتولّد تشبّثهم بها، ودفاعهم المستميت عنها، كباقي السكّان من مختلف الأجناس، والأعراق، والإثنيات في مختلف أنحاء المعمور.
ويشير الأستاذ حسن إدبلقاسم، الخبير السابق لدى الأمم المتحدة حول حقوق الشعوب الأصلية إلى “أنّ طقوس احتفالات الأمازيغ برأس السنة الأمازيغية لا يزال محتفظاً بها في كلٍّ من المغرب، وبقيّة بلدان شمال إفريقيا وغربها، وفي موريتانيا، ومالي، والساّحل، حيث يوجد الطوارق، إضافة إلى مناطق في نيجيريا”. في حين يرى الأستاذ محمد حنداين، رئيس كونفدرالية الجمعيات الأمازيغية في المغرب (وهي جمعية غير حكومية)، أنّ “الاحتفال بالسنة الأمازيغية الجديدة يدخل ضمن أساليب النضال الأمازيغي المتواصل من أجل إقرار الحقوق الأمازيغية، وبذلك يكون الاحتفال بالسنة الأمازيغية هو أحد الرّموز الأساسية الدّالة التي استثمرها المناضلون الأمازيغ لإبراز هويّتهم”. كما يشير الأستاذ سعيد أهمان بخصوص هذا الموضوع أيضاً إلى أنّ “معظم الباحثين يرجّحون أنّ “شيشنق” تمكّن من الوصول إلى الكرسي الفرعوني بشكل سلمي في ظروف مضطربة كانت قد عرفتها مصر القديمة، حيث استعان به مصريّون قدماء ضدّ الاضطرابات التي عمّت مصرَ في ذلك العهد السحيق من جرّاء تنامي وتكاثر سلطة العرّافين والكهنة” .
وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أنّ أمازيغ المغرب ما انفكّوا يطالبون الحكومةَ المغربية بإلحاح في مطلع كلّ سنة أمازيغية، وفي كلّ مناسبة لإقرار يوم 13 يناير فاتح السنة الأمازيغية من كلّ حَوْل يومَ عطلة رسمية مُؤدّى عنها وذلك تناغماً، وتماشياً مع اعتراف الدستور المغربي (2011) باللغة الأمازيغية كلغةٍ رسميّةٍ للبلاد إلى جانب اللغة العربية.
روافد الهويّة المغربيّة
يؤكّد الدّارسون في هذا الصدد أنّ تاريخ المغرب الزّاخر وتراثه العريق مستوحيان من ينابيع مغربية أصيلة، وروافد وافدة متداخلة متعدّدة، وإن اختلفت مصادرها، وتباينت ينابيعها، وتعدّدت لغاتها، وألسنتها بين أمازيغية بربرية، وعربية إسلامية، وصحراوية حسّانية، وأندلسيّة موريسكيّة، وإفريقيّة أصيلة، وما فتئت العديد من النصوص والوثائق والمظانّ وأمّهات الكتب والمخطوطات والأشعار والآداب والفنون والعلوم التي أبدعها كتّاب، وفلاسفة، وعلماء، وشعراء، ومؤلفون مغاربة أقاموا واستقرّوا، أو ولدوا وترعرعوا، في هذا الرّبع القصيّ الجميل الكائن في الشمال الغربي الإفريقي، إلى جانب المعالم التاريخية، والمآثر العمرانية، والقلاع الحصينة، والدّور، والقصور، والجوامع والصوامع، والبساتين الفسيحة، والحدائق الغنّاء التي تُبهر الناظرين، التي شيّدت وبنيت شامخة فوق أرضه الطيّبة، فضلاً عن العادات والتقاليد المغربية الحميدة التي تأصّلت في أعراف وذاكرة الشّعب المغربي في مختلف مناحي الحياة، كلّ ذلك ما زال شاهدًا إلى اليوم على مدى الأوج البعيد الذي أدركه الإشعاع الحضاري في هذا البلد. فهذا الغيث الفيّاض المنهمر والمتنوّع من الإبداعات الرفيعة في مختلف الميادين لا يمكنه أن يحيا وينمو ويزدهر من لا شيء، أو داخل حدود ضيّقة أو منغلقة، بل إنّه ظهر وترعرع وازدهر ووقف مشرئباً، شامخاً اعتماداً على نبعه الأصيل، واغترافاً من معينه الأوّل وهو تاريخ المغرب التليد، وتراثه العريق، وثقافته المتميّزة، وموروثاته الحضارية ذات الرّوافد الثقافية المتعدّدة والينابيع المتنوّعة الثريّة.
ملتقىَ الحضارات
يعتبر المغرب بحكم موقعه الجيوستراتيجي المتميّز كحلقة وصل، وآصرة وثقى، وملتقى الحضارات بين الشرق والغرب، والشمال والجنوب من البلدان التي حباها الله تعالى موقعاً ممتازاً ومتميّزاً على الصعيد الجغرافي، ممّا هيّأ لها أن تقوم بدور تاريخي، وحضاري، وثقافي مرموق في الشمال الغربي الإفريقي، وفى الأندلس، وجنوب الصحراء الكبرى. كما تميّز المغرب منذ أقدم العهود السحيقة بتعدّد حضاري وتنوّع عرقي وثقافي ثريّ، حيث تعاقبت عليه، وظهرت على أديمه – مثله مثل سائر جاراته البلدان المغاربية الأخرى- دول، وحضارات، وثقافات قديمة على امتداد التاريخ، منها الحضارات الفينيقية، والبونيقية، والموريطانية، والرّومانية، وصولاً إلى الفترة الإسلامية التي تميّزت باعتناق ساكنة هذه البلدان للإسلام. ويشير العلاّمة الكبير المؤرّخ المرحوم عبد العزيز بنعبد الله – في حالة المغرب على وجه الخصوص- استناداً إلى مؤرخين ثقات من أمثال ابن خلدون، وابن الخطيب، والبكري، وسواهم: “أنّ الحِمْيرييّن، بقيادة صالح بن منصور الحِمْيَري، هم مَنْ نشر الإسلامَ بين الأمازيغ في منطقة الرّيف المغربي وأقاموا إمارة نكور أو إمارة بني صالح، وكانت بالتالي هي أوّل إمارة إسلامية ظهرت في المغرب سنة 710م ببلاد الرّيف”. ثم أسّست بعد ذلك أيّ بعد انصرام 78 سنة من هذا التاريخ دولة الأدارسة سنة 788م. وكان مؤسّس هذه الدّولة – كما هو معروف- هو المولى إدريس الأوّل ابن عبد الله، الذي حلّ بالمغرب الأقصى، واستقرّ بمدينة وليلي الرّومانية المعروفة باللاّتينية : ب (Volubilis) والتي (تقع بالقرب من مكناس بين فاس والرباط) حيث احتضنته قبيلة أوربة الأمازيغية، ودعمته حتى أنشأ دولته. ومعروف كذلك أنّ دولاً أخرى تأسّست قبل وصول الإسلام إلى هذه الرّبوع من أمثال (نوميديا، موريتانيا، تنجيس )، وتعاقبت على المغرب بعد كلٍّ من إمارة بني صالح بالنكور بالريف، والأدارسة بوليلي بالتوالي دولُ المُرابطين، والمُوحّدين، والمَرينييّن، والسّعديين، وصولاً إلى الدولة العلوية الحالية.
وغير خافٍ على احد أنّ السكان الأصلييّن الأمازيغ قد تفاعلوا وتمازجوا مع مختلف شعوب حوض المتوسّط، وإفريقيا. كما ظهرت على امتداد تاريخ المغرب تأثيرات، وتفاعلات لشعوب مثل الفينيقييّن، والقرطاجيين، والرّومان، والوندال، (يُنطق هذا الاسم في اللغة الإسبانية فاندالوس) ثم البيزنطييّن. كما تفاعلوا فيما بعد مع العرب الوافدين مع الفتوحات الإسلامية، ثمّ مع الحضارات الشرقية. وقد ظهرت سمات هذه التأثيرات في اللغة الأصليّة للأمازيغ التي تمازجت مع اللغات الأخرى، ونتجت عنها فيما بعد العاميّة المغربية التي تمخّضت، وانبثقت عن اللّغتين الأمازيغية والعربية ثمّ لحقتها كلمات وتعابير من لغات لاتينية دخيلة أبرزها الإسبانية والفرنسية، الشيء الذي جعل المغرب يحظى بتنوّع ثقافي، وتعدّد لغوي أسهم بقسط وافر في إغناء هوّية سكّانه على اختلاف مشاربهم وشرائحهم وتعدّدها وتميّزها. دستور 2011 أقرّ هذه التأثيرات والمكوّنات المستحدثة للتنوّع الثقافي واللغوي المغربي،. كما تمّ في هذا السبيل إنشاء المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية، لتنمية مكوّنات الهويّة المغربية الأمازيغية، والعربية، والحسّانية وصونها، مع روافدها التي هبّت عليها من إفريقيا، والأندلس، فضلاً عن رافد حوض المتوسط، وسواها من التأثيرات الأجنبية الأخرى الوافدة.
المغرب وتعدّد الأعراق والإثنيات
ومعروف ان المغرب بلد متعدّد الأعراق والإثنيات، وهو يزخر بثقافة متنوّعة، وحضارة ثريّة. تمتدّ جذورها في عمق تاريخه الطويل، بالإضافة إلى سكّانه الأصليين من الأمازيغ، فقد توافدت عليه العديد من الهجرات المتوالية القادمة من المشرق، ومن جنوب صحراء إفريقيا، ومن الشّمال، وكان لكلّ هذه المجموعات والفئات البشرية أثر كبير على التركيبة الاجتماعية للمغرب التي عرفت معتقدات سماوية منذ أقدم العهود، كاليهودية، والمسيحية، وأخيراً الإسلام. ولكلّ منطقة من المناطق المغربية خصوصيّاتها التي تتميّز بها عن سواها من المناطق الأخرى، وقد أسهمت هذه الخصوصيّات في صنع فسيفساء الثقافة المغربية، ووضع الإطار المتميّز والمتنوّع للإرث الحضاري المغربي، الذي أصبح ذا طابع معروف في العالم أجمع. كما أصبح لهذا التنوّع الثقافي والحضاري خصوصيّات، وعناصر متعدّدة مكوّنة لنسيجه الاجتماعي على اختلاف مناطقه وجهاته، ومن أبرز هذه المكوّنات والعناصر التي تطبع هذه الأنسجة الحضارية الثريّة ذات الألوان الفسيفسائية المتنوّعة العنصر البشري، واللغوي، والثقافي، حيث تنطوي تحت هذه العناصر برمّتها مكوّنات في العديد من المظاهر الثقافية، والحضارية التي تطبع المغرب بطابع خاص ومميّز.
لغاتنا هويّتنا
يُعتبر المغرب دولة أمازيغية- عربية. ويصرّ آخرون بإلحاح على الهويّة الأمازيغية – الإفريقية للمملكة المغربية. ويعترف المغاربة بالهويّة الأمازيغية للبلاد، انطلاقاً وتأسيساً على اللغة، والعرق، والجنس، والأصل، والعادات، والتقاليد، والثقافة. كلّ أولئك يكوّنون الهويّة التي تميّز كلّ منطقة عن أخرى .فعلى الرّغم من أنّ الأمازيغ قد تعلّموا اللغة العربية وأجادوا وألّفوا وأبدعوا فيها، فإنهم صانوا، وحافظوا على إرثهم الثقافي المتواتر، وتقاليدهم، ولغتهم وعاداتهم، وأمثالهم، وحِكَمهم، وفنونهم، وعوائدهم التي يتباهون ويتغنّون فيها بالحياة الكريمة، والحريّة، والكرامة. ولقد استعملت لغة الضاد بدون انقطاع في مختلف مناطق المغرب وأرجائه في الفقه، والتشريع، والأحوال الشخصية، والتدريس، والتأليف، والتدوين، والتصنيف، والمراسلات الرسمية، وفى مختلف فروع وحقول العلوم على تباينها، فضلاً عن استعمالها في والإدارات، والبلاطات على امتداد العهود التي تعاقبت على تاريخ المغرب منذ الفتح الإسلامي إلى اليوم.
إنّ الدّفاع عن اللغة العربية لا ينبغي أن يثنينا أو يبعدنا عن العناية، والاهتمام، والنّهوض، والدّفاع كذلك بشكلٍ متوازٍ عن عناصر مهمّة، وأساسيّة أخرى في المكوّنات الأساسية للهويّة الوطنية في هذا البلد وهي اللغة الأمازيغية. وفي حالة البلدان المغاربية على سبيل المثال، فإنّ اللغات الأمازيغية الأصليّة فيها قد تعايشت مع لغة الضّاد في مجتمعات تتّسم بالتعدّد، والتنوّع، والانفتاح، ليس بين لغاتها ولهجاتها الأصلية المتوارثة وحسب، بل وحتى على اللغات الأجنبية الأخرى كالفرنسية، والإسبانية، والإنجليزية، والإيطالية وسواها. وحسبي أن أشير في هذا الصّدد إلى التعايش المتناغم الذي كان قائماً بين هذه اللغات برمّتها، والذي لم يمنع أبداً في أن يكون هناك علماء أجلاّء في هذه اللغة أو تلك من مختلف جهات، ومناطق هذه البلدان.
المِعمار المغربي فنون إبداعية راقية
لا ريب ان فنّ العمارة في المغرب يعتبر من الفنون الإسلامية التقليدية العريقة، التي كانت ولا يزال لها أبرز الأثر في كثير من المظاهر الحضارية، والمآثر والإبداعات العمرانية منذ مئات السنين وإلى عصرنا الحاضر. وتقف هذه المآثر في مختلف ربوع المملكة شامخة بكل ألون الإبداع والفن والابتكار. ومن أبرز تلك المعالم الإبداعات المغربية الخلاقة فنون العمارة التي تنتشر في مختلف مدنه، وحواضره الألفية. نذكر منها على سبيل المثال وليس الحصر قصور، وقصبات الجنوب المغربي، والبيوت التقليدية العتيقة في مختلف مناطق المغرب، فضلاً عن الصوامع والجوامع المنتشرة في مختلف الربوع والأصقاع، وخير مثال لهذه المآثر العمرانية الخالدة صوامع الكتبية بمراكش، وحسّان بالرباط و”لاخيرالدا” بمدينة إشبيلية بإسبانيا والتي هي من بناء الموحّدين. وما فتئت هذه الصّوامع الثلاث تستقطب اهتمام السياح من كل صوب وحدب، ومن مختلف أرجاء المعمور، وتحظى بإعجابهم، وانبهارهم إلى يومنا هذا.
بالإضافة إلى العديد من المعالم المعمارية والمآثر الحضارية الأخرى نذكر منها على سبيل المثال وليس الحصر كذلك المدرسة البوعنانية بفاس، ومقابر السّعديين بمراكش، وسواهما من المباني والقصور والقلاع، والحصون، والأبواب الشامخة، والأضرحة والمساجد الكبرى التاريخية منها والحديثة الكثيرة التي تملأ مختلف ربوع البلاد. وتتميّز هذه المباني بطابعها المغربي المتميّز ذي الأسقف الخشبية المنقوشة. كما يتجلّى هذا الطراز المغربي المعماري بشكل جليّ في الأثاث، والأسقف، والأعمدة الرخامية، والزلّيج الملوّن أو الأبواب، واستعمال الموزاييك ذي الرسوم، والألوان، والخطوط البديعة الزاهية، التي تقدم تنوّعاً رائعاً من الأشكال التي قد توحي للناظر إليها بأبهى صور الطبيعة، وروعة جمالها. ومن المثير أن كلّ هذه القِطَع تجمع واحدة، واحدة، وتثبّت بالإسمنت والجير لتكوّن لوحات من الفسيفساء التي غالبا ما تزيّن جدران القصور، والدّور، والمساجد، والحدائق، والجوامع، والصوامع، والأعمدة، والأقبية، والأحواض، والنافورات إلخ. ولا تزال تحتفظ مختلف هذه البناءات بهذه الخاصّيات المميّزة في فنّ النقش على الجبس في المغرب إلى يومنا هذا. وتشترك أو تتقاسم هذه المعالم العمرانية في الرّوعة، والبهاء، والحُسن الفنونَ المعمارية الأندلسية التي ازدهرت، وتألّقت هي الأخرى بشكل مثير للإعجاب على امتداد الأحقاب خلال الوجود العربي والأمازيغي الإسلامي في شبه الجزيرة الإيبيرية في إسبانيا بشكل خاص.
الطبخ المغربي.. ثراءٌ وذوق
من المظاهر الحضارية الرّاقية التي تميّز التعدّد الثقافي المغربي فنّ الطبخ الذي يعتبر منذ القدم من أكثر المطابخ تنوّعا وشهرة في العالم. ويرجع الفضل في ذلك إلى تفاعل المغاربة على امتداد التاريخ مع العالم الخارجي منذ قرون بعيدة خلت. ويتميّز المطبخ المغربي بثرائه، وتنوّعه، وابتكاراته وإبداعه، وتعدّد مصادر تكوينه فهو مزيج من المطبخ الأمازيغي الأصيل، والأندلسي، والعربي، والمطبخ التركي العثماني، والمغاربي، والشّرق أوسطي، والإفريقي. وهو يستقي أصوله وتأثيراته كذلك ولا شكّ من مختلف الحضارات المتباينة التي نشأت، وترعرعت، وسادت في حوض البحر الأبيض المتوسّط، والتي تعاقبت على المغرب منذ أقدم العصور، والدهور. واشتهرت العديد من المدن المغربية الكبرى منها والصّغرى على اختلافها بفنون الطبخ، وإعداد أشهى الأطعمة، والحلويّات التي بوّأت المغرب منزلة عليا بين الأمم، وضمنت له شهرة عالمية في هذا القبيل .
المُوسيقىَ لغة الرّوح
يقول المؤرخ الاغريقي هوميروس ” إذا أردت أن تتعرّف على عظمة شعبٍ فاستمع إلى موسيقاه ” ويحفل المغرب بثراء واسع بمختلف الفنون الشعبية، والعديد من المهرجانات الفلكلورية على امتداد رقعته الجغرافية المترامية الأطراف، حيث تقدّم عشرات الفرق داخل الوطن المغربي وخارجه لوحات رائعة، وتعكس هذه الفنون الإبداعية الفطرية والفنية على اختلافها، وتنوّعها، وتعدّدها بشكل جليّ غنى وتنوّع هذا التراث الزّاخر، ومدى عراقة الشعب المغربي وتعدّد إثنيياته وثراء فنونه، والفلكلور المغربي زاخر بالمواهب، حافل بالأصالة وهو يعتمد في الغالب على النّغمات والإيقاعات الرّخيمة والمتناغمة، التي تستقي مادتها الأولى، وعناصرها الأساسية من الفنّ الشعبي المرتبط بالبيئة، والأوساط القروية، والبوادي، والمداشر، والضّيع، والأرباض، والمجتمع كيفما كانت أنواعه وأنماطه. الشيء الذي يزيد من أهميته وغناه من حيث الكمّية والنوعية، والشكل والمضمون في آنٍ واحد، وهكذا نجد رقصات، ولوحات فنية مثل: طرب الآلة، والطرب الأندلسي، والغرناطي، والموشّحات، وفنّ الملحون، والأمداح، والفن الأمازيغي الأصيل (للاّبويا)، والطقطوقة الجبلية في شمال المغرب، ورقصة غناء اكناوة، ورقصات أحيدوس، والركّادة، وغيرها من الفنون والرّقصات الشعبية الأخرى المعروفة التي لا حصر لها.
لباسُك يرفعك !
ويحتلّ اللباس التقليدي المغربي مكانة مرموقة في عالم الموضة في مختلف أنحاء المعمور، وهو جزء لا يتجزّأ من التراث المغربي الأصيل الذي يعدّ أحد المقوّمات البارزة للحضارة المغربية، وهو من أبرز المظاهر الحضارية لبلادنا ورمز رقيّها وتميّزها، كما أنه انعكاس واضح للتعدّد والتنوّع اللذين يميّزان الثقافة المغربية الأصيلة. ويعدّ الجلباب والسّلهام، والجابادور، والبدعيّة، والحايك، والعباية، والكندورة، و”القفطان” من أقدم الألبسة التقليدية وأرقاها في المغرب.
ويؤكّد المؤرّخون أنّ هذه التشكيلات المنوّعة من الأردية التقليدية تعود إلى العهود القديمة لدى لسكّان البلاد الأصليين، ثمّ عرفت تطوّراً كبيراً منذ عصر المرينييّن، وكانت بعض هذه الألبسة منتشرة كذلك في الأندلس. ويعتبر المغاربة قفطانهم رمزاً بارزاً من رموز ثقافتهم التقليدية الشعبية الأصيلة. ومهما تنوّعت أصناف الألبسة المتوارثة، وتعدّدت أشكال الأردية التقليدية عند المرأة، تظلّ للتكشيطة الغلبة بخاصّيتها التي لا منافس لها في عالم الأزياء؛ بل إنها تعتبر مفخرة النساء المغربيات في كلّ مكان وزمان اللاّئي ما فتئن يفضّلن اختيارها وارتداءها كزيّ تقليدي عريق وأصيل، بدل التصميمات والتقليعات العصرية الحديثة الوافدة التي تقذفها لهنّ الموضة العالمية كلّ يوم. وتتميّز كلّ مدينة أو منطقة في المغرب بأسلوب خاص بها انطلاقاً من أقصى شمال المغرب إلى أقصى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه، حيث تتباهى المرأة المغربية في مختلف المناطق، والأقاليم، والجهات، والضواحي، والأرباض من جهة، بلباسها التقليدي الأصيل وتعتزّ به اعتزازاً كبيراً، حيث تتنوّع، وتتعدّد أساليب الخياطة والابتكار، وأنماط الطرز، والحياكة، والإبداع فيه من منطقة إلى أخرى .
المتاحف خزائن الذّاكرة
المتاحف المغربية المنتشرة في العديد من المدن المغربية تختزن مختلف المظاهر الحضارية والثقافية التي تعاقبت على البلاد منذ أقدم العصور حفاظاً على الذاكرة الجماعية لمختلف جهات ومناطق المغرب. وتضطلع هذه المتاحف بدور حيوي في حماية الموروثات الثقافية وحفظها، وصونها والتعريف بها، إلى الجانب دورها التثقيفي، والتعليمي، والترفيهي والسياحي. وقد أنشئت في البلاد العديد من المتاحف في مختلف حقول المعرفة، وفروع العلم والإبداع. والصناعات التقليدية .
وتتعدّد المتاحف من أركيولوجية، وإثنوغرافية، إلى متاحف متخصّصة وهي تقدم برمّتها على تنوّعها لزوّارها، وروّادها وللطلبة والدارسين والمتعطشين للعلم والمعرفة صوراً، وأشكالاً، ولمحات تسلسلية عن تاريخ المغرب، وتطور فنون الإبداع، وتواتر العادات، وتوارد التقاليد فيه عبر العصور.
وتنبغي الإشارة في هذا الصدد إلى أنّ هناك مناطق عديدة في المغرب ما زالت تفتقد وتفتقر إلى متاحف من هذا القبيل لحفظ موروثاتها، وصَوْن تاريخها، وصَقل وتخزين ذاكرتها الجماعية المشتركة وشحذها، وتجديدها، منها منطقة الرّيف الشاسعة التي لا يوجد بها حتى اليوم مُتحف واحد من هذا النّوع.
ويتوفّر المغرب، بعناصره التعددية والمتنوّعة، على أرضية ثريّة فسيحة أسهم في رسمها تاريخ البلاد ممّا جعلها تتميّز بشخصية خاصّة ذات كيان قائم الذات منذ قرون عديدة خلت، ومركزَاً مهمّاً من مراكز الإشعاع الحضاري الذي يسهم بقسط وافر في التطوّر الإنساني على مستويات الفكر والإبداع، والثقافة، والعلم والعرفان، والأخلاق، والعمران، في تلاؤم وتناغم متكاملين بين مختلف العناصر والمقوّمات والمكوّنات الأخرى التي تجعل منه بلداً ذا شخصيّة متميّزة .
التعدّد الثقافي والتوّع الحضاري في المغرب
الحديث عن التعدّد الثقافي والتوّع الحضاري في المغرب يحلو ويطول، والتاريخ لا يُقرأ في هنيهة. إنّ الزّائر الذي يأتي إلى هذا البلد يلمس التاريخ حيّاً نابضاً قائماً في كلّ مظهر من مظاهر الحياة فيه، دراسة هذا التاريخ، والتعمّق فيه واستخراج العناصر الصّالحة منه أمر لا مندوحة لنا عنه، ينبغي أن يُولىَ أهميّة قصوى، وعناية فائقة، من لدن مختلف الجهات العلمية والتاريخية التي تُعنى بهذه المواضيع للتعريف بهذه الذخائر، ونشر الوعي وتأصيله بشأنها لدى أبناء جلدتهم ليكون المستقبل الذي يتوقون إليه مستقبل رقيّ وأوج، وإشراق وتلاق بين ماض عريق، وحاضر واعد، ولعمري إنّ لفي ذلك تجسيداً وتجسيماً للعهود الزّاهرة التي عاشها الأجداد على امتداد العصور الحافلة بالعطاء الثرّ، والتعايش والتسامح، والإشعاع الثقافي والعلمي البّاهر الذي شكّل وما يزال جسراً حضارياً متواصلاً بين الشرق والغرب، وبين مختلف الأجناس، والإثنيات، والملل، والنحل، والديانات في هذا الصّقع القصيّ الجميل من العالم. هذا ومن العلامات المضيئة لهذا الانفتاح والتنوّع الحضاري، والتبادل الثقافي والتثاقفي الذي عرفته البلاد في ماضيها المشرق، العديد من العلماء، والمفكرين، والفلاسفة، والشّعراء، والفنانين، والموسيقيّين الذين عاشوا في الأندلس ثم انتقلوا إلى المغرب والعكس صحيح، والأمثلة كثيرة وافرة، والأسماء لا حصر لها في هذا القبيل. وحسبنا أن نشير في هذا المقام إلى اسميْن بارزيْن في التاريخ المشترك للمغرب والأندلس، وهما: الفيلسوف الجهبذ، العلاّمة ابن طفيل صاحب “حيّ ابن يقظان”، وتلميذه قاضي إشبيلية، وعالمها، وطبيبها، وفيلسوفها الذائع الصّيت أبو الوليد محمّد بن رشد اللذان استقبلتهما مراكش بحفاوة منقطعة النظير، وبوّأتهما أعلى الأرائك، وأرقى المراتب، وأرفعَ المنازل، وملكتهما من أعنتها وقيادتها فاستطاب لهما العيش فيها واسترغداه، وأصبحا صاحب الأمر في البلاد، ولقد وافتهما المنيّة في مدينة مراكش .
مُجْمَلُ القَوْل
ومُجمل القول، فإنّه في بلدٍ مثل المغرب، لا يمكن تقوية الحوار، واحترام التنوّع الثقافي، والتعدّد الإثني. كما لا يمكن لهما أن يصبحا واقعاً حقيقياً ملموساً على الصعيدين المحلّي، والعالمي إلاّ إذا أمكن تبنّي مبدئيهما، وترسيخهما، وفسح المجال لتحقيق أهدافهما، ومراميهما النبيلة من طرف كلّ مواطن، ومواطنة؛ وذلك انطلاقاً من الموروثات التاريخية المتعدّدة العريقة والأصيلة فيه، وَصَوْن هويّته العريقة القائمة على تواصل التفاعل الإيجابي، وتجدّده بين مقوّمات الوحدة والتنوّع، والمزج والتآلف بين روافد، ومنابع، ومناهل هذه الهويّة، والتشبّث بالقيم الإنسانية والكونية وترسيخ ميثاق حقيقي لضمان وتأكيد الحقوق، وتبيان الواجبات، وتأصيل الحريّات الأساسية، والتشبّث بقيم، ومبادئ الانفتاح، والاعتدال، والتسامح، وتأصيل الاحترام المتبادل بين الأفراد والجماعات، ونشر الحوار، والتفاهم المتبادل بين مختلف الثقافات، والحضارات الإنسانية، فضلاّ عن تلاحم وتنوّع مقوّمات الهويّة الوطنية الموحّدة، وانصهار، وتمازج كلّ مكوّناتها، العربية الإسلامية، والأمازيغية الأصيلة، والصّحراوية الحسّانية، الثريّة بروافدها، ومنابعها الأفريقية، والأندلسية، ومن مختلف روافد، وينابيع حضارات، وثقافات حوض البحر الأبيض المتوسّط.. والخلاصة هي أنّ واقعنا المُعاش في الوقت الرّاهن يحتّم علينا المزيد من التعارف، والتآلف، والتقارب، والتداني، والتصالح، والتصافح، والتكتّل والاندماج، وإقصاء، ونبذ، وتجاوز كلّ منظور فكري ضّيق، ومعتم يعتبر المجتمعات مجرّد دول، وشعوب، وجماعات، وأجناس، وإثنيات، متفرّقة، مشتّتة، متباعدة، متنابذة، تتعايش، وتتبارى، وتتنافس فيما بينها، والتّوْق إلى تبنّي، وإقرار، وتأصيل، وتأثيل، وترسيخ، وتأكيد مفهوم أوسع فضاءً، وأنجع ثراءً، وأفسح معنىً، وأكثر شمولية، وأجدى إيجابية يجعل من هذه الشعوب، والمجتمعات، والجماعات، لبناتٍ ثابتة، وجذوراً راسخةً، ومتنوّعة لكيانٍ واحدٍ مشتركٍ، ومتماسكٍ، قائمِ الذّات، تتجلّى، وتتبلور، وتتجسّم فيه أحلى، وأجلى، وأرقى، وأنقى، وأبهى، وأروع معاني الإنسانية، والتوحّد، والشمول، دون التهميش، أو التناسي، أو التفريط قيد أنملة في الحقوق المُصانة، والمَطالب المشروعة الرّاسخة لأيِّ مكوّنٍ من هذه المكوّنات الأساسيّة برمّتها، وفي طليعتها الهويّة الأمازيغية الأصيلة التي بدونها، ولولاها لأنفرط العِقدُ النّظيم وتناثرتْ حبّاتُه، وتهاوىَ الصَّرْحُ المتين وانشرخت وتفتّقت لبناتُه..!
*كاتب وباحث ومترجم من المغرب ،عضو الأكاديمية الإسبانية – الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوطا- كولومبيا