1. التوظيف السياسي للتاريخ.

نشر الدكتور سعد الدين العثماني، رئيس الحكومة السابق، والأمين العام السابق لحزب العدالة والتنمية، أول أمس (31 أكتوبر 2022)، في صفحته بشبكة التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، نسخة من رسالة للشيخ أحمد الهيبة بن الشيخ ماء العينين إلى جده الأكبر، أهداه إياها الدكتور ماء العينين النعمة، رئيس جمعية الشيخ ماء العينين للتنمية والثقافة بتزنيت، وذكر أنها « تؤرخ للعلاقة الوطيدة بين أسرتينا ».

التدوينة إيّاها؛ جزء من سلسلة تدوينات يدافع فيها الدكتور العثماني، عن الموقف المغربي من قضية الصحراء، لذلك ارتأينا في هذا المقال، نقل النص من سياقه السياسي إلى سياقه التاريخي، أولا؛ بنقل متن الرسالة كما وردت مخطوطة، وثانيا؛ بتحليلها بأدوات البحث التاريخي، وبخصوص العنوان؛ فقد وضعناه طويلا على شاكلة كتب فقه النوازل، ليستجيب لطبيعة الموضوع، الذي يندرج ضمن التاريخ السياسي والديني للمغرب.

ففي أي سياق تندرج الرسالة؟ وما حدود العلاقة بين الأسرتين؟

2. رسالة الهيبة إلى العثماني:

« الحمد لله وصلى الله على من لا نبي بعده

ابننا الأرضى ومحل ودّنا المرتضى الولي الصالح السيد محمد بن أحمد [الأسكَاوري] العثماني من زاوية أكَرسف أعانك الله وأصلح أمرك وعليك سلام الله تعلى [كذا] وبركاته ما دام الكون وحركاته وسكناته فموجبه إليك إعلامك أنه وافانا كتابك الذي أفاد وأجاد فيه خطابك وقد حُزْنا جميع ما ذكرت فيه من البشارات عن سيد الكائنات وقد وصلت الهدية وقبلناها متعك الله بها ومتعها بك وجازاك الله عنا وعن جميع المسلمين بأحسن الجزاء فادع الله لأهل الإسلام أن يردّ عنهم جمع الأعداء الظاهرة والباطنة والتمس الدعاء ممن تعرف من الرجال أهل الله مثلك هو المعوّل عليه في رد الأعداء ولا تنسنا من صالح أدعيتك في سرك وعلانيتك وقد أحلنا مجازاتك على الله في هديتك أيّد الله بنا وبك دينه وقوى بنا وبك لكلّ مسلم يقينه وقد أخذت حظك من الجهاد أن دعوت لنا عن ظهر غيب وكأنك أتيتنا بلا وساطة فهُو حقّ عليْك فلا تغفل عنْه بالتمام وعلى العهد القديم والود الصميم والسلام في ثامن ربيع النبوي عام 1331 [بداخله طابع: أحمد الهيبة بن شيخه الشيخ ماء العينين كان الله لهما] ».

2. المرسِل والمرسَل إليه:

المرسِل هو الشيخ أحمد الهيبة بن الشيخ ماء العينين، الذي خلف والده المتوفى سنة 1910، على رأس الزاوية التي ملأت الفراغ السياسي بسوس قبيل فرض الحماية الفرنسية على المغرب، رغم وجود معارضين لها في محيط تزنيت يقودهم آل أُهاشم بتازروالت، فقد تمكن من توحيد قبائل سوس والصحراء في حركة مسلحة قوامها 15 ألف مقاتل، زحف بها نحو مراكش، وهناك بويع سلطانا للبلاد في 15 غشت 1912، تزامنا مع تخلي عبد الحفيظ عن العرش، ما دفع الجنرال ليوطي إلى أخذ البيعة لأخيه يوسف بن الحسن، وتوجيه جيش كبير لطرد الهيبة من عاصمة الجنوب، التي تأتى له احتلالها في 7 شتنبر، ليلجأ بعدها إلى تارودانت، وظل يقود الجهاد بسوس إلى حين اغتياله صيف 1919.

أما المرسَل إليه، فهو محمد بن أحمد بن الحسين الأسكَاوري الكَرسيفي، ذكر السوسي أنه: « ولد في ربيع الثاني 1252ھ [يوليوز 1836م] في (إسكاور)، ثم أخذ القرآن عن والده ثم أخذ عن هؤلاء العلماء الأجلاء معلوماته العربية… وللمترجم مكانة مكينة في التصوف… كما كان مولعا بالتفسير والحديث ». (المعسول، 17/157-158). وإسكاور هي مقر زاوية أكَرسيف بقبيلة أمانوز نواحي تافراوت، والأسرة الكرسيفية هي أشهر الأسر العلمية بسوس، تسلسل فيها العلم والصلاح نحو ألف عام (المعسول، 17/43)، توفي المترجَم في أبريل 1914، وهو الجد الثاني للدكتور العثماني، اللقب الذي اتخذته أسرته بعد الاستقلال.

3. أحمد الهيبة والعثماني: أية علاقة؟

حين حلت زاوية الشيخ ماء العينين تزنيت (1909)، كانت سوس تشهد فراغا سياسيا، بعد أن انحسرت عنها سلطة المخزن، عقب ثورة الجيلالي الزرهوني الملقب “بوحمارة” (1903)، حيث عمدت معظم قبائلها إلى طرد قوادها وهدم منازلهم، فراغ ملؤه بعض الفقهاء والطرق الصوفية هناك، أي الناصرية والدرقاوية والتيجانية، التي كانت تتنافس فيما بينها لجلب الأتباع، قبل أن تأتي الزاوية الوليدة فتسحب البساط من تحت أرجلها جميعا، بعد أن تزعمت الجهاد ضد الفرنسيين، ما أرغم الجميع على الالتفاف حولها بعد دخول القوات الفرنسية العاصمة فاس، أما الحركة فاسترضتهم برفع شعار « لا ضرائب ولا قُواد »، مما يعنيه ذلك من نزع السلطة من ممثلي المخزن ووضعها في يد الفقهاء، وإلغاء كل المغارم التي فرضت من العهد الحسني إلى الحفيظي باعتبار عدم شرعيتها، ومن هنا؛ كانت الحركة أشبه بحلف سياسي بين الطرق الصوفية بسوس، تحالف تحكمت فيه المصالح الأسرية والقبلية، لذلك جاء سقوط الحركة سريعا، لقد حملت في أحشائها من التناقضات والأدواء ما عجّل هلاكها، وبمجرد تمزق شملها عادت سوس إلى وضعها السابق، فانقسم الفقهاء بين مؤيد ومعارض موالي للمخزن اليوسفي، الذي كان رجال المقاومة يسمونه “المخزن الفرنسي”، حيث انحاز الفقيهان أُعْبُّو والرفاكَي إليه بإغراء من الكَلاوي، بينما التحق بها في تارودانت، كل من أبو محمد التمنارتي وأبي الحسن الإلغي والحاج إبراهيم الإغشاني، فضلا عن حامل لوائها الحاج عابد الشتوكي، وكذلك انقسمت القبائل، حيث عاد مناوئو الزاوية يتواصلون فيما بينهم للإجهاز عليها.

وبالعودة إلى جد العثماني، وجب التنبيه إلى أنه كان ينتمي للطريقة الناصرية، أخذها عن شيخها هناك؛ سيدي سعيد المعدري، لذلك نجده يلتزم الحياد عند انطلاق الحركة، ذكر السوسي ذلك؛ فقال: « وحين ماجت سوس بحركة الهيبة لزم هو كأمثاله بيوتهم قابعين » (المعسول، 17/158)، ومن هنا لم تكن هناك أي “علاقة وطيدة” بين الأسرتين، كما زعم العثماني في تدوينته، أما ما جاء في الرسالة، فلا يمكن فهمه إلا بفهم سياق كتابتها.

4. السياق التاريخي للرسالة:

تحمل الرسالة تاريخ 8 ربيع النبوي 1331ھ، ما يوافق 14 فبراير 1913م، على وجه التقدير، أي أنها كتبت بعد طرد الهيبة من مراكش وتراجعه نحو تارودانت (شتنبر 1912-ماي 1913)، مرحلة تميزت بمحاولة الحركة استعادة تنظيمها السياسي والعسكري، اصطدمت خلالها مع خصومها من القبائل المناوئة التي عارضتها من أول يوم، أي؛ تازروالت وأيت جرار والمعدر وفرع الخمس بأيت باعمران، حيث تلقت ضربة سياسية أخرى، تمثلت في طرد أهل تزنيت الشيخ النعمة، أخ الهيبة وخليفته فيها، يوم 24 نونبر 1912، وانتهابهم أعشار الزاوية التي أمدتها بها القبائل، وكذا؛ خزانة الشيخ ماء العينين، التي كانت تعد الأكبر في سوس والصحراء (المعسول، 4/177-178)، ويعمدوا بعدها إلى إرسال رسائل البيعة للسلطان يوسف يوم 13 دجنبر، الذي أرسل بدوره حرْكة يقودها الكلاوي لطرد الهيبة من تارودانت. وما هي إلا أيام حتى تلقت ضربة أخرى، بعد سحق الاحتلال الفرنسي ثورة حاحة (17 دجنبر 1912-26 يناير 1913)، وهي يومها أكثر القبائل تأييدا للحركة، وما تلاه من استسلام أبرز رؤسائها القائد عبد الرحمن الكيلولي، يوم 4 فبراير 1913، أي قبل عشرة أيام من كتابة الرسالة، التي تندرج ضمن جهود الهيبة تجميع الأنصار والبحث عن موارد مالية جديدة، لصد توغل الاحتلال بسوس، أو بتعبير الرسالة « رد الأعداء »، بعد انتهاب أعشار الزاوية بتزنيت وتراجع عدد مؤيديها.

الرسالة في المحصلة؛ إخبار بوصول « لهدية » من زاوية أكرسيف، وامتنان للشيخ العثماني على مبادرته، التي تنسجم وموقف قبائل الأطلس الصغير وشيوخها المعتبرين (عابد والتمنارتي والإلغي والإغشاني)، الجديد من التحول السياسي بسوس بعد موالاة أهل تزنيت وأكَلو للمخزن، وهي التي كانت في صراع دائم معهما، مع التذكير بأن الهدايا والأعشار كانت حينها أهم الموارد المالية للحركة، التي قوي نفوذها هناك، حيث ستكون كردوس آخر معقل من معاقلها قبل اغتيال زعيمها سنة 1919، وخليفته مربيه ربه في 1934.

هذا هو السياق العام للرسالة مختصرا… رحم الله الجميع.. وعلى المحبة والسلام.

* رابط تدوينة الدكتور سعد الدين العثماني، التي تتضمن نسخة مصورة للرسالة.

https://www.facebook.com/photo/?fbid=670469424444607&set=a.429866511838234

باحث في تاريخ المغرب