
خدعة الدولار والطوفان المالي القادم ..
أشرت في مقال ” خلق النقود و سعر الفائدة و تأثيرهما على الاقتصاد و المواطن “، إن كسر شوكة هيمنة النظام النقدي و المالي الربوي السائد، يحتاج إلى دولة مبدئية لها إطار نظري و تطبيقي يعالج إختلالات النموذج الرأسمالي، و النموذج الاقتصادي الاسلامي يتضمن علاجا فعالا للعديد من الاختلالات التي يعانيها النظام الرأسمالي، و أن الأمر يحتاج إلى نظام سياسي فعال و دولة تملك القدرة و الجرأة على تطبيق مبادئ الفكر الاقتصادي الاسلامي بموضوعية، و ما دمنا نعالج موضوع الفائدة و علاقتها بالنقود فلابد من توضيح عملية تسليع المال و بخاصة سيطرة الدولار وفك الارتباط بالذهب..
آراء أخرى
وفي عبارة شهيرة للجنرال شارل ديغول رئيس فرنسا السابق و محررها من النازية، قالها في ستينيات القرن الماضي حول هيمنة الدولار الأمريكي و خطورة ذلك على الإستقرار المالي و الإقتصادي العالمي: “إن قبول الدول للدولارات كما تقبل الذهب يجعل من الولايات المتحدة مدينة تجاه العالم و دون مقابل، إن هذا التسهيل الممنوح فقط للولايات المتحدة يساهم في إزالة الفكرة بأن الدولار عبارة عن أداة نقدية رمزية غير منحازة، وتساهم في تمويل المبادلات الدولية، إنه تسهيل لصالح طرف واحد و دولة واحدة..”، والواقع أن هذا الموقف كلفه الكثير، و من ذلك محاولة إغتياله بتدبير من وكالة المخابرات الأمريكية، و عندما لم تنجح محاولة إغتياله، تم الإطاحة به سياسيا عبر مظاهرات مايو 1968 الطلابية والتي عمت فرنسا كإحتجاج ثقافي و معارضة للتقاليد البالية..!!
وإخترنا الإستشهاد بكلام ديغول لأنه أول رجل دولة عبر عن مخاوفه من إحتكار أمريكا للدولار و عدم قدرتها على تحويله إلى ذهب، تبعا لما نصت عليه إتفاقية “بريتون وودز” لعام 1944..و الغريب في الأمر أن أزمات العالم وجزء من الحروب، كان نتاج للعنة الدولار و لرغبة أمريكا في إستمرار الدولار كعملة إحتياطية عالمية، و كل من حاول تهديد هذه الهيمنة أو كسرها يتم إقباره، ففي عام 2000 قرر الراحل “صدام حسين” بيع النفط العراقي باليورو بدلا من الدولار، وفي عام 2004 تم تدمير العراق ككل، و إحتلاله، و إعدام صدام فيما بعد.. كما أن سعي العقيد “معمر القدافي” إلى توحيد جهود البلدان الإفريقية، عبر إنشاء ما سماه بالولايات المتحدة الأفريقية، وظن البعض أن الرجل مجنون، و يحاول بعثرت ثروات ليبيا على بلدان القارة لشراء الولاء السياسي، لكن الرجل سعى إلى صك عملة عابرة للحدود لها غطاء من الذهب، وكانت ستشكل تهديدا لإستمرار هيمنة الدولار، و رأينا جميعا مصير ليبيا و زعيمها..كما حاول مهاتير صك عملة ذهبية ” الدينار الإسلامي” و قد بدأ بالفعل الدينار الذهبي يتداول على نطاق واسع في ماليزيا ونأمل أن تدرك البلدان الاسلامية و بخاصة المنتجة للنفط و الغاز، مخاطر الاستمرار في المراهنة على الدولار الأمريكي، و الاستمرار في لعبة البيترودولار..
أولا- خدعة الدولار والطوفان المالي القادم:
والواقع أن هذا الموضوع على درجة كبيرة من الأهمية، وينذر بأزمة عالمية خطيرة، قد تُرجِع ملايير البشر لعصر المجاعات والإقتتال على غرار ماحدث في الكساد الكبير لعام 1929 وربما أكثر، بل إنه خطر داهم يهدد العالم ككل، ويمكن تشبيهه مجازا ب “طوفان نوح” ..
فمعظم بلدان العالم تُعتبر مدينة تجاه النظام المصرفي الدولي، فارتفاع الدولار او إنخافضه، وزيادة الفائدة على الدولار، تعني التأثير على مديونية مختلف البلدان وعلى إحتياطياتها من النقد الأجنبي المقوم بالدولار الأمريكي، وعلى عملتها الوطنية ومن تم التأثير في معدلات التضخم والانكماش وإضعاف القدرة الشرائية للعملة المحلية..
والخلل في النظام النقدي الدولي الذي بدأ منذ سبعينات القرن الماضي وما ترتب على ذلك من إنعكاس سلبي على معيشة معظم سكان العالم، هو نتاج للسياسات النقدية والمالية للولايات المتحدة، بل حتى إمكانية إصلاح الخلل من الصعب أن يتم بمعزل عن أمريكا، على إعتبار أنها القوة المهيمنة على الإقتصاد الدولي وهي السبب في الداء وعنصر ضروري في الدواء..
فأمريكا تعلم جيدا أن النظام القائم يتجه نحو الإنهيار و الإجراءات المتخذة هي مجرد مسكنات لا تزيل مسببات الأزمة، وهي لا ترغب في الإصلاح لأنها لا تريد تحمل تكاليف الإصلاح، فالسير في هذا الإتجاه يقتضي أن يعيش المواطن الأمريكي وفق دخله الفعلي، و أن تنفق أمريكا بشكل معقول و تبعا لإمكانياتها الحقيقية، و على الشعب أن ينتج أكثر مما يستهلك، كما ينبغي الحد من تسهيلات الإقراض المصرفي و التوسع في المشتقات النقدية، لكن لأن أمريكا هي الأقوى فإن الأمريكي له الحق في أن ينفق أكثر مما يدخل ، لأن جزء كبير من الأموال المتاحة عبر النظام المصرفي الحالي، إنما تتدفق على الإقتصاد الأمريكي نتيجة للعبة الدولار، فالولايات المتحدة تفرض جزية على العالم عبر الحصول على السلع و الثروات مقابل دولار لا يكلفها إلا ثمن الطبع. فهي البلد الوحيد في العالم الذي يستدين ولا يدفع..
ثانيا-إلغاء قاعدة الصرف بالذهب والتضخم النقدي:
ولمعرفة آلية إشتغال لعبة الدولار لابد من تتبع تطور النظام النقدي الدولي منذ نشأته في عام 1944 بموجب إتفاقية “بريتون وودز” وإحداث صندوق النقد الدولي وتطور هذه الاتفاقية في التطبيق إلى أن وصلت مرحلة القضاء عليها ابتداءاً من عام 1971، من قبل الأطراف التي أشرفت على صياغتها وتحديدا الحلفاء..
لما بدأت محادثات (بريتون وودز) سنة 1944 تحت رعاية الأمم المتحدة، بغرض وضع مسودة النظام النقدي الدولي، اقترحت بريطانيا على لسان مندوبها الاقتصادي الشهير “كينز” أن يوضع نظام لإصدار النقد العالمي يكون مرتبطًا بلجنة دولية لها حق الإشراف على ثبات أسعار الصرف، لكن إصرار الوفد الأمريكي جعل حق الإشراف للمصرف المركزي الأمريكي. واستقر الدولار حينئذ ليكون هو النقد الوحيد الذي يصلح لأن يكون أداة التبديل بالذهب، وبسعر (35) دولاراً للأوقية الواحدة من الذهب..
ولكن في عقد الستينيات انخفض رصيد الدولار من الذهب من 100% إلى أقل من 20% كما أصاب الاقتصاد الأمريكي عجز كبير، وانخفاض في ميزان المدفوعات، وفي الميزان التجاري مع كثير من الدول. وقامت أمريكا بمحاولات لإنقاذ الدولار وطلبت من فروع البنوك الأمريكية خارج أمريكا أن تنقل ما بحوزتها من دولارات إلى داخل أمريكا، وذلك للتخفيف من عمليات استبدال الدولار بالذهب، حينها كانت تقوم فيه كل من فرنسا وبريطانيا بعمليات استبدال مليارات الدولارات بالذهب، بقصد تفريغ الخزائن الأمريكية من الرصيد الذهبي، حتى سنة 1968، إذ وقع الدولار في أزمة مستعصية، وهو ما اضطر الرئيس الأمريكي نيكسون إلى إصدار قرار في 15 أغسطس 1971 يقضي بإلغاء تبديل الدولار بالذهب، ووضع القيود على كل الصادرات الخارجية التي تدخل الولايات المتحدة بنسبة 10%؛ وأدى ذلك الإجراء إلى موجة من الاحتجاجات عالميًّا، وأقفلت البنوك أبوابها، كما توقفت المؤسسات المالية والبورصات العالمية عن العمل..
ولكن هذا القرار ظل ساري المفعول، وانتقل العالم إلى مرحلة جديدة في نظامه النقدي وهي مرحلة هيمنة الدولار، وإلغاء الارتكاز إلى قاعدة الصرف بالذهب، حيث صار الذهب مجرد سلعة كباقي السلع التجارية، واستقر الحال لأن يكون الدولار هو قاعدة النقد، وعلى أساسه تثبت أسعار الصرف، وصارت المعاملات المالية وحركات البورصات والمبادلات التجارية، وتقييم أسعار صرف عملات الدول الأخرى مرتبطة بالدولار، ويتبع ذلك أسعار النفط وأسعار الذهب في الأسواق الحرة..
فالمصالح الذاتية لهذه الأطراف وخاصة أمريكا، تغيرت تبعا للتطورات الإقتصادية التي شهدها عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، فعند صياغة الإتفاقية إستحسنت أمريكا قاعدة الدولار المغطى بالذهب، لكن مع صعود قوة أوروبا واليابان وتجاوزهما لأثار الحرب، وبفعل تورط الولايات المتحدة في حرب فيتنام، وإرتفاع نفقاتها بشكل جنوني، ونقصان كميات الذهب المتاح لها، تم التخلي عن قاعدة الذهب والتي شكلت أهم أداة في تعزيز الثقة والإستقرار المالي والنقدي..
وبعدما كانت أمريكا هي الحامية والضابطة لحسن أداء وانضباط النظام النقدي الدولي، واستقرار أسعار الصرف، وحسن أداء التجارة الدولية والتدفق السلس للسلع والخدمات ورؤوس الأموال، تم خرق هذه الإتفاقية من قبلها، وتخلت عن إلتزاماته الدولية بتحويل الدولار إلى ذهب عند الحاجة، في 15 أب 1971 عندما أعلن الرئيس “نيكسون” في خطاب مُتَلفز أن بلاده سوف تتوقف مؤقتا عن تحويل الدولارات إلى ذهب.. وبغرض إمتصاص غضب المجتمع الدولي تم إعتبار هذا القرار مؤقت، ثم فيما بعد تم إنشاء” نادي لندن” لضمان ثبات سعر الذهب، وتحديده في 35 دولار للأوقية، وبدا الأمر كما لو أنه إستمرار لقاعدة ربط الدولار بالذهب، لكن هذا القرار المؤقت أصبح دائما، وعملت أمريكا باستغلال نفوذها الإقتصادي والعسكري على فرض هيمنة الدولار على الأسواق النقدية والمصرفية وتعويم اسعار الصرف وجعل الدولار سلعة تخضع لقانون العرض والطلب ومتاح للمضاربة..
ثالثا-“البيترودولار” آلية مبتكرة لضمان هيمنة الدولار..
وفيما بعد تم الضغط على البلدان النفطية بتبني قاعدة “البيترودولار” أي أن بيع البترول لا يتم إلا بالدولار، بعدما تم رفع أسعاره بشكل مبالغ فيه بعد 1973، وكانت حرب أكتوبر بين العرب والصهاينة وتوظيف سلاح المقاطعة فرصة لتمرير هذه الخدعة، في أكبر عملية نصب في التاريخ البشري، قادتها أمريكا بتواطؤ مع البلدان المنتجة للنفط..
وشكل “البيترودولار” آلية جديدة ومبتكرة لضمان هيمنة الدولار واستمرار أمريكا في إنفاقها التوسعي، وتحول المجتمع الأمريكي إلى مجتمع إستهلاكي يعيش على الريع وعلى الثروات التي يتم ترحيلها للداخل الأمريكي، وعلى المضاربة والأنشطة الثانوية والتي تسمى بالإقتصاد الرمزي القائم على الفقاعات المالية..
والواقع أن الجهود الدولية للخروج من الأزمة جاءت متأخرة نسبيا، و إن كانت العديد من البلدان لا سيما في شرق آسيا قد أخدت الدرس من الأزمة المالية لعام 1997 و فيما بعد الأزمة المالية لعام 2008، إذ تولد إتجاه تقوده الصين و روسيا يحاول الحد من هيمنة الدولار على المبادلات التجارية الدولية وإحلال العملات المحلية بدلا عن الدولار، لكن يظل هذا التوجه محدودا من حيث الأثر، بفعل العولمة المالية شديدة التعقيد وتشابك المصالح ، لكن أحد أهم المؤشرات على إقتراب إنفجار النظام المالي العالمي هو سعي البلدان الصاعدة إلى شراء الذهب فالصين و روسيا و الهند رفعت إحتياطياتها من الذهب بشكل جد كبير تحسباً للإنهيار القادم و لتقوية عملاتها الوطنية..
وإذا كانت الحكومات الواعية والقوية، تحاول البحث عن أليات ووسائل حماية ضد الطوفان القادم، فإن الوضع في الحكومات العربية يدعوا إلى الرثاء، فهذه الأخيرة مغيبة وغير واعية للخطر الذي يقترب من حدودها هو خطر يتجاوز في حدته وتأثيره ما نراه من حروب ومأسي في معظم بلدان العالم العربي، ومن دون شك فإن إنهيار الدولار سيؤدي إلى انهيار النظام المالي والاقتصادي العالمي و تبخر الثروات النقدية وفقدان العملات المحلية لقيمتها لأنها مرتبطة بالدولار، أو بسلة عملات بدورها لن تنجو من أثر إنهيار الدولار..
رابعا- العودة للذهب أفضل مخرج لتجاوز خدعة الدولار وآفة الربا..
يعتقد بعض الاقتصاديين أن الفائدة – الربا فيها نفع إقتصادي، و الواقع أن في ذلك مجانبة للصواب و للمنطق السليم و للتحليل الأمبريقي ، فالربا محق للإقتصاد و يخلق دورة أزمات عنوانها الأكبر ضنك العيش، الربا مدمر للاقتصاد، والمشكلة أنَّ بلايا الربا لا تظهر مرة واحدة في كيان المجتمع وكيان الاقتصاد، يقول الرازي: (الربا وإن كان زيادة في الحال إلا إنه نقصان في الحقيقة) وهذا مستفاد من النص القرآني: “يمحق الله الربا” [البقرة :276] فالمحق نقصان الشيء حالاً بعد حال … فالذين يتعاملون بالربا يظنون أن فيه كسباً، والحقيقة التي أخبر بها العليم الخبير، فالربا ممحقة للكسب مدمر للاقتصاد، دواؤها، الربا ليس بركة ورخاء بل هو مرض عضال يذهب المال ويقلله، يقول الرسول: “إن الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل”..
لذلك، فإن الخطر قادم لا محالة و ساعته تقترب، و سيكتب لهذا الجيل أن يدفع ثمن التخلي عن الذهب و الفضة كأداة لتخزين القيمة، و للأسف ليس هناك من حماية في بلداننا العربية وباقي البلاد الضعيفة والمستضعفة إلا الله، ثم اللجوء عاجلا إلى تحويل النقد التقليدي بكل العملات إلى الذهب و الفضة، و الإهتمام بالإنتاج و خاصة إنتاج الغداء، و تجاوز الخلافات العربية/عربية والعربية إسلامية، فالوحدة النقدية و مقترح إقامة عملة إسلامية موحدة مغطاة بالذهب،و إقامة سياج إقليمي يتم فيه التوسع في المبادلات التجارية البينية، بعيدا عن التوسع في العولمة، أفضل خيار للحد من خطر الطوفان القادم..
أما على مستوى الأفراد فالنصيحة هو تحويل المدخرات المالية إلى الذهب ووضع في الحسبان أن الإنهيار في هذه المرة سيحرق لا قدر الله الأخضر واليابس، و سنرى لا قدر الله طوابير من الناس للحصول على رغيف الخبز وبعض المواد الغدائية، و ذلك نتاج طبيعي، لشجع الذي طبع النظام الرأسمالي و الذي حصل على تأييد وقبول و مباركة غالبية البشر، و التوسع الغير مسبوق في الربا و أكل أموال الناس بالباطل، و النهب الممنهج للثروات من بلدان الأطراف إلى المركز، و من الأغلبية إلى الأقلية..و الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون..
إعلامي وأكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني والشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية والسياسات العامة..