الصين تخشى من هزيمة حليفها الإستراتيجي "روسيا"
خلصت في مقال التوجه الدولي الجديد ببيع وتسعير سلع إستراتيجية كالنفط والغاز بعملات “اليوان” و”الروبل” بداية جادة لكتابة شهادة وفاة هيمنة الدولار الأمريكي…” إلى أن قبول العديد من الدول الأوربية شرط روسيا دفع قيمة الغاز الروسي بالروبل.. يعني بالضرورة تعزيز قدرة روسيا على الصمود طويلا في مواجهتها للغرب و يعني انتكاسة في المخططات أمريكية و تراجع لدورها و هيمنتها على الإقتصاد و مقدرات العالم..و يعني أيضا تراجع هيمنة الدولار الامريكي ..و بداية مرحلة ما بعد الدولار و انهيار تدريجي لنظام وترتيبات ما بعد الحرب العالمية…و إمكانية حدوث انهيار للنظام المالي العالمي في هذا العام 2022 مسألة جد متوقعة .. و الدور الصيني بالغ الأهمية في منع مثل هذا الانهيار لكن من المؤكد، أن الصين تتجه بالتدريج نحو فرض هيمنتها على العالم، و قبول أوربا بشروط روسيا ، يعني أن الحلف الروسي – الصيني يتجه نحو فرض تصوره في السياسة و الاقتصاد ..و روسيا وحدها عاجزة عن قيادة هذه الحرب الكونية و التي تتم وراء ستار أوكرانيا دون دعم خفي من قبل الصين.. و قد وعدت القراء بتخصيص مقال إضافي أشرح فيه دور الصين في منع أو تعميق حدة هذا الانهيار كما و نوعا… و لماذا الدور الصيني مهم في الحد من أثار الانهيار المحتمل؟
آراء أخرى
وفي سياق تحليلي للدور الصيني سأحاول توجيه القراء الأفاضل عامة والمختص و صانع القرار خاصة إلى بعض المؤشرات الدلالية، و التي تمكننا من فهم التصور الصيني على المدى المنظور و المتوسط..
أولا- موقف الصين من الأزمة الروسية الأوكرانية :
اختارت الصين رسميا الحياد في الأزمة الروسية الأوكرانية، وإن كانت من الناحية الاستراتيجية تقف في نفس الخندق مع موسكو في مواجهة المعسكر الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكي.. لأن الهدف التالي والأكبر للغرب هو الحد من الصعود الصيني…
و قد أعلنت الصين موقفها الرسمي من الأزمة، من خلال بيان ركز على خمس نقاط محددة، 1- شددت بموجبه على موقفها الثابت الداعي إلى احترام سيادة الدول، وسلامة أراضيها، 2- الالتزام بأهداف ميثاق الأمم المتحدة ومبادئه، 3-الاستمرار في معارضة جميع قوى الهيمنة بحزم، 4-حماية الحقوق والمصالح المشروعة للدول النامية الصغيرة والمتوسطة، 5- كما دعت إلى ”رؤية أمن مشترك، شامل، تعاوني، ومستدام“.
وفي الشأن الروسي، وافقت الصين روسيا في أنّ ”أمن الدولة لا يمكن ضمانه على حساب أمن الدول الأخرى“، ودعت إلى ”وجوب التعامل مع مطالب روسيا الأمنية المشروعة على محمل الجد، ومعالجتها بشكل مناسب، ووجهت إلى الحلف الأطلسي رسالة معارضة ضمنية بأنّه ”لا يمكن ضمان الأمن الإقليمي من خلال تعزيز أو توسيع الكتل العسكرية“، كما دعمت الحوار بين الاتحاد الأوروبي وروسيا بشأن قضايا الأمن الأوروبي، على قدم المساواة بين الجانبين، وعلى نحو يؤدي إلى توازن وفعالية، وتحقيق آلية أمن أوروبية مستدامة.
أمّا في الحرب الروسية الأوكرانية، فقد استنكرت الصين الأزمة منذ البداية، وشددت على ضرورة منع تدهور الوضع وخروجه عن نطاق السيطرة؛ من خلال محافظة جميع الأطراف على ضبط النفس اللازم، وحماية أرواح المدنيين وممتلكاتهم، ومنع حدوث أزمة إنسانية واسعة النطاق. وقد أبدت الصين دعمها وتشجيعها لجميع الجهود الدبلوماسية للتوصل إلى حل سلمي للأزمة، كما رحّبت بالحوار والمفاوضات المباشرة بين روسيا وأوكرانيا. وفي الشأن الأوكراني، أبدت الصين تفهمها ”للسياق التاريخي الخاص والمعقد“ للقضية الأوكرانية، معلنة رؤية الصين بأن تصبح أوكرانيا جسرًا بين الشرق والغرب.
وفي توضيح لموقفها الحيادي في مجلس الأمن تجاه الحرب الروسية الأوكرانية، والامتناع عن التصويت، أشار البيان إلى أن الصين رفضت دائمًا قرارات مجلس الأمن التي تستدعي ”دون مبرر“ الفصل السابع للسماح باستخدام القوة والعقوبات. في المقابل، أكّدت الصين أنها تمارس دورها وعضويتها في مجلس الأمن كـ ”قوة مسؤولة“ أوفت دائمًا بالتزاماتها الدولية بأمان، وأدت دورًا بنّاءً في حماية السلام والاستقرار العالميين، والتزام طريق التنمية السلمية لبناء مجتمع ومستقبل مشترك للبشرية.
ثانيا- الصين تخشى من هزيمة روسيا في معركة كسر العظام مع الغرب..
في ظل العقوبات واسعة النطاق التي تفرضها واشنطن وحلفاؤها ضد روسيا، تمثل الصين حبل النجاة الرئيسي لموسكو، لامتصاص شدة الصدمة التي ستخلقها العقوبات على اقتصادها خاصة إن طالت قطاع النفط والغاز..و خلف الموقف الدبلوماسي المعلن و الذي إختار الحياد ، نجد أن الصين أقرب لدعم الموقف الروسي و الرواية الروسية… فبكين لم تنضم إلى القائمة الطويلة من الدول التي أدانت الهجوم العسكري الروسي على أوكرانيا، ناهيك عن فرض عقوبات على موسكو، بل ألقت اللوم على الولايات المتحدة في إثارة الأزمة وتصعيدها.
ففي اليوم الذي بدأ الهجوم العسكري الروسي، في 24 فبراير/ شباط الماضي، اتهمت الخارجية الصينية، واشنطن بأنها “أججت التوترات وأشعلت تهديدات الحرب في أوكرانيا”، ورفضت استخدام مصطلح “غزو” لتوصيف الحرب في أوكرانيا..
و تعد الصين بالنسبة لروسيا أكبر شريك اقتصادي، حيث بلغ التبادل التجاري بين البلدين نحو 140 مليار دولار في 2021، ولقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بنظيره الصيني شيجين بينغ، ببكين في 4 فبراير، كلل بتوقيع صفقات بقيمة 117 مليار دولار للشراء البترول والغاز.
و الصين تستورد من روسيا سلعتين في غاية الأهمية : المحروقات (نفط وغاز) والسلاح، بينما تصدر لها كل شيء تقريبا، وهذا ما يجعل الاقتصادين متكاملين، رغم أن الاقتصادي الصيني أكبر بكثير من نظيره الروسي..فالاقتصاد الصيني الضخم يمثل المنقذ للاقتصاد الروسي بعد تشديد العقوبات الغربية، خاصة ما تعلق باستمرار تصدير النفط والغاز إلى السوق الصينية في حال أغلقت الأسواق الأوروبية والغربية أبوابها أمام صادرات الطاقة الروسية.
وكذلك الأمر بالنسبة للواردات الروسية من الدول الغربية، التي يمكن لموسكو استبدالها بأخرى صينية، ما يخفف من وطأة العقوبات، ويمنع الاقتصاد الروسي من الجثو على ركبتيه، خاصة أن الطرفان يتعاملان بالروبل الروسي واليوان الصيني، في إطار اتفاق موقع بين البلدين عقب احتلال روسيا لشبه جزيرة القرم في 2014، ما يسمح لروسيا بالالتفاف حول العقوبات الأمريكية والأوروبية.
ومن المؤكد أن روسيا لا تنتظر من الصين أن تقاتل إلى جانبها في أوكرانيا، لكن أكثر ما تتمناه أن تقف إلى جانبها اقتصاديا، للصمود أطول فترة ممكنة أمام العقوبات الغربية.
وفي المقابل فإن الصين ترغب في صمود روسيا و الانتصار على الغرب في معركة كسر العظام، و العنصر الحاسم في النصر هو ضمان عدم إنهيار الاقتصاد الروسي، لأن في حالة هزيمة روسيا و تحييدها، فإن واشنطن ستوجه جهودها لإضعاف الاقتصاد الصيني الصاعد بقوة، والذي تجاوز ناتجه الداخلي الخام المعادل للقدرة الشرائية (24.2 ترليون دولار) نظيره الأمريكي (20.8 ترليون دولار)…
ثالثا- الصين غير مؤهلة للدخول في حالة صدام مباشر وساخن مع الغرب..
رغم أن الصين تخشى من إنهيار روسيا و تدرك جيدا أن تحييد الغرب لروسيا و كسر شوكتها، يعني بالتبعية نقل المواجهة لبحر الصين والتركيز على حصار الصين إقتصاديا للحد من صعودها الاقتصادي والجيوإستراتيجي، و مع ذلك فإن موقف الصيني لم يذهب بعيدا في دعم روسيا، لأنه مكبل بمبدأ “احترام أراضي الدول وسيادتها” بما فيها أوكرانيا، وهو ذات الموقف الذي تبنته بكين عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم الأوكرانية.
هذا بالإضافة إلى أن الدعم الصيني لروسيا، من شأنه أن يورط الصين في صراع أكبر مع الغرب، في قضية لا تعنيها بشكل مباشر..فالوضع في الأزمة الروسية الأوكرانية متداخل بشكل عميق بالنسبة للصين، بين ما هو استراتيجي وما هو مبدئي، دون نسيان عامل ثالث متعلق بالمصالح الاقتصادية والتجارية المتشابكة مع هذا الطرف آو ذاك.فالصين تخشى أن تحول واشنطن الأزمة الروسية الأوكرانية لفرصة تستهدف حتى الصين× خاصة و أن أروبا و دول عديد في العالم أعلنت وقوفها وراء أمريكا لوقف الغزو الروسي لأوكرانيا و الذي ترى فيه أروبا تهديدا مباشرا لأمنها القومي و سلامة أراضيها…لكن لو قررت أمريكا الدخول في مواجهة مع الصين فإن أغلب الدول الأوربية ستختار الحياد.. ففي الظرفية الحالية من مصلحة واشنطن التصعيد و توسيع دائرة المواجهة لتشمل الصين …
فالموقف الصيني متأرجح بين مساندة روسيا وحماية مصالح الصين في أوكرانيا و مع باقي البلدان الغربية بما في ذلك أمريكا..
1- الصين لها مصالح استراتيجية كبرى مع أوروبا: فالصين تضع في حسبانها الشريك الأوربي فهي لا تستطيع التضحية بأوروبا.. و لذلك، تجنبت منذ البداية الوقوف بشكل مباشر مع روسيا..و خطوة قبول الدفع بالروبل بالنسبة لصين خطوة إيجابية مفادها تفضيل اوروبا مصلحتها و تغليبها للمنطق البرغماتي ، و تفاديها الانخراط الأعمى في دعم أجندة أمريكا…لكن مع ذلك هذه التغييرات تحتاج بعض الوقت للتأكد من قناعات أوروبا على المدى المتوسط و البعيد …
2- الصين لها مصالح إسترايجية مع أوكرانيا لعدة عوامل: منها موقع أوكرانيا، ومواردها، وعلاقتها التجارية بالاتحاد الأوروبي، المعززة بفعل اتفاقية التجارة الحرة. كما تشكل أوكرانيا نقطة مهمة للصين في مشروع طريق الحرير الجديد وفي خط السكك الحديدية السريعة بين الصين وأوروبا، وهو ما دفع الصين إلى عقد اتفاقية تعاون مع أوكرانيا في مجالات تشمل تمويل وإنشاء البنية التحتية. وعلى إقليم «دونيتسك»، وقعت الصين صفقة مع أوكرانيا لبناء محطة طاقة رياح بقدرة 800 ميجاوات، وبقيمة مليار دولار أمريكي مع شركاء أوكرانيين محليين داخل الإقليم، كانت ستكون أكبر حديقة رياح برية في أوروبا.
و تجاريا فالصين أكبر شريك تجاري منفرد لأوكرانيا بحلول عام 2019، كما تعد الصين أكبر مستورد للشعير الأوكراني، وثاني أكبر مستورد للقمح الأوكراني، فيما تشكل صادرات الذرة الأوكرانية نحو 30% من واردات الذرة الصينية. أما اقتصاديًا، فبلغ إجمالي الاستثمار المباشر من جانب الشركات الصينية في أوكرانيا 150 مليون دولار بنهاية عام 2019، وفقًا لبيانات صينية، و75.7 مليون دولار في مشروعات في أوكرانيا بعد منتصف عام 2020، وفقًا لسفارة أوكرانيا في الصين…
3- العنصر الأهم في فهم الموقف الصيني هو مكانة الولايات المتحدة في السياسية الخارجية الصينية … وذلك بفعل عاملين :
العامل الاقتصادي و المالي: فالسوق الأمريكي تشكل منذ انطلاق سياسة الانفتاح سنة 1979 أهم سوق للصادرات الصينية، و له تأثير قوي في معدل نمو الاقتصادي الصيني فجزء كبير من المقاولات العاملة في الصين تركز على السوق الأمريكي، كما أن الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي مصدرها الولايات المتحدة لعبت و لازالت تلعب دورا مهما في نقل التكنولوجيا المتطورة إلى الداخل الصيني . أما بالنسبة للولايات المتحدة فالصين أصبح لها تأثير قوي في صياغة العديد من المؤشرات الاقتصادية بالسوق الأمريكي، فحجم السيولة النقدية الصينية دفع الحكومة الصينية إلي الاستثمار في سندات الخزينة الأمريكية، و هو الأمر الذي كان له تأثير على التوازنات الكلية للاقتصاد الأمريكي، فتوظيف الاحتياطيات النقدية في سندات الخزينة الأمريكية لعب دورا في ضبط سعر الفائدة و ضمان استقرار قيمة الدولار الأمريكي وهو ما كان له تأثير ايجابي على الاقتصاد الأمريكي ككل و على المواطن الأمريكي، بفعل توفر السيولة النقدية في سوق الائتمان و توافر السلع الصينية المنخفضة التكلفة، مما ساهم في تعزيز القدرة الشرائية، وإن كان هذه الصادرات الصينية و انتقال الاستثمارات الأمريكية إلي الداخل الصيني لها تأثير علي نقل الوظائف للصين، إلا أن أمريكا بدورها مستفادة من الازدهار الاقتصادي الصيني مادام جزء مهم من هذه العوائد يستثمر في سندات الخزينة الأمريكية…
العامل الثاني : الصين لازالت لها مطالب في تايوان و أمريكا هي داعم أساسي لحكومة تايوان التي تعتبرها الصين مقاطعة صينية متمردة . هذا إلي جانب الحضور العسكري القوي للولايات المتحدة في بحر الصين الجنوبي و منطقة شرق أسيا و المحيط الهادئ عموما، مما يجعل علاقة العداء و الود بين القوتين تعرف مدا وجزرا.
إذا أخدنا العاملين السابقين بالحسبان فسوف نفهم طبيعة الموقف الصيني من الأزمة الروسية الأوكرانية و من كسر شوكة الدولار، فالصين لها مخاوف مركبة، فعلى الرغم من أن الصين قوة اقتصادية و عسكرية، إلا أن الصين لازالت أولوياتها تتمحور حول الداخل الصيني فالاهتمامات الصينية تنموية بالدرجة الأولى و ليست توسعية بالضرورة ، فالقيادة الصينية تراهن على استمرار معدل النمو الاقتصادي فوق 7 % حتى تتمكن من استيعاب جحافل الوافدين الجدد على سوق العمل و العمال المسرحيين و الذين يقدر عددهم أزيد من 20 مليون سنويا . و النمو الاقتصادي يتطلب بيئة إقليمية ودولية سلمية، فأي سياسة أمريكية متهورة بالمجال الحيوي الصيني يمكن أن يكون لها تأثير سلبي على الاقتصاد الصيني، خاصة و أن المجال الحيوي للصين أصبح يتسع باتساع مصالحها الاقتصادية والتجارية .
فالمجال الحيوي للصين يشمل اليوم تأمين مصادر الطاقة و المواد الخام، فالاقتصاد الصيني أصبح جد نهم لمصادر الطاقة و المواد الخام الأجنبية، فالصين تستورد جزء مهم من احتياجاتها الطاقية من إفريقيا و بلدان الخليج و هذه المنطقة هي مسرح السيطرة الأمريكية. فتهديد إمداد الاقتصاد الصيني بالمواد الأولية والطاقية يشكل أهم مخاوف السياسة الخارجية الصينية من تهور الإدارة الأمريكية الجديدة، وإشعال بؤر توثر على طول خطوط إمداد الصين بالطاقة و المواد الخام و سأحاول في المقال الموالي إن شاء الله تعالى تفصيل أكثر لماذا الصين ليس في مصلحتها على المدى الأني و المتوسط إنهيار الدولار الأمريكي و إزاحته من عرش الهيمنة ، لكن تحاول إزاحته بالتدريج ، و تتبنى في ذلك استراتيجية “الهدم بالبناء” بدلا من “البناء بالهدم “… و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون…
إعلامي و أكاديمي متخصص في الإقتصاد الصيني و الشرق آسيوي.. أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة..