أي مشروع لمستقبل الاتحاد الاشتراكي؟
بعد ثلاثين سنة مرت على رحيل الزعيم الوطني التقدمي عبد الرحيم بوعبيد, تزداد الحاجة إلحاحا إلى استحضار وتمثل وتجسيد ما تحلى به طيلة مساره الكفاحي الطويل من عقلانية سياسية في التحليل والتقدير, ومبدئية في اتخاذ المواقف التي تقتضيها المنعطفات الكبرى إن على المستوى السياسي أ وعلى المستوى التنظيمي الحزبي , فكان بحق “الوطني الصلب , والسياسي الحكيم , والمفكر البعيد النظر “_ كما جاء في شهادة للراحل الأستاذ أبو بكر القادري. إن لغة الحوار, وسلوك الانفتاح و التعاون , وروح التوافق والتجميع في التعاطي مع الاختلافات داخل الحزب و بين قوى الصف الوطني الديمقراطي, والواقعية البناءة في صنع القرارات.., هي دروس و قيم مدرسة سي عبد الرحيم المطلوب اليوم من الحركة الاتحادية واليسار عموما تجسيدها في مواصلة نضال عبد الرحيم بوعبيد من أجل دولة وطنية ديمقراطية وحديثة .
آراء أخرى
ولعل المدخل الطبيعي لذلك هو فتح حوار حقيقي داخل الحركة الاتحادية يتغيا لم شملها, على قاعدة رؤية مستقبلية,سياسية وفكرية وتنظيمية ومجتمعية تعيد للحركة الاتحادية لحمتها التنظيمية وتأثيرها في الدينامية السياسية والاجتماعية, وموقعها الطبيعي في عملية بناء القطب اليساري الاشتراكي الديمقراطي الكبير. إن إنضاج هذه الرؤية يقتضي تفكيرا جماعيا يحدد حجم الاختلافات للتحكم فيها , ويوضح الخيارات والأولويات المرحلية منها والبعيدة المدى لمواجهة التحديات الكبرى التي تواجه الوطن والمجتمع, و يعيد الاعتبار للسياسة , والمصداقية للعمل الحزبي.
وقبل تناول سؤال موضوع هذه الندوة : أي مشروع لمستقبل الاتحاد الاشتراكي ؟ لابد من الإشارة إلى ملاحظتين تفرضان نفسيهما, هما :
_ إن أزمة أحزاب اليسار المغربية هي مظهر من مظاهر أزمة أعمق, أزمة مركبة, سياسية واقتصادية ومجتمعية وقيمية , فهي مجرد المظهر السطحي المعبر عنها, كما هي أيضا جزء من أزمة عامة لليسار في عالم تغول الرأسمالية المالية وهيمنة الإيديولوجيا النيوليبيرالية وسياساتها الاقتصادية والاجتماعية المتوحشة . إن هذا الشرط الموضوعي لأزمة أحزاب اليسار الاشتراكي, هنا.. وهناك,لا يعفيها من النقد الذاتي لأخطائها , والتقييم الموضوعي والنزيه لما آلت إليه من قصور ووهن وتراجع لفعاليتها وشعبيتها .
_ أما الملاحظة الثانية ,فتتعلق بمغزى هذا الاهتمام و إلانهمام من طرف شرائح وفعاليات واسعة في المجتمع بوضعية ومستقبل حزب الاتحاد الاشتراكي ,إن ذلك هو تأكيد لمكانته الرمزية في الوجدان الشعبي من جهة , وعلى أن بالتالي ” ملكية وطنية عامة ” , و شأن عام وليس مجرد شأنا حزبيا ضيقا يهم من يحملون بطاقة العضوية دون غيرهم من المواطنين والفعاليات السياسية والثقافية والحقوقية والإعلامية . إن المغاربة يحق لهم جميعا أن يأخذوا الكلمة بحرية, نقدا وتشخيصا, ورفضا لأي تكريس لوضع الحزب الحالي الذي لا يرضي يساريا ولا يمينيا , ولا يسر صديقا ولا خصما , فالمستقبل الديمقراطي لبلدنا يرتبط بوجود أحزاب قوية ومنظمة وذات امتداد في قطاعات المجتمع , ويشكل حزب الاتحاد الاشتراكي برصيده النضالي التاريخي ,وهويته الاشتراكية الديمقراطية الإطار المفترض فيه أن يضطلع بدور مركزي في بناء قطب سياسي اشتراكي ديمقراطي كبير, وهذا ما يدعو بإلحاح إلى تصحيح أوضاعه الحالية على جميع المستويات, السياسية والإيديولوجية والتنظيمية ليستعيد ارتباطه بالحركية المجتمعية ,وبقاعدته الاجتماعية.
بناء على ذلك, سأكتفي, في حدود الوقت الممنوح, بعرض مكثف لأربعة عناصر أعتبرها مكونات جوهرية لأي مشروع مستقبلي للاتحاد ومجموع قوى اليسار, وهي بإيجاز وإسراع:
1 : إعادة الاعتبار للفكرة الاشتراكية كاختيار فكري وإيديولوجي وكمرجعية هوياتية للحزب, بدل تعويمها في خطاب مجرد,ملتبس حول الحداثة, فالاشتراكية في ارتباطها العضوي بالديمقراطية هي الأفق , والبديل الموضوعي للمشروع النيوليبيرالي السائد ,و للمشروع الاسلاموي المحافظ , فعلى الرغم من انهيار تجاربها , فالاشتراكية كفكرة و أ فق لم تمت كما يزعم الليبراليون الجدد, وذلك لكون شرطها التاريخي مازال قائما وبشكل أكثر شراسة , متمثلا في تغول الرأسمالية المالية وسياساتها العمومية المتوحشة والتفقيرية للشعوب. إن تحيين الإيديولوجية الاشتراكية الديمقراطية للاتحاد واليسار عموما مسألة حيوية في إعادة البناء والتوحيد ,تتطلب الكثير من الاجتهاد النظري والفكري لتخليص الاشتراكية من ما لحقها من جمود ودوغمائية, وإغنائها بمعطيات الفكر السياسي الديمقراطي المعاصر, وبتجارب مجتمعات أخرى تعيش تواجه نفس معضلاتنا وتتطلع إلى التنمية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وبعناصر التراث الحضاري العربي الإسلامي التنويرية والعقلانية .
2 : إعادة الاعتبار للنضال الديمقراطي ,وذلك بالعمل على تعميق الإصلاحات السياسية والمؤسساتية والاجتماعية في إطار من التفعيل الديمقراطي والتأويل الحداثي لدستور 2011, مفتوح على أفق إرساء أسس دولة الحق والقانون والحريات وفصل السلط ,فإعادة بناء الأداة الحزبية عملية سياسية في جوهرها , تقتضي مقاربة نقدية شاملة لتجربة الحزب السياسية كشرط لصياغة رؤية سياسية جديدة للمرحلة القادمة , رؤية تقدمية مستقلة ومنفتحة على الدينامية المجتمعية الجارية . وإذا كان هناك من درس لابد من استخلاصه منذ إجهاض تجربة “التناوب التوافقي” سنة 2002, فهو ذلك المتعلق بالمشاركة كرقم مكمل في حكومات ائتلافية عريضة. لقد كانت لهذه المشاركات الباهتة التكميلية أفدح الأضرار على هوية الحزب وشعبيته وفعاليته وتماسكه التنظيمي. وعليه فمن شروط انبعاث جديد للاتحاد الاشتراكي تموقعه إلى جانب قوى اليسار في معارضة طويلة النفس,وانخراطه الفعلي في الدينامية المجتمعية الجارية بالتأطير والتنظيم للحركات الجماهيرية بما يتيح إعادة بناء الجسور بينه وبين قاعدته الاجتماعية في مختلف قطاعات المجتمع, ما سينعكس, بالتالي إيجابيا على موازين القوى السياسية والاجتماعية لصالح التقدم الديمقراطي والعدالة الاجتماعية .
ولا شك في أن هذا التوجه السياسي والمجتمعي المطلوب في المرحلة القادمة ,لا يتناقض مع دعم ما هو إيجابي في السياسات التنموية التي تقودها الدولة سواء في المجال الاجتماعي أو في مجال المشاريع الملكية الكبرى ,دعما من موقع مستقل ونقدي واقتراحي. فالمعارضة المطلوبة هي أيضا معارضة للعدمية والشعبوية والمزايدات الديماغوجية .
إن السياق الإقليمي والجهوي والدولي الملتهب والحابل بأسوأ الاحتمالات,يطرح على البلاد تحديات كبرى, تطرح على قوى اليسار عموما مسؤولية كبرى تتمثل في التفعيل السياسي والعملي لجدلية الوطني والديمقراطي بما يعزز المكتسبات الميدانية والسياسية والدبلوماسية في معركة السيادة على الصحراء المغربية المسترجعة من جهة , ويخرج مسلسل الانتقال الديمقراطي من عطالته وجموده من جهة ثانية . وفي هذا السياق فإن الأولوية الراهنة والاستعجالية هي المساهمة البناءة , ومن موقع مستقل في درء خطر نقل الاصطفافات والتقاطبات الحادة في المشرق والخليج العربيين إلى منطقتنا المغاربية من طرف خصوم وحدتنا الترابية. إنها مهمة وطنية و جهوية وإقليمية آنية كبرى من مسؤولية القوى الوطنية الديمقراطية واليسارية الاضطلاع بها من خلال تفعيل الدبلوماسية الموازية, البرلمانية والحزبية الشعبية,في إ طار التمسك المبدئي والسياسي والعملي بحق الشعب الفلسطيني في المقاومة للاحتلال, والرفض لاتفاقات التطبيع مع كيان استيطاني عدواني وعنصري.
3 : استعادة مركزية المسألة الاجتماعية, لقد ارتبط وهج الاتحاد الاشتراكي واليسار عموما بتبويئه المسألة الاجتماعية مكانة محورية في خط السياسي وذلك على مدى عقود قاد فيها نضالات العمال والطلبة ومختلف القطاعات المهنية دفاعا عن الحق في الشغل والتعليم والسكن اللائق وعن العدالة الاجتماعية,ومنذ النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي بدأ تراجع موقع المسألة الاجتماعية في أولويات الحزب وباقي القوى الديمقراطية لحساب المفاوضات السياسية التي أثمرت حكومة ” التناوب التوافقي “بقيادة الاتحاد الاشتراكي وحلفائه في الكتلة الديمقراطية . وإذا كانت هذه الحكومة قد حققت مكاسب اجتماعية نوعية , لا يسمح المجال هنا ببسطها , فإن الحضور الحزبي التنظيمي والتعبوي و التأطيري لنضال مختلف القطاعات الاجتماعية أصبح هامشيا وباهتا على المستوى النقابي والمنظمات المهنية وفي القطاع الطلابي, ليلامس اليوم الأفول, والقبوع على هامش الحراكات الاجتماعية , وأشكالها التنظيمية المبتدعة ( التنسيقيات , المجموعات..) والاحتجاجية السلمية ( وقفات , اعتصامات , إضرابات عن الطعام , مسيرات ) وعليه , فإن أي مشروع لاستعادة الامتداد الجماهيري والتنظيمي لحزب الاتحاد الاشتراكي وقوى اليسار الأخرى, يرتبط بامتلاك برنامج نضالي مجتمعي يستجيب لمطالب وحاجيات كل قطاع شعبي, وفي هذا الصدد من الضروري مراجعة التجربة النقابية خاصة ما يتعلق بتوجهها الحالي المتمحور حول الطبقة الوسطى ,ما قد يؤدي إلى انزلاق العمل النقابي نحو نخبوية تعزل أحزاب اليسار عن باقي الطبقات الاجتماعية , وتبعدها عن هدف بناء كتلة اجتماعية شعبية واسعة وضاغطة من أجل العيش الكريم والعدالة الاجتماعية .
4: تجديد الثقافة التنظيمية في ضوء دروس تجربة طويلة عرفت انقسامات وانشقاقات وقصور في تجديد القيادات الحزبية , وفي تأطير وتكوين القاعدة الاجتماعية للحزب. إن سيادة وهيمنة ثقافة تنظيمية تقوم على مركزية مفرطة أصبحت اليوم عائقا في وجه تحديث الهياكل التنظيمية وفتحها على دينامية المجتمع, وعاملا من عوامل سوء تدبير الاختلافات تدبيرا ديمقراطيا, وفشو الكثير من الظواهر السلبية في الحياة الحزبية الداخلية , ولذلك فإن أي مشروع لإعادة بناء وتحديث الأداة الحزبية يقتضي تأسيسه على الأسس التالية :
_ تقوية اللامركزية , بما يقتضيه ذلك من توسيع لصلاحيات الهيئات المسؤولة جهويا وإقليميا ومحليا من منظمات الحزب وقطاعاته, مع تمكينها من الحق في المبادرة في نطاق اختصاصاتها .
_اعتماد آلية التيارات لتدبير الاختلاف بين الآراء والتقديرات والحساسيات المختلفة تدبيرا عقلانيا وديمقراطيا, مع ضمان تمثيلها في الأجهزة القيادية بما يحفظ تماسك ووحدة الممارسة , ويكرس الديمقراطية الداخلية .
_ بناء القطاعات والتنظيمات الحزبية الموازية , الشبيبية والنسائية وغيرها على قاعدة الاستقلالية في المبادرة داخل مجالات فعلها النضالي التعبوي والتأطيري , حتى لا تتحول إلى مجرد جيوب حزبية وهياكل جامدة .
_استعادة القيم النضالية لليسار عموما , من انضباط تلقائي , وأداء جدي لواجبات العضوية , وإقبال على التكوين الذاتي , السياسي والإيديولوجي والثقافي عموما , والانفتاح على المحيط القريب السكنى أو المهني والفعل الإيجابي داخله ,والتحلي بالتواضع ونكران الذات والصدق في القول والفعل , تلك هي القيم التي توارت اليوم لصالح الفر داوية والانتفاعية و الوصولية والزبونية , وهي أمراض كان لفشوها ضرر فادح على مصداقية العمل الحزبي والسياسي , كما نعاين ذلك يوميا .
هذه بعض العناصر أ والعناوين أقترحها للتفكير الجماعي في مستقبل الاتحاد الاشتراكي واليسار عموما, فكل واحد منها يحتاج إلى إنضاج أرضية تحليلية مفصلة ومشتركة. وأختم بتجديد التشديد على أنه لا مستقبل لأي حزب أو فصيل يساري اشتراكي ديمقراطي, ضمن الشروط الموضوعية والذاتية القائمة بتحدياتها وإكراهاتها , من دون توحيد الرؤية والممارسة والإطار التنظيمي الواحد – المتعدد , إذ الجواب الذاتي على تراجع اليسار شعبيا وانتخابيا وإشعاعا فكريا هو العمل يدا في يد لاستنهاض “قوة اجتماعية , شعبية , حداثية , واشتراكية بالفعل” . فهل سترتقي إرادات قيادات اليسار وفعالياته في مختلف المواقع إلى مستوى هذا الرهان الوجودي ؟ ذلك هو السؤال .
ورقة مقدمة في النندوة التي نظمتها مؤسسة ع الرحيم بوعبيد بمناسبة الذكرى 30 لرحيل عبد الرحيم بوعبيد، يوم السبت 8 يناير 2022 تحت عنوان: “أي مشروع لمستقبل الاتحاد الاشتراكي”