التعددية الحزبية بين الاستقطاب الانفعالي والتناسب الوظيفي
موضوع التعددية الحزبية ووظيفتها قد يختلف حاله من بلد إلى بلد ونظام إلى نظام ،بل ومن شعب إلى شعب ،حيث يختلط النحل مع الدبابير ويتجاوز الحد إلى ضرورة التطعيم أو التأبير مع التبرير.
آراء أخرى
وقد يعتبر التعدد الحزبي ذا طابع سلبي، وعلى العكس منه قد يكون ذا هدف إيجابي بحسب رؤوس الخيوط التي تديرها وتوجهها .فهي إما مكملات ومدعمات للأنظمة ومشاريعها أو برادع وسرج توظف لمرحلة ثم ترمى في قمامة التاريخ.
وفي الغالب قد تكون الأحزاب، وخاصة في البلدان النامية أو المتخلفة عبارة عن واسطة مهينة مهدئة أو منشفة عليها تحمل أوزار الاستوزار وإخفاقاته وبها يزال القذى من أعين الساسة الكبار وتعثراتهم.ولا أريد أن أوسع المعنى أكثر لأنني لست بالسياسي ولا بممارس السياسة ولكن لنا رأي بحسب ما نراه ونسمعه من أهل الفن وذوي الكياسة…
أولا:الاستقطاب السياسي بالضرب على أوتار الانفعال والتغرير
فكثيرا ما يعتمد ويراهن السياسيون على طلبة الجامعات ومن دونهم لتمرير خطاباتهم ومذهبياتهم الحزبية، وذلك لما يقرأونه بلغة ماكرة ومخادعة في تكوين الشباب الجامعي وسلوكياته الاندفاعية والثورية من مناسبة لهذا التمرير، وأركز على مصطلح الثورية وزئبقيته، والذي قد يعتبره الكثير إيجابيا بينما نراه من منظورنا في هذا المقام سلبيا، بحسب اشتقاقه اللغوي ونسبته إلى الثور كحيوان مندفع، وهذا يعني الغباء والتحمس للوقوع فريسة الصراع المفتعل، بترك العدو الحقيقي المتربص به والجري وراء السراب والألوان المثيرة للمشاعر والنزوات، تماما كما يفعل مع الثيران في حلبة الصراع وتصفيق المتفرجين، إذ الثور يتلهى بالرقعة الحمراء ويغفل عن المصارع والسيف الذي يخفيه له في طياتها حتى ينهكه ولا يكاد يتفطن لخدعته ومن ثم يجهز عليه بكل برودة دم وسهولة!
وهذا المطب الذي يقع فيه الطلبة والجمهور المنجر معهم وما يزالون كله ناتج عن ضعف التأطير العلمي واختلاله، وبالتالي ضيق أفقه وتبعيته الغوغائية لما يستورد من الخارج من غير تمييز أو تحليل.
ومن خلال هذه الاندفاعات والمزايدات قد يتفرغ الكثير من الطلبة إلى ممارسة اللعبة السياسية على حساب التحصيل العلمي، فيجتازون عبر الجامعات والمعاهد، لا يهمهم عند التحصيل سوى البروز بمظهر الحركي والنشيط وما إلى ذلك مما هو متعارف عليه، حتى أنك لتجد الطالب في خطاباته سياسيا أكثر من زعماء السياسة وحركيا أكثر من قادات الحركات، بينما قد لا يحصل من دروسه سوى حروفها الأبجدية الأولية والمتناثرة، فتمر عليه السنوات وهو قد حصل الفراغ والجراءة والحماس الثوري والمكر والدهاء، سواء في صفوف زملائه الطلبة أو مع الأساتذة أنفسهم، فهو يغرر بالطلبة حتى يوقفهم عن التحصيل ويغرر بالأساتذة حتى يجتاز الامتحانات بمجانية وتسهيل!
وبعد العبور يبقى الهاجس السياسي أو المتسيس لديه هو الشغل الشاغل لأن طريقه أسهل والربح فيه أوفر على شكل مقامرة ومسامرة، ومن ثم فلن يكون عالما أو متعلما وإنما سيسعى إلى تأسيس حزب أو جمعية أو هيئة وحركة يمكن أن يؤكد بها حضوره في الساحة العامة، حتى يصل إلى المنصب الذي يتوخاه.
وهذا هو حال غالبية متسيسينا ومتحزبينا سواء في داخل المغرب أو خارجه وهو ما يفسر أيضا كثرة الأحزاب المتناسلة بشكل سرطاني وبغير حياء ولا ولادة شرعية، بحيث يكاد يصبح في بعض البلدان العربية عدد الأحزاب بحسب عدد السكان كمبالغة! أي أن كل فرد له حزبه الخاص الذي هو نفسه! وهذه مهزلة وأضحوكة على الأذقان يجد الغربيون الذين خططوا لها من وراء الكواليس فيما يصطلحون عليه بدول وشعوب العالم الثالث فرجتهم وملهاتهم فيها، بل وسيلتهم للتدخل المباشر والسافر ضد الحاكم الرسمي للبلاد وضد الشعوب الأبية والمحافظة على أصالتها، وذلك حينما تشتكي أحد هذه الأحزاب من المضايقة أو منع بعض أنشطتها المشبوهة والمضرة بالمصلحة العامة من طرف بعض رجال السلطة حينما يستيقظ ضميرهم بوجه ما!
ولقد كان الأولى أن تحصر الأحزاب نظريا وقانونيا إن كانت موضوعية ومتحدة العقيدة والهدف في ثلاثة فرق لا غير، حتى يحدث التوازن وتكون الجدية والصدق في تحقيق مصلحة الأمة.
الحزب الأول يكون في الحكومة والثاني في المعارضة والثالث في الوسط الذي يراقب الجانبين بحسب الالتزام وعدمه، فمرة يناصر الحكومة ومرة يناصر المعارضة ومرة يكون في الحكومة ومرة يكون في المعارضة وهكذا… بحسب تحقيق المصلحة ومتطلباتها.
ومن هنا فيمكن الحكم على هذه الأحزاب السياسية بأنها علمية ،أي مؤطرة تأطيرا سياسيا واعيا وملتزما للتخصصات سواء داخل الحكومات التي يتولون إدارتها أو داخل الهياكل الحزبية التي يتأسسون فيها، فإذا رشح حزب شخصا للقيام بمهمة فإنه لا يرشحه اعتباطا، بسبب جرأته أو حماسته في النقد والكلام أمام الجماهير، وإنما يرشحه لكفاءته العلمية والسياسية، ولتخصصه المهني، وبالتالي وهو الأولى في التقديم لحسن سيرته وأخلاقه وفطانته والتزامه الديني، وإلا فقد تكون الكوارث غير الطبيعية! والانتكاسات الوطنية والحزبية وبالتالي الاجتماعية والاقتصادية…
وهذا الذي يبدو على السير الحكومي لعدة دول عربية وإسلامية تتشابه ولا تحتاج إلى إيضاح وتفصيل، وذلك لأنها لا تعتمد في البداية والتأسيس العقلي على علم العلماء وعقلنة وخلقنة السياسة وإنما أتوا البيوت من ظهورها ولم يأتوها من أبوابها، فوقعوا في الصدام المدني والاقتصادي وتسوروا البيوت بغير استئذان!ولكم في قاعات البرلمانات وما يحدث ببهوها لعبرة وخيبة نبرة !!!
فلا هم علماء بعيدون عن السياسة وإجراءاتها العلمية والمحكمة ولا هم سياسيون ماهرون ودقيقون في فهم الواقع ومتطلباته، وإنما هم غوغاء متسيسون يغامرون ويقامرون مع أنهم يبقون في حدود المحسوس المدسوس دون الانتقال إلى المعقول والصوغ النظري لضبط الإجراء السياسي، إذ السياسة كما يعرف طريقتها ابن خلدون: “يحتاج صاحبها إلى مراعاة ما في الخارج وما يلحقها من الأحوال ويتبعها، فإنها خفية، ولعل أن يكون فيها ما يمنع من إلحاقها بشبه أو مثال وينافي الكلي الذي يحاول تطبيقه عليها، ولا يقاس شيء من أحوال العمران على الآخر كما اشتبها في أمر واحد، فلعلهما اختلفا في أمور فتكون العلماء لأجل ما تعودوه من تعميم الأحكام وقياس الأمور بعضها على بعض إذا نظروا في السياسة أفرغوا ذلك في قالب أنظارهم ونوع استدلالاتهم فيقعون في الغلط كثيرا ولا يؤمن عليهم”[1]
ومن هنا فابن خلدون لا يشترط في السياسي أن يكون منطقيا أو نظريا أو حتى عالما فقيها مبرزا، وإنما يرى ضرورة أن تتوفر فيه أخلاق السياسة ونفسيتها التي بالضرورة تستدعي العلماء والمنظرين، وتضع كل واحد في مكانه المناسب حتى يستقيم المجتمع ويستقر حاله، بحيث يرى أن “العامي السليم الطبع المتوسط الكيس لقصور فكره عن ذلك وعدم اعتياده إياه يقتصر لكل مادة على حكمها وفي كل صنف من الأحوال والأشخاص على ما اختص به، ولا يعدي الحكم بقياس ولا تعميم ولا يفارق في أكثر نظره المواد المحسوسة ولا يجاوزها في ذهنه كالسابح لا يفارق البر عند الموج، قال الشاعر:
فلا توغلـن إذا مـا سبحـت فإن السـلامـة في السـاحــل
فيكون مأمونا من النظر في سياسته مستقيم النظر في معاملة أبناء جنسه في حسن معاشه وتندفع آفاقه ومضاره باستقامة نظره…”[2]
ثانيا: أحكام السياسة والتوظيف السليم للمقتضيات
فالسياسة مجالها العام هو المحسوسات وبحسن توظيفها تدخل في المعقولات أي أنها تصير عملا فكريا مرموقا، أما في حالة عدم توظيفها السليم لخبث الطبائع وانحلال الأخلاق وغياب الكيس المتوسط والفطنة اللائقة فإنها تبقى في حكم التخييلي المرهون بالمحسوسات الجزئية، أي أنها سياسة غير ذات أبعاد حضارية ولا وطنية ولا تاريخية، وإنما هي إجراءات عفوية تخطط للمشاريع من مستوى الأرائكية وتنحو نحو اللائكية العبثية والانتهازية وبالتالي توقع في البطالة الفكرية، ومن نتائجها استمرار التبعية الاقتصادية والصناعية والعسكرية والفلاحية وحتى اللغوية والثقافية، إضافة إلى استيلاب الهوية والمرتكزات العقدية والسلوكية.
ومن هنا كان لا بد من اعتبار التخصص في الاختيار السياسي للوزراء ورجال الدولة، وليس اختيار وزراء الأمير –حسب رأي ميكيافللي- “بالمسألة القليلة الأهمية فهم إما أن يكونوا لائقين، أولا يتفقون مع فطانة الأمير وحسن تبصره بالأمور، والانطباع الأول الذي يتولد لدى الإنسان عن الأمير وعن تفكيره، يكون في رؤية أولئك الذين يحيطون به، فعندما يكونون من الأكفاء والمخلصين، يتأكد الإنسان من حكمة الأمير، لأنه استطاع تمييز هذه الكفاءة والاحتفاظ بهذا الإخلاص، أما إذا كانوا على النقيض من ذلك، ففي وسع الإنسان دائما أن يأخذ فكرة سيئة عن الأمير نفسه، إذ أن الخطيئة الأولى التي يقترفها تكون في إساءة اختياره”[3].
ويضيف في تحديد الاختيار وأخلاقياته بأن “هناك طريقة تمكن الأمير من معرفة وزيره واختياره وهي طريقة لا تخطئ أبدا، فعندما يفكر الوزير بنفسه أكثر من تفكيره بك، وعندما يستهدف في جميع أعماله مصالحه الخاصة ومنافعه، فإن مثل هذا الرجل لا يصلح لأن يكون وزيرا نافعا، ولن يكون في وسعك الاعتماد عليه، إذ أن من تعهد إليه مهام دولة الآخرين يجب أن لا يفكر قط بنفسه وإنما بالأمير…”[4]، وحيث أن الأمير يمثل رمز وحدة البلاد واستقراره فإن التفكير سيكون في الحقيقة في مصلحة الشعب والأمة والسهر على تحقيق رقيها وازدهارها وتحقيق العدل والإنصاف في أحكامها، ومن ثم فعلى السياسي السليم الطبع كما عرفه ابن خلدون أن ينكر ذاته ويفنى في مصلحة أمته خدمة ونصيحة.
ولكن حينما يحدث التسيب في المجال السياسي سواء على مستوى رأس الهرم السلطوي أو في الوسط أو حتى القاعدة فإن البطالة الفكرية قد تعم الجماهير وخاصة في الحكم على الأحداث والوقائع ذات الطابع السياسي، فتجد بعض الغوغاء يفسرون أخبارا ويحللون وقائع بل يتجادلون حولها ويتشبث كل واحد برأيه على شكل عصبية وحماس وجزم في المسألة كأنهم حاضرون في بؤرة المشكلة أو أنهم ضمن الذين خدموا مسرحيتها (أو سيناريوهاتها كما يصطلح عليه)، فهذا يؤيد الحزب الفلاني أو الدولة الفلانية أو الرئيس والحاكم الفلاني، ويسب بالمقابل الآخر ويلعنه أو يكفره ويخونه، وعلى الجملة يصدرون الأحكام الجاهزة من خلال الإذاعات والتفلزات والتجمعات في المقاهي والنوادي ومراكز الأنترنيت حيث السمسرة والمقامرة، ناسين أن “الحرب خدعة” وأن من أخطر الحروب فتكا بالجماهير والدول في زماننا هي الحرب الإعلامية “وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وأولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا…”[5][6][7][8]
وعندما لا يردونه إلى أهل الاختصاص تقع جماهير كثيرة في فخاخ الأجهزة الإعلامية، وبالتالي قد تجد من يحرض ضدا على مصلحة وطنه وحاكمه بواسطة إشاعة من الخارج أو الداخل لا حقيقة لها في الواقع، فيكون ذلك سببا لفتن ومحن يسقط فيها الكثير تغريرا كمن يسعى إلى حتفه بظلفه!.. وقد يؤدي الأمر إلى القيام بمظاهرات واندفاعات هستيرية ربما قد يذكيها بعض الزعماء المتسيسين على نفس النمط والأسلوب الذي يوظف في الجامعات والتي تظهر بأسلوب الثورية السلبية في باعثها والغاية منها، بحيث أصبحت المظاهرات صورة للتعبير عن غباء الجماهير وسوقها كالقطيع إلى يد المساومين والمتسوقين، لأنه من خلالها ترصد الانتخابات المقبلة ويستطلع الرأي حول نتائجها وفيها يجد كل انتهازي ضالته في تحقيق مأربه، بينما يبقى الحال السياسي سواء كان وطنيا أو دوليا على هيئته، لأن فترة الضغط الجماهيري المدني بالخروج إلى الشوارع قد ولت فعاليتها وأصبحت عبارة عن رماد يدر في العيون وصخب يزعج الآذان لا غير!.فهل من تطور وتحول نحو الجادة والتجديد لتصحيح مسار الأحزاب وأدوارها المنوطة بها أم أن الأمر أبدي يدور ثم يعود إلى المكان الذي دار منه؟ !!!
[1] ابن خلدون: المقدمة ص 542.
[2] ابن خلدون: المقدمة ص 543.
[3] ميكيافللي: الأمير، منشورات دار الآفاق الجديدة ط 23 ص 180.
[4] ميكيافللي: الأمير، منشورات دار الآفاق الجديدة ط 23 ص 181.
كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة المغرب