أمريكا والأوضاع العربية المشرقية
إنها فعلا «أوضاع عربية»، لا تتطابق مع بعضها على وضع واحد. لكن ثمة دائما مشتركات كبرى، يفرضها الانتماء الحضاري الواحد، صلبه مستوى التطور الثقافي – الاجتماعي المتقارب. فكما اشتركت في هبة متوالية سميت «بالربيع العربي»، تشترك بقدر من التقارب والتشابه في ما يمكن أن نسميه بأزمة «الانتقال الديمقراطي»، وكأن قانون الأواني المستطرقة يحكمها جميعا في، التقدم والتراجع والركود، ومع ما تسمح به الدينامية من انفلاتات ممكنة لحلقة ما ليعم سقفها باقي حلقات السلسلة.
هذه الصورة إنشائية تقريبية، ليس غرضها تناول ما تحمله من تعقيدات، لكنها بمثابة الميل العام الذي يحكم سقوف المنعطفات الكبرى التي شهدها الوضع العربي قديما وحديثا.
ما أردته من هذه المقدمة، الإلحاح مني، اليوم وأكثر من أي وقت مضى، على الحاجة إلى الرؤية الحضارية في تناول القضايا المعاصرة لأي من المجتمعات تنتمي لنفس الدائرة التاريخية، لاسيما لدى الشعوب ذات الثقل التاريخي الحضاري، والذي قد يعيقها على التقدم، إلا أنه يظل الجسر الضروري لعبورها إليه. وأكاد أجزم أن الدولة الفاقدة للرؤية الحضارية في هذه الحالة معرضة للاستتباع والفشل الحتمي. وعندما أتحدث عن الرؤية الحضارية، فلا أعني أحد مفاهيمها الذي يضيق مجالها في، «التقدم المادي العمراني «فقط، ولا الذي يستعيض عنها باستيراد التكنولوجيا الجاهزة، كما هو المفهوم الرائج اليوم. بل القصد ما تعنيه الحضارة من تقدم مادي عمراني، وإنتاج للعلم والمعرفة، ومن تحديث معاصر لتراثها الثقافي واللغوي والديني والقومي، ومن سعي «جيوبوليتيكي» لتعظيم تلك المشتركات، بما يؤسس لقوة فاعلة في الحضارة الإنسانية جمعاء. إنها بعبارة وجيزة «القيمة المضافة» التي تساهم بها الحضارة المعنية في تقدم الحضارة الإنسانية المشتركة والعليا.
واقع الدول العربية لا يخرج عن هذا المنظور ولا عن هذا المآل، ولعل في رأي النقاد ما يفيد هذا المعنى في حكمهم الجماعي، على أن، إذا ما استثنينا المشروع الإسرائيلي الأمريكي المضاد، ليس في الساحة سوى المشروع الإيراني والآخر التركي، وفي الغياب المطلق لأي مشروع عربي. وتشاء الصدف أني قرأت من جديد البيان التأسيسي للكتلة الوطنية (ل1970) ، ووجدت أن الرؤية الحضارية متضمنة فيه، فكرة وتعبيرا. وقد أضحى هذا البعد في الفكر السياسي عامة، فقيرا في المضامين والإصطلاح والخيارات. ولا مقارنة، على سبيل المثال لا الحصر، بين «الإنسية المغربية»، الواردة في النص وفي الفكر السياسي لتلك الحقبة، وبين التعبير الفلكلوري»تمغربيت» الرائج اليوم.
وفي تقديري، ووفق المنظور الحضاري السابق، أن ما ستنتهي إليه بؤر الصراع في المشرق العربي، في اليمن وفلسطين وسوريا ولبنان والعراق، سيشكل لطبيعة الصراع في كل منها، الخطوة الفاصلة في المستقبل المنظور لمجمل الأوضاع العربية القادمة.
ومن هذه الزاوية، سأتناول كلا منها على التوالي، كمؤشرات عامة، في الفقرات التالية، وفي ضوء ما جاءت به الإدارة الأمريكية لبايدن من جديد في كل منها.
آراء أخرى
(1)
أعطت الإدارة الأمريكية الجديدة أولوية خاصة للحرب القائمة في اليمن من جانبين، أحدهما في الإعلان عن عزمها العاجل على وقف الحرب لدواع إنسانية محضة، بعدما بات واضحا ومؤكدا للمؤسسات الدولية أن الحرب أفضت وتفضي إلى كارثة إنسانية لا سابق لها. والدعوة الأمريكية لوقف الحرب أرفقت بإعلان تجميد التسليح الأمريكي للإمارات والسعودية، مع الالتزام بضمان أمن السعودية والحلفاء الخليجيين عامة. ومن الجانب الآخر، أعلنت الإدارة الجديدة عن إلغاء فريق «أنصار لله» المدعو إعلاميا» بالحوثيين» من قائمة التنظيمات الإرهابية، لتسهيل التفاوض معه، ومع إقرار عقوبات على بعض القياديين منه، والإبقاء على الحصار الشامل المضروب على» اليمن الشمالي» الذي تدور على ساحاته جل المعارك القتالية. ولا حاجة للتذكير بأن قرار الحرب كان بضوء أخضر من الإدارة الأمريكية في عهد أوباما ونائبه بايدن، وأن أمريكا (وبريطانيا) استمرت مشاركة وداعمة لهذه الحرب التي دامت ست سنوات، ومازالت. بينما كان سوء تقدير مخططيها أنها لن تتعدى شهرين أو ثلاثة. ولا حاجة للتذكير أيضا، أن السياسة الأمريكية السابقة والجديدة لليمن لا تنفصل، كما عند حلفائها، عن صراعهم مع إيران وعن ملفها النووي. ولهذا، تستمر الإدارة الجديدة، حتى وهي تسعى لوقف الحرب، منحازة لجانب حلفائها، في ما تراه من تسوية تقطر خطواتها على مقاس المصالح المشتركة معهم، واضعة كل المسؤولية في استمرار الحرب على «أنصار لله» تحديدا. فما هي إذن الصورة العامة لوضعية الحرب على اليمن كما تبينها بعض الوقائع الرئيسية؟
أولا: بدون العودة إلى نوعية العلاقات والحروب السابقة بين الجمهورية اليمنية والمملكة السعودية، في المراحل المختلفة، ، وبلا العودة إلى انتفاضة (2011) التي اختلط فيها الحابل بالنابل، وأفضت إلى نظام توافقي برئاسة(منصور هادي) وتحت الرعاية السعودية، والذي ما كان منه إلًا أن حافظ على نفس التركيبة والاختيارات للنظام السابق، مع تبعية أوضح وأوسع للوصاية السعودية… سنأخذ من كل ذلك الحيثية الأساس التي بني عليها مسوغ التدخل العسكري ل «عاصفة الحزم»، والذي أعلن عنه من قبل وزير الخارجية السعودي من واشطن، كإشارة منه لدعم الولايات المتحدة في عهد إدارة أوباما ونائبه الرئيس الحالي. وكان مسوغ هذا التدخل العسكري الدفاع عن الشرعية الدستورية لحكومة الرئيس(منصور هادي)، وكان واضحا أن هذا التدخل الحربي، الذي وجد تغطية له في قرار لمجلس الأمن، تشكل تحالفه على عجل وبارتجالية أظهرتها مواقف كل من باكستان ومصر والمغرب والأردن، وبحيث لم يبق منه في الميدان سوى التحالف الإماراتي– السعودي، ومشاركة سودانية تبرأ الحكم القائم اليوم من رسميتها.
أما الواقعة التي تستحق التشديد عليها، والتي يقع طمسها، لأنها تعري عن العديد من المسوغات والروايات والتأويلات الباطلة، ما قاله جمال بن عمر في السابق وأكده مؤخرا، أن إعلان الحرب وشنها في اليوم الأول، جاءا في نفس التوقيت الذي كانت فيه القوى السياسية اليمنية، بتمهيد إرادي من أنصار لله، ستجتمع في الغد للتوقيع على ورقة تفاهم بينها وعلى كيفية تنظيم السلطة الانتقالية، وبمشاركتها جميعا. وأنه كمسؤول وسيط عن الأمم المتحدة قد أبلغ الأمانة العامة بهذه النتيجة التي تم التوصل إليها. ولذلك، لم يكن مفاجئا، وقرار الحرب وراءه دعم الولايات المتحدة، أن تتم تنحيته وتعويضه بمسؤول دولي آخر..
وبعد هذه الواقعة التي تفند الكثير من الروايات المسوغة للتدخل الخارجي وللشرعية الدستورية، وهي أصلا شرعية توافقية أفلت مدتها، يأتي السؤال المادي القاطع، أهناك من حجة أقوى من أن هذه الشرعية المزعومة لم تجد لها أرضا يمنية تستقر عليها خلال السنوات الست من الحرب، سوى الضيافة السعودية لحكومتها ورئيسها، وحتى عدن التي أملوا أن تكون عاصمة مؤقتة لهم كانت ملجأ ملغوما وخارج سلطتهم. بينما المناطق الشمالية الأكبر مساحة والأكثر كثافة سكانية بأضعاف، والواقعة تحت نفوذ ما يصفونه «بجماعة الحوثي» وهي لا تزيد عن عشرة في المائة من سكان اليمن، تعيش، رغم الحصار الشامل والقصف الجوي وتعدد جبهات القتال، في وضعية تدل على تعايش أهلي وعلى تعبئة شعبية حاشدة ومتواصلة وداعمة للسلطة الجديدة. وكيف لأقلية قليلة أن تحقق هذا النجاح المفحم، وهذا الصمود البطولي، لولا دعم الأكثرية الشعبية لها، بلا حساسية قبلية أو مذهبية كما تزعم الدعايات الإعلامية المضادة. والحقيقة، أن «أنصار لله» نجحوا في شراكتهم مع القوى اليمنية الأخرى، لأنهم تمسكوا وإياها بالمشروع الوطني المستقل، والذي يشد أزرهم مع أغلب مكونات الشعب اليمني. ولأنهم مع حلفائهم تعلموا كيف يديرون بضمير وطني وبتؤدة بناء مؤسسات الدولة الناشئة على أنقاض الحرب بدمارها وحصارها. وكيف يؤسسون لجيش وطني، بالمعايير الحديثة، يراكم الخبرة القتالية ويبدع صناعاته الحربية. ولعل في كل هذا ما يفسر صمودهم ونجاحاتهم أمام تحديات «جنون القوة» المالية المتدفقة والتسليحية من أعلى طراز.
ثانيا: للجمهورية اليمنية، وهي ثاني أكبر دولة خليجية، موقعها الجيوبولتيكي بأهمية أبعاده الاستراتيجية. أولها، انتماؤها للخليج العربي ذي المكانة الدولية كمصدر للطاقة البترولية والغازية. وثانيها، امتدادها على سرير بحري طويل ومتعدد، يشمل بحر العرب من جانب، ومضيق باب المندب الذي يربط بين البحر الأحمر والمحيط الهندي من خلال خليج عدن. من الجانب الآخر، إنها ممرات لها قيمة دولية تجارية وحتى عسكرية أيضا. وثالثها، عراقتها الحضارية ومجتمعها الموسوم بالحيوية السياسية والحزبية، وهو الأكثر كثافة سكانية بين دول الخليج. ولعل هذه الميزة الأخيرة، هي ما يجعل دول الخليج تتحسس من أي تحول راديكالي في النظام السياسي، وتبين إلى حد كبير لماذا تجنب مجلس التعاون الخليجي أن يضم لعضويته الجمهورية اليمنية!
خلال الحرب على اليمن وكذلك بعد صعود إدارة بايدن، وقعت انعراجات بالغة الأهمية، منها الإعلان ألاستباقي للإمارات بأنها لم تعد مشاركة في هذه الحرب، بعد أن وطدت سطوتها على الجنوب اليمني عبر تمويل وتسليح ما سمي بالمجلس الانتقالي الداعي إلى انفصال الجنوب والعودة إلى دولته المستقلة. وفي غضون ذلك ، طبَّعت علاقاتها مع إسرائيل ومكنتها من قاعدة استخبارية في جزيرة سقطرا اليمنية. وبسرعة فائقة، وكأنها تخاف خداع الزمن، عقدت مع إسرائيل اتفاقات شاملة لجل ميادين التعاون بينهما، والميزة الظاهرة فيها أن رؤوس الأموال ستصب من الإمارات إلى إسرائيل، وليس العكس. وإلى اليوم لا يزال المجلس الانتقالي يمسك بالسلطة، ولا يترك أي حيز لحكومة هادي (الشرعية ؟) ولقواته، رغم اتفاق تقاسم السلطة الذي جرى بالسعودية. ومع كل ذالك ، ليس الإعلان الإماراتي عن الانسحاب من الحرب انسحابا من «التحالف العربي» –الأمريكي الذي يديرها.
ومن تلك الانعراجات، عودة العلاقات إلى مجراها التصالحي بين قطر والدول ( السعودية والإمارات ومصر والبحرين) المقاطعة والمحاصرة لها، ومع التخلي عن جميع الشروط التعجيزية التي طلبتها سابقا من قطر. وخاصة لأن السعودية بحاجة إلى حماية سياسية ودبلوماسية من مجلس التعاون كاملا في أجواء الضغوطات المحتملة عليها من قبل إدارة بايدن في ملفات عديدة، وفي مقدمتها قضية خشقجي.
إلا أن وزير الخارجية القطري السابق (جاسم بن حمد) يكشف لنا عن الحقيقة الواضحة،كما سبق له أن أبلغنا، أن ما قامت به قطرمن دور كبير في الحرب على سوريا، لا تتحمل فيه وحدها المسؤولية،لأن ما قامت به كان بضوء أخضر من الملك السعودي الراحل، وبتنسيق دائم مع الولايات المتحدة والسعودية وتركيا وحتى الأردن في غرفتي العمليات المديرة لهذه الحرب على حدود البلدين الأخيرين، ولقد صرفت قطر خلالها ما يزيد عن مائة وثلاثين مليار دولار، لكن «الصيدة» بتعبيره، فلتت من بين أياديهم ! وفي هذه المرة، علق على المصالحة الخليجية، أن مجلس التعاون ليس إلا « بوقا إعلاميا» لسياسة معينة، وهو يقصد السياسة السعودية والإماراتية. ليس في التصريحين جديد سوى أنهما تأكدا بشهادة من وزير كبير مسؤول. وفي تعليقه الأخير نستشف الحقيقة المعروفة أيضا، أن كل دولة في مجلس التعاون الخليجي لها سياستها الخاصة وفق مصالحها في جل القضايا الكبرى بما فيها التطبيع مع إسرائيل والملف النووي والعلاقة مع إيران والأزمة السورية وباقي القضايا الأخرى. ولذلك، ليس مجلس التعاون الخليجي في الوضع الراهن على الأقل إلا تجمعا سياسيا مهلهلا سيتراجع دوره الخارجي في الزمن القادم. ومن هنا نستشف أيضا، لماذا شرعت كل من مصر والأردن والعراق في توسيع نطاقات تحركهم الجماعي المستقل، وبغرض التأليف بين مصالحهم وخياراتهم المشتركة كقطب عربي صاعد.
ومن تلك الانعراجات الالتفافة التركية الجديدة. وقد نوهت سابقا، أنه ليس من مشروع في المنطقة من أهلها سوى المشروع الإيراني من جهة، والمشروع التركي من جهة ثانية. ولكي لا تغوص في خصائص تركيا ونظامها السياسي، نلحظ بسهولة «التقلقل الحضاري» الناجم عن موقعها الجغرافي وتطورها التاريخي الثقافي والاجتماعي، بين الغرب المغلق الأبواب أمامها والشرق المفتوح الأبواب وراءها، بل يمكن القول، إن من جملة العوامل التي جعلت الاتحاد الأوروبي «رسميا» يستعيد ويلح على انتماء حضارته للتراث المسيحي، سعي الدولة التركية لمجتمع مسلم وبتعداده السكاني المرتفع، ولعقود، للانضمام إلى عضويته. ولم يشفع لها في ذلك، أنها الدولة العضو في حلف النيتو، ناهيك عن أنها أول دولة من العالم الإسلامي اعترفت بإسرائيل حال نشأتها، واستمرت تحافظ على علاقات اقتصادية واستخباراتية جيدة معها إلى اليوم.
لهذا «التقلقل الحضاري» جذوره البنيوية الداخلية، بين دولة علمانية فوقية النشأة إلى حد كبير وبين مجتمع حافظ في المقابل، وبوتيرة بطيئة، على تراثه الإسلامي الطرقي بوجه خاص، ومن بين أحضانه خرجت الحركة الحزبية الإسلامية لأربكان ثم حزب العدالة والتنمية المنشق عنه والذي تلقى هو الآخر دعما قويا من جماعة (عبد الفتاح غولن) الطرقية والخدماتية، وكانت عنصرا أساسيا في فوزه الانتخابي ووصوله إلى الحكم، قبل أن ينقلب أردوغان عليها، لاتهامه لها بتدبير الانقلاب الفاشل (ل2016). واستمرار الاعتقالات غير المألوفة في أي تآمر إنقلابي، لأن أعدادها بعشرات المئات في جميع مفاصل الدولة والمجتمع! يؤكد من جانب آخر ما قلته عن الانغراس العميق للحركة الطرقية في المجتمع.
لقد مثل حكم حزب العدالة والتنمية أجلى صورة لهذا التقلقل الحضاري. وقد رأيناه يشتق استراتيجيته الدولية من حلم تراث الإمبراطورية العثمانية، معتبرا إياه الامتداد الجيوبوليتيكي والمجال الحيوي للدولة التركية ولزعامتها، ويشمل بالدرجة الأولى جميع أوطان انتشار الإثنيه التركية، ثم القوميات الأخرى التي اندرجت سابقا في الإمبراطورية العثمانية.
وهذا ما اعتبره وزير الخارجية السابق المنشق (أوغلو) ما يشكل العمق الاستراتيجي لتركيا. وليس الخلاف هنا على المبدأ، وإنما على الطريقة الهيمنية التي تتقاطع مع المآرب الأمبريالية الأمريكية في أكثر من محل، بدل أن تكون رافعة للتعاون المثمر والتحرري بين جميع قوميات وأوطان تلك المرحلة التاريخية العثمانية. إنها إيديولوجية قومية استعلائية، كما هي أيديولوحية، حليفه الرئيسي الوحيد «الحزب القومي التركي»، مع مسحة إسلاموية وظيفية (وليست عقائدية كما عند الحركات الإسلامية العربية) عند الأول ولائكية صرفة عند الثاني، وبصرف النظر عن الكيفيات الدقيقة لسياسات تركيا في العديد من مواطن التوترات معها، في سوريا والعراق وليبيا وفي الحرب بين أدربيدجان وأرمينيا ومع بعض دول الخليج تجاه قطر سابقا ومع دول أوروبية في شمال المتوسط والإيغور في الصين وغير ذلك، فإن الحصيلة العامة جعلت تركيا لا تستقر على اتجاه ولا ثقة فيها من حليف ثابت، وخاصة في المنطقة العربية التي مارست فيها أساليب الاحتلال أو التدخل العسكري المباشر فضلا عن تزعم الاستقطاب السياسي للحركات الاسلامية في المنطقة العربية. في ذروة صدامات ما سمى بالربيع العربي وإلى اليوم. ولأن تركيا أردوغان وجدت نفسها محاطة ببؤر التوتر التي افتعلتها أو ساهمت فيها، ولأن عوامل داخلية أخرى كانت ضاغطة، ومنها، انخفاض شعبية حزب العدالة والتنمية وتعرضه لانشقاقات متتالية، وخسارته في الانتخابات المحلية لمدن كبرى( أنقرا واسطنبول وأزمير)، واستفحال الأزمة الاقتصادية وانهيار العملة ومضاعفات جائحة كورونا، وتراجع الحريات العامة بفعل شخصنة السلطة بعد التعديل الدستوري الأخير مع استمرار مسلسل الاعتقالات بالآلاف وفي جميع أجهزة الدولة، والفشل النهائي لحل المسألة الكردية لا سيما والمحاولة جارية لاجتثاث حزب الشعوب الديمقراطي الكردي. هذه العوامل الداخلية الضاغطة ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية والتشريعية، وانتقادات بايدن الصريحة لأردوغان وإعلان نيته تشجيع معارضيه، وخصوصا مطالبته بإلغاء صفقة الصواريخ س 400 مع روسيا الاتحادية، جميع تلك العوامل الداخلية والخارجية دفعت بأردوغان إلى التفافته الحالية لتهدئة ما أثارته سياسته المناورة على جميع الحبال من زوابع وأزمات داخلية حاصرته من كل الجهات…ولهذا لاحظنا تودده للسعودية ومصر لمصالحتهما وقبول الانخراط في المساعي السلمية لحل الأزمة الليبية… لكنه ما زال على نفس الموقف الاحتلالي في الأزمة السورية في انتظار الذي يأتي ولن يأتي، كما سنوضح في المقالة اللاحقة.
فهل سيكون له دور قوي في الأزمة اليمنية مقابل تودده للمصالحة مع السعودية، وهل سيبيع الطيارات المسيرة لها…إنه احتمال ضعيف، لأنه جاء في غير زمنه المناسب، فيما المجتمع الدولي عامة يبحث له عن مخرج سلمي من هذه الحرب التي طال أمدها.
وبالعودة أخيرا إلى الحرب القائمة على اليمن، فلا جدال أنها دخلت مرحلة العد العكسي، ومع تفوق مضطرد لسلطة صنعاء ولصمودها ومقاومتها. وقد يكون الانتصار في تحرير محافظة مأرب آخر معاركها في شمال اليمن.وكما هو معتاد في الحروب، فالمعتدي يقدم دائما حلولا جزئية عله يأخذ بالمفاوضات ماعجز عن أخذه بالحرب. وهي حيلة تقليدية معروفة لن تنطلي على الذي يمسك بالأرض. و ما يثير القلق يوجه خاص، وضعية الجنوب اليمني والدور الانفصالي للمجلس الانتقالي فيه، خاصة وأن إسرائيل باتت حاضرة بقوة في الجنوب على إثر تحالفها العلني مع الإمارات صاحبة القرار فيه. وقد صرح أحد قادة المجلس أن هذا الأخير على استعداد لتطبيع العلاقات مع إسرائيل إذا ما تحقق مطلبه في الدولة الانفصالية. ما قد يطمئننا في هذا الصدد، أن القوى الوحدوية في الجنوب ليست بهذا الضعف المريع، وأن الهوى الشعبي في الجنوب لا يختلف طموحا في الحرية والتحرر من أي احتلال كيفما كانت جنسيته عن مثيله في الشمال، وبالأحرى أن يكون هذا الانفصال المفترض مشبوها بالدور و الحضور الإسرائليين. وفضلا عن هذا وذاك، لم يظهر بعد في التوجهات الدولية ما ينم أو يشجع على هذا الانفصال الافتراضي. وللأيام القادمة كلمتها الأخيرة.
(2)
ستظل القضية الفلسطينية محور الصراع القومي التحرري للشعوب العربية. وهي «ترمو متره» في التقدم أو التراجع. مفارقة الكيان الإسرائيلي اليوم، أنه لا يعيش أزمة سياسية حكومية وحسب، طالت أربعة انتخابات تشريعية متتالية، وذاهبة، على الأرجح، إلى خامسة، لعدم توفر النصاب التشريعي الأدنى، ولكثرة الخلافات الشخصية والحزبية بين الكتل الفائزة المؤيدة لنتنياهو والمعارضة له. وهو الشخص المتهم قضائيا بالرشوة واستغلال النفوذ. المفارقة هنا، أنه في الوقت الذي نجحت فيه إسرائيل في إنجاز اختراق تطبيعي، وأكثر مع بعض البلدان العربية، وهي مسألة وجودية بالنسبة إليها، وستعود عليها بفوائد كبرى على كيانها ونفوذها معا، في هذا الوقت، يشهد محللون ومسؤولون كبار سابقون، أن إسرائيل قادمة على أزمة وجودية لا فكاك منها! ويصفونها في الأغلب بـ «الفتنة الأهلية»!؟
وكيفما اختلفت تحاليلهم لدوافعها، في هذه الجزئية أو تلك، فهم في جميع الأحوال يحاولون استشراف المستقبل انطلاقا من تصورهم الصهيوني وحرصهم على الكيان الإسرائيلي. ولذلك، غالبا ما يعتبرون، أن مرد الأزمة الوجودية يعود إلى النمو المضطرد للتيارات الدينية (الحريديم) و «الصهيونية الدينية» والشوفينية العنصرية التي تلازم نموها مع تضخم كتلة المستوطنين لما بعد1967. والأزمة بهذا المعنى، هي حصرا، نابعة من تراجع التصور « العلماني الليبرالي» مقابل تضخم الإيديولوجية الدينية بجميع أصنافها. ويتناسى هؤلاء أن الصهيونية تكونت عضويا، ومن الولادة، على أساطير دينية عنصرية واحتلالية استطانية. ولذلك، لا يمكنها أن تكون غير ما هي عليه «جينومها» هذا، إلا إذا انقضى عمرها الافتراضي.
لقد حدثت فعلا، في العقود الأخيرة، تغيرات ملموسة في تراتبية وأدوار مكونات الكيان الإسرائيلي، كبرت معها أدوار الكتل اليمينية المتطرفة ومن أجيال جديدة. وجميعها ذات ميولات دينية شوفينية استيطانية، وبات لها تمثيل يتسع في النخبة السياسية الحاكمة، ولها تأثيرها القوي على التوازنات الكلية. ولم تكن نخبة الرعيل الأول لا أقل عدوانية ولا أقل تعصبا شوفينيا استيطانيا، سوى أنها كانت أكثر ميلا للعلمانية ومن أصول غير شرقية (الإشكناز). إنها تغيرات موضوعية لا مناص منها للأيديولوجية الصهيونية الجامعة. وفي هذا الوضع، لا تضطلع التقسيمات الاجتماعية، وتلاويتها السياسية، كما هي في البلدان «الليبرالية العلمانية»، إلا بدور ثانوي يزداد ضالة مع التضخم الإيديولوجي الصهيوني الحتمي. ولهذا، تفقد الانتخابات تنافسيتها على مصالح وخيارات اجتماعية معينة، فلا يعود لها لون أو طعم أو رائحة. وهذا ما تحذر منه وتخشاه تلك الأقلية الليبرالية العلمانية، لما تحسبه لهذه الظاهرة من تجويف للمؤسسات من الداخل، يُيبسها ويُفرغها من تلك الدينامية الاجتماعية–السياسية للنموذج «الليبرالي العلماني» المتخيل والمعاق في الواقع الإسرائيلي الفعلي. وهم لهذا يتنبؤون له بالفوضى القادمة !
وبعض أولئك المحللين الإسرائيليين العسكريين والأمنيين ، ينظرون إلى «الأزمة الوجودية « من زاوية أخرى، تركز على تغير توازنات «القوة الحربية» والرادعة في المنطقة، ويستخلصون أن أي صدام حربي مفترض سيطال حتما الداخل الإسرائيلي بأشد قوة تدميرية ودقة الاستهداف، عما جرى في حرب2006، وهذا تحول نوعي لم يسبق لإسرائيل أن كانت موضوعا له.وهو يمثل خطرا وجوديا عليها . لكنهم يظلون محبوسين في معالجاتهم التقنية، وليس بوسعهم الإفصاح عن جوهر هده الأزمة الوجودية. وهي بكلمة موجزة، ما دام الكيان الإسرائيلي لا صيرورة تاريخية له توحده، يكون الاطمئنان إلى «التفوق في القوة» هو الإسمنت الأوحد اللاحم له، وما دام هذا العنصر يهتز ويضعف، لوجوده في مجال حضاري أكبر أرسخ عمقا منه، فالأزمة الوجودية ستستمر مباطنة ودائمة وفاعلة في جميع مظاهر أزمات الكيان الصهيوني المصطنع إلى أن ينتهي عمره الافتراضي .
في مقابل شعور هذه النخبة بالأزمة الوجودية التي تنهش الكيان الإسرائيلي، على الرغم من الاختراقات والنجاحات العابرة، وعلى الرغم من أزمات تراجع النظام العربي الرسمي، ثمة شعب فلسطيني جبار يبرهن يوميا على أنه شعب له تاريخ ينبض بالحياة الدائمة، ويقاوم بجميع أجياله وبكل ما له من طاقات المقاومة التي لا تنضب.
لا أريد أن أدخل في تفاصيل الحوارات والاتفاقات التي أبرمت بين الفصائل الفلسطينية في محطات مختلفة، وخاصة الأخيرة بين قيادات الفصائل في بيروت وما توصلت إليه من بنود سياسية جامعة، وكذلك ما توصلت إليه الفصائل في القاهرة من برمجة لإجراء انتخابات تشريعية في الضفة والقطاع، ثم انتخابات للرئاسة وأخرى للمجلس الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية ليضم كل الفصائل بلا استثناء، ومن بين تلك الخطوات الإجرائية تشكيل حكومة وحدة وطنية. ولا أريد أن أدلي برأيي الخاص في المواقف والتصورات المقترحة من كل فصيل، لأن الأساسي في هذه اللحظة التشديد على المعنى الإجمالي الموضوعي للتحول الجاري في الساحة الفلسطينية، لجهة أن توحيد جميع فصائل المقاومة الفلسطينية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، ممثلة الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات، سيتحقق، رغم كل التباينات التي مازالت قائمة ، وذلك لدوافع عديدة، أهمها:
أولا: أن جميع الفصائل أدركت،بلا رجعة، أن لا خيار لها أمام التحديات الكبرى القائمة، سوى الخيار الوحدوي وأولويته على غيره من التباينات الفصائلية
ثانيا: أن هذا الإدراك يعبر في عمقه عن نمو نوعي في الوعي الديمقراطي الوحدوي لدى جميع الفصائل، ما جعل من توحيد الإطار (سلطة ومنظمة التحرير) كطريق لحل باقي الخلافات، مهمة ذات أولوية على ما عداها، مما سيحد من الغلو في تأويل التباينات القائمة، ويجعل التنافس السياسي ممكننا وضروريا في إطار الوحدة لا خارجها أو ضدها ولا يناقض هذا الاستنتاج الموقف الفريد للجهاد الإسلامي الرافض للمشاركة في الانتخابات التشريعية القادمة، لأنها تجدد شرعية أوسلو في تصور المنظمة لكنها أعلنت في نفس الوقت أنها على استعداد للمشاركة في انتخابات المجلس الوطني الموحد، وفق الأرضية السياسية الأدنى التي سيتم الإتفاق عليها، وأنها لن تعيق الانتخابات التشريعية، وهذا موقف في غاية المرونة الوطنية.
ثالثا: ولأن هذه التباينات، بعد الفشل القاتل لاتفاقية أوسلو، وأمام التحديات الكبرى التي ما انفكت تضع القضية الفلسطينية من جذورها، إما أن تكون أو لا تكون، قد جعلت من التباينات السابقة، المرتبطة أساسا بالمواقف من اتفاقيات أوسلو، مجرد خلافات تكتيكية جزئية وظرفية في التصريف العملي، على غير ما كانت عليه في الماضي كخلافات وتناقضات استراتيجية، وهذا ما تؤكده الاتفاقات السياسية في محطات الحوار السابقة، ومنها،إشادة الجميع بأرضية المقاومين المعتقلين، وكذلك البيانات السياسية المركزية لكل الفصائل. وبهذا المعنى، الأرضية السياسية البرنامجية الأدنى متوفرة موضوعيا وذاتيا، وقابلة أن تُستخرج في صياغة جماعية مشتركة في إطار توحيد منظمة التحرير الفلسطينية، واستعادة دورها المستقل كقيادة لكل الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، وبما يسمح بتعددية الآراء في التكتيكات الظرفية، بل وبالتركيب الوظيفي الممكن بينها، إن جاز القول.
الدوافع السابقة لم أسقطها من رأسي على مجريات الأمور، بل هي مقاربة أمينة للروح الجديدة المصرة على أولوية وحدة الإطار بنَفَس ديمقراطي تعددي، وهذا تحول كبير لابد من أخذه في حساب مستقبل القضية الفلسطينية في الزمن المنظور. ومن ضمن هذا الحساب، الذي لا يخفى على أي فصيل فلسطيني، أن سياسة الإدارة الأمريكية الجديدة، ليست إلا استمراراً للسياسة الأمريكية الدائمة لصالح إسرائيل، وليس بوسعها، كما كتبت في المقالة السابقة، إلا شراء الوقت بترضيات جزئية، كالقول، بحل الدولتين، وبتعبير أدق، دولة قابلة للحياة(؟؟) (أي ليست كاملة السيادة) وعلى أرض متنازع عليها(أي غير محتلة)! و في جميع الأحوال، لا موقف عملي حازم ضد التهجير والاستيطان ولا ضد الجرائم الإنسانية التي ترتكبها إسرائيل يوميا، وموقفها من قرار محكمة الجنايات وفي المجلس الدولي لحقوق الإنسان لا يحتاجان إلى تفسير. ناهيك عما ستقوم به من ضغوطات، مرئية أو غير مرئية، لفك الوحدة الفلسطينية بذريعة ما تسميه بالتنظيمات الإرهابية، وما ستسعى إليه من جر السلطة الفلسطينية القادمة إلى مفاوضات ماراطونية وغير متكافئة لشراء الوقت الدي تحتاجه بلا طائل منه.
لكل تلك الأسباب المعروفة لدى الشعب الفلسطيني وفصائله وقياداته، لا أرى مستجدا مغريا يولع النار في ما تبقى من جمر انطفأ تحت رماد رهانات أوسلو. وإذا جرت الانتخابات التشريعية كما هو مقرر، فإن حصيلة 36 لائحة انتخابية، وبقوائم فتح المتباينة سوف تكون حتما لصالح تصليب الخيارات لا تعويمها، ولصالح الوحدة الفلسطينية أولا وأخيرا.
ولبقية القضايا العربية تتمة مع خلاصة تركيبية عامة.