
تاريخ الراهن وتجربة العدالة الانتقالية: ملاحظات عابرة

خرج التاريخ في النصف الثاني من القرن الماضي من جُبَّة القواعد الهشة التي وضعها المؤرخون الألمان والفرنسيون ممن يُنْعَتون بالوضعانيين؛ فشروط الموضوعية، والأرشيف المكتوب، والمسافة النقدية، والتي اعتبرت معايير أساسية لأجل خوض غمار البحث لم تعد مُعْتَبرة. هذه المآخذ الثلاثة كانت العائق أمام الاهتمام بتاريخ الحاضر وبالماضي القريب. أرسى مؤرخو القرن التاسع عشر بأروبا معايير التأريخ “العلمي”، فجعلوا قصر الزمن والافتقار إلى المحفوظات المدونة عاملين لا يساعدان على تكوين النظر المتزن، ونجم عن ذلك إدانة هذا الضرب من التأريخ، ولهذا عزف كبار المؤرخين عن تاريخ الزمن الراهن؛ فما خَلَّفه النهج التاريخي الموروث هو حمل التأريخ على النظر السحيق زمنيّاً، والظاهر الذي لا شك فيه، هو افتقار الأمس القريب إلى مثل هذا البعد. لكن هذه الفكرة المتعلقة بانقضاء الوقت وتقادمه على الوقائع، فكرة لم تعد تتماسك في ظل تحولات الاسطوغرافيا، ويكفي ذِكْرُ المناقشات التي صاحبت ذكرى مرور قرنين على ثورة 1789، والتي تزامنت مع سنة انهيار الأنظمة الشيوعية في أوروبا (1989): فقد احتدت يومها المناقشات بين المشاركين حول علاقة الثورة الفرنسية بالإرهاب، وبالأنظمة الشمولية، وقد أَقْحَمَتْ هذه المناقشات الثورة الفرنسية التي بلغت قرنين من “العُمْر”، في قلب الحاضر المباشر، وعاصرت الواقعة الحاضر النابض معاصرة قَلَّ ما حظيت بها واقعة راهنة، وكان للمؤرخ هنري روسو دورا كبيرا في تثوير هذا النقاش.
آراء أخرى
لقد بدأ التاريخ السياسي الحدثي يشهد انتعاشة كبرى منذ ثمانينيات القرن الماضي، بتجدده من الداخل. ومن مظاهر هذه الانتعاشة الكبرى اكتساح التاريخ السياسي مجالات جديدة؛ إذ لم يعد مقتصرا على الظواهر الديبلوماسية والعسكرية، وإنما امتد ليشمل أحداث الساعة، في إطار ما يُعرف بتاريخ الزمن الحاضر؛ إذ لم يعد الحاضر ينتمي لمجالات وسائل الإعلام فقط، بل احتواه أيضا التاريخ الآني، وأصبح فرعا من فروع التاريخ، واعْتُرِفَ به مجالا من مجالات اهتمام المؤرخ، اليوم، رغم حداثة ظهوره.
لقد تعددت مؤسسات تاريخ الزمن الحاضر، فقد أنشأت معاهد كثيرة في العديد من الدول، التي اهتمت بالأبحاث والدراسات المتعلقة بالفترة الراهنة، وقد ساهم هذا الازدهار، في إقحام الحاضر طوعا في مجال التاريخ، من خلال دراسة آخر الأحداث الكبرى، ونذكر على سبيل المثال: المعهد التي تأسس بمدينة ميونيخ الألمانية، سنة 1952، والمعروف باسم معهد التاريخ المعاصر، والذي تخصص في دراسة الثورات ما بعد المرحلة المعاصرة، قبل أن ينتقل إلى الاهتمام بكتابة تاريخ النازية والتوتاليتاريات، وتاريخ الحرب العالمية الثانية. ونذكر أيضا المعهد الوطني لتاريخ حركة التحرير الذي ظهر بمدينة ميلانو سنة 1949؛ غير أنه لم يٌعترف به بشكل قانوني إلا في سنة 1967. وفي بعض الدول الأخرى مثل اسبانيا والأرجنتين أنشأت مؤسسات بهدف دراسة تاريخ الزمن القريب وذاكرته، وبالخصوص الأحداث ذات التأثير الأقوى، وفي الغالب تم التركيز على “آخر كارثة في الزمن”. وبغض النظر عن الاختلافات المفاهيمية بين هذه المؤسسات والمعاهد، فإن الشيء المثير للانتباه، بدون شك، عودة الاهتمام بهذا النوع من التاريخ، الذي عادت له المشروعية، وأصبح معترفا به في الجامعات الغربية.
خصص الكاتب الصحفي والمؤرخ الانجليزي تيموثى جارتن حيزا كبيرا للثورات التي اجتاحت بلدان أوروبا الشرقية بعد انهيار جدار برلين، وذلك في كتابه: “تاريخ الزمن الحاضر”، وهو يُعتبر من الأوائل الذين استخدموا عبارة “التاريخ الآني”، وقد تكرس استخدام مصطلحات مُشابهة أشهرها مصطلح “الزمن الحاضر”؛ فقد قررت الجهات الرسمية في فرنسا أن تمنح حيزا مؤسساتيا للبحث في التاريخ الآني، وذلك بتأسيسها سنة 1978 معهد تاريخ الزمن الحاضر IHTP، الذي ترعرع في أحضان المركز الوطني للبحث التاريخي CNRS ( تأسس سنة 1939) بمساهمة من المؤرخ الشهير بيير نورا، وهو مركز تابع لوزارة البحث الفرنسية، ويضم حاليا عشرة معاهد، وأكثر من عشرين مختبرا، وبذلك يعد أكبر مركز أبحاث في أوربا، غير أنه لم يُدَشَّن بشكل فعلي إلا في العام 1980 مِنْ قِبَلِ فرانسوا بيداريدا، الذي ترأس مجلس إدارته إلى غاية سنة 1990. وقد تعاقب، من بعده، على رئاسة المعهد، بالتتابع: روبرت فرانك، وهنري روسو، وفابريس دالمييدا. واليوم، يُسَيَّرُه، ومنذ 2004، كريستيان إنغارو، وقد أخذ كموضوع رئيسي الحرب العالمية الثانية، وتوجه كذلك إلى تحليل الأحداث الأكثر معاصرة، مثل مرحلة تصفية الاستعمار، والمقاومة، وقد تم الاهتمام بنشر الأبحاث التي ينجزها المعهد، من طرف أشهر دور النشر، وذلك للإقبال الكبير الذي تحظى به هذه الفترة من التاريخ لدى القراء. لقد أُوكِلَ إلى هذا المعهد تأريخ حوادث الأمس القريب المتصل بالحاضر، ويجب التمييز هنا بين التاريخ الحاضر والتاريخ المعاصر؛ فهو يختلفان في التحديد الزمني.
يعتبر معهد تاريخ الزمن الحاضر IHTP وَريثا للجنة تاريخ الحرب العالمية الثانية التي أنشئت في عام 1951، والتي انبثقت بدورها عن لجنة البحث في تاريخ الاحتلال النازي وتحرير فرنسا. وكان قد عُهِدَ إليها، سنة 1944، من طرف الحكومة المؤقتة برئاسة الجنرال دوغول، القيام بالتأريخ لفترة حكومة فيشي والمقاومة في فرنسا المحتلة، ويعتبر هذا المعهد جزءا من عدة هيئات أوروبية أخرى ظهرت إلى الوجود في أعقاب الحرب الثانية، والشيء الذي يجمع بين جميع هذه المؤسسات والمعاهد، المكانة الرئيسة التي يأخذها مفهوم الذاكرة، سواء تعلق الأمر بمخلفات عنف الحروب، مثل الحربين العالميتين، أو حرب الجزائر، أو استعمالات سياسية واجتماعية للماضي؛ فممارسته مرتبطة بالحاضر المعاش، وباجتياح الذاكرة، لوجود الشهود من الأحياء. الشيء الذي يحدد حجم المسؤولية التي يتحملها المؤرخ، ونوع التحديات التي يمكن أن يطرحها عليه تاريخ الزمن الحاضر.
يشتغل المعهد بفرق بحثية متعددة؛ فهو يضم باحثين بالمركز الوطنيCNRS ، بالإضافة إلى أساتذة باحثين متعاونين ينتمون إلى عدد من الجامعات الفرنسية، ويستقبل طلبة دكتوراه، وباحثين من دول أجنبية، ويعمل على موضوعات مختلفة، أهمها: تاريخ الحرب في القرن العشرين، والأنظمة الاستبدادية، والشمولية، والكولونيالية، بالإضافة إلى الاهتمام بالتاريخ الثقافي للمجتمعات الحديثة. ويهدف المعهد إلى إحياء التاريخ الجماعي، من خلال الاهتمام بذاكرة الشعوب بعد سنة 1945، بتناول مختلف الأحداث الكبرى التي ميزت القرن الماضي، سواء داخل أوربا أو خارجها. وقد ساهم هذا المعهد -الذي أصبحت له الشرعية الكاملة في مجال البحث الأكاديمي- مساهمة فعالة في التأريخ للفترة المعاصرة، إذ أُلفت، تحت إشرافه وبمجهوداته، العديد من الأبحاث عن تاريخ الحربين العالميتين، وعن حقبة الاستعمار وما بعدها، وعن تاريخ النظم السياسية الاستبدادية (الفاشية والنازية، والشيوعية).
وبالإضافة إلى معهد تاريخ الزمن الراهن، تهتم مؤسسات فرنسية أكاديمية أخرى بالحقبة المعاصرة؛ فالمؤرخ الجامعي جان فرانسوا سرينيلي، المتخصص في التاريخ السياسي والثقافي لفرنسا في القرن العشرين أسَّسَ سنة 1989 “مجموعة تاريخ الزمن الحاضر(GHTP)، ويرأس –حاليا- مركز تاريخ العلوم السياسية، وهو عضو بارز في معهد باريس للدراسات السياسية، ورئيس اللجنة الفرنسية للعلوم التاريخية. ويشتغل –بمعيته- أساتذة متخصصون في التاريخ المعاصر. وهو يُمَثِّلُ، بكتاباته، تَوجُّها جَديدا في الاسطوغرافيا الجديدة؛ فقد ساهم -بشكل أو بآخر- في إحياء أبحاث التاريخ السياسي؛ حيث ساعدت أعماله على تطوير وتوسيع مجالات البحث التاريخي في الفترة الحالية.
ونضيف أيضا الدور الذي قام به مركز تاريخ الحركة النقابية الذي أسسه بفرنسا سنة 1966 جان ميتران بتشجيع من أرنست لابروس، وقد أضحى هذا المركز ميدانا للبحث في تاريخ الحركات الاجتماعية والنقابية، ثم تحول إلى مركز التاريخ الاجتماعي للقرن العشرين، وقد دخل تجربة الشراكة مع المركز الوطني للبحث العلمي السابق الذكر، يشتغل على عدد من المواضيع المرتبطة بالتحولات الاجتماعية للفترة المعاصرة والراهنة.
وقد عرف المغرب بدوره، وإن بشكل متأخر، اهتماما بتاريخ الزمن الراهن، بالرغم من العوائق التي تواجهه. ولا يمكن بتاتا عقد مقارنة بين توجهات تاريخ الزمن الراهن بأروبا والمغرب، ففي فرنسا كما سبقت الإشارة توجد عشرات المعاهد والمختبرات ومراكز البحث الجماعي التي تشتغل بطريقة منهجية ومستمرة، في حين توجد بالمغرب مسالك بحثية لا غير، وغالبيتها تعيش تعثرات منذ اللحظات الأولى، ولايزال الورش في بداياته لحد اللحظة، ومن المعلوم أن المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان كان قد وَقَّعَ مع جامعة محمد الخامس بالرباط يوم 25 يناير 2010 اتفاقية تعاون تهم إحداث مسلك ماستر “التاريخ الراهن”، وقد التزم المجلس بتوفير الدعم اللازم لهذا التكوين، الذي يندرج في سياق تفعيل توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة المتعلقة بحفظ الذاكرة والتاريخ والأرشيف، وقد هَمَّتْ توصيات هيئة الإنصاف، بالإضافة إلى تأسيس مسلك تاريخ الزمن الراهن، حِفْظَ أرشيفات الهيئة نفسها، وتيسير الولوج إليها بالنسبة للباحثين، كما تعهدت بالمساعدة على تنظيم وتحديث الأرشيف الوطني. وبالفعل، فُتح في وجه الطلبة، لأول مرة، ماستر تاريخ الزَّمن الرَّاهن بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، مع الموسم الجامعي 2010-2011. وقد توخى هذا المسلك تناول الباحثين للقضايا الراهنة دوليا ووطنيا، مَعَ التَّرْكيز على خصوصيات المرحلة الاستعمارية في المغرب، وذاكرة مغرب ما بعد الاستقلال، وقضايا بناء الدولة الوطنية. ويطرح الاهتمام بهذه المرحلة مشاكل متعددة بالنسبة للطلبة، فمن أهم العوائق هناك:
أولا: غياب مؤسسة الأرشيف الوطني بمعناها الحقيقي، حيث لا تتوفر وثائق تتضمن تفاصيل الصراع السياسي الدامي الذي أعقب مرحلة الاستقلال (1956 -1960)، حيث لم يتم الإفراج على ما يمكنه إنارة طريق الباحثين، والمرحلة المذكورة هي المرحلة الأساسية التي تعتبر جزء من الملفات التي تم الاشتغال عليها، وكذلك الأمر بالنسبة لحالات أخرى تنتمي لفترة السبعينيات
ثانيا: وجود أغلب الوثائق المغربية لهذه الحقبة في الدول الأوربية، وبالخصوص في فرنسا وإسبانيا، وصعوبة الوصول إلى ما يتعلق بالملفات الحارقة، فبعض حالات الاختفاء لا يزال الغموض يلفها، ولن يتم كشف الحقيقة أو الاقتراب منها دون الكشف عن هذه الوثائق.
ثالثا: مشكل رفع السرية عن بعض الوثائق المتعلقة بقضايا إشكالية تؤثر في الراهن؛ وهذه تظل أهم معضلة في البحث التاريخي المغربي، فالدولة المغربية لا تكشف -ولن تكشف- عن أرشيف قد يدينها في عدد من الأحداث والوقائع (أحداث الريف 1958- الهيئة الريفية- اغتيال بن بركة، اختفاء حدو أقشيش- تصفية عباس المساعدي،…..الخ)، وعليه فما يتم الإفراج عنه من وثائق هو انتقائي ويوجه الأحداث بطريقة تبتعد دائما عن الحقيقة، وهذه الحقيقة المعقدة والمركبة هي التي أولتها الهيئة عناية خاصة، بيد أنه رغم الجهود، فإن الكثير مما كان يجب أن ينجر لم ينجز.
ولا يقتصر هذا الأمر على المغرب فقط، بل حتى الدول الأوروبية التي ارتكبت جرائم في بعض المناطق تتحفظ عن كشف السرية عن الوثائق بالرغم من مرور الزمن القانوني لرفع اليد عنها، وعلى سبيل المثال فموضوع الغازات السامة المستعملة في حرب الريف مثلا تدخل ضمن هذا الإطار، ونفس الأمر بالنسبة للوثائق المتعلقة بالأحداث التي وقعت بين عامي 1936 و1968 بمنطقة سيدي افني؛ فقد ذكرت جريد الباييس الإسبانية ليوم 12 ماي 2014، أن وزارة الدفاع الإسبانية رفضت مبادرة رفع السرية على 10.000 وثيقة تتضمن معلومات عن الحركة التحررية بمنطقة سيدي إيفني -جنوب المغرب- في خمسينيات القرن الماضي، بحجة أن رفع السرية عنها سيخلق توترا في الساحة الدولية، ومن بين ما تتضمنه تلك الوثائق معلومات عن معسكرات الاعتقال، والخلايا العسكرية التي أنشأها نظام الجنرال فرانكو. وعليه أي تاريخ يمكن أن يكتبه الباحثون في المغرب عن الفترات الحرجة والوثائق الحقيقية ستظل محجوزة بشكل أبدي.
طرحت هيئة الإنصاف والمصالحة التي تأسست في 6 نونبر 2003 موضوع المصالحة مع التاريخ، ودعت إلى إزالة العراقيل التي تحول دون البحث في هذا التاريخ، وأكدت على أهمِّية ترسيخ التواصل بين الأجيال بما يحفظ الذاكرة. وفي هذا الصدد دَعَت الهيئة إلى مراجعة شاملة لحالة الأرشيف العمومي، ونَصَّت على ضرورة تنظيمه في إطار قانوني واضح، وتهيئة الشُّروط الضَّرُورية لإصلاح وضعيته، لكن هذه الدعوى تظل صيحة في واد، فالأرشيف الحقيقي والذي يتضمن تفاصيل الوقائع سيظل دائما في يد السلطة لأسباب أمنية، تتستر على الجزء الأهم وتفرج فقط على جزء معين، مما يجعل “الحقيقة” غير تامة.
لقد ساهمت هيئة الانصاف التي اشتغلت على الفترة الزمنية الممتدة من سنة 1956 إلى نهاية 1999 في إنتاج الأرشيف كمادة هامة بالنسبة لكتابة تاريخ المغرب فيما يتعلق بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، لكن مع ذلك تظل علامات استفهام كبرى تطرح بشأن مدى تخلصنا بعد عقود من سيادة الذاكرة الرسمية التي أقصت الذاكرات الأخرى؛ فهل نجحت هذه الهيئة في إعادة صياغة ذاكرة وطنية تعددية غير انتقائية أو مبنية على الإقصاء، لا أظن أنها نجحت في تحقيق هذا الهدف بالنظر للخطوط الحمراء التي وضعت لها، وبالنظر لطبيعة السلطة.
لا يمكن أن نقتنع بكون جلسات الاستماع التي نَظَّمتها هيئة الانصاف كافية لكي نعتقد بوجود مصالحة حقيقية مع تاريخنا الوطني، ولا يكفي عرض الشهادات الشفوية واعتمادها لاحقا باعتبارها مصدرا من المصادر المعتمدة إلى جانب جزء يسير من الوثائق والسجلات الرسمية التي تم الكشف عنها، إننا نصطدم بعد تجربة المصالحة بغياب تام للسجلات المهمة والوثائق المعتبرة التي من شأنها استجلاء حقيقة الانتهاكات وتوضيح العديد من نقاط الظل في التاريخ الوطني لما بعد الاستقلال.
لا يمكن –من وجهة نظري- إدراج تجربة هيئة الانصاف والمصالحة المغربية في إطار ما هو متعارف عليه اليوم بلجان الحقيقة والمصالحة في عدد من بلدان العالم، والتي تَمَّ إحداثها بغرض تحقيق العدالة الانتقالية وتسوية الآثار المترتبة عن الانتهاكات المرتكبة خلال فترات الجمر، وذلك لأسباب وجيهة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر أن المغرب لم يكشف عن ما يتوفر لديه من الأرشيف، ولا نية له في تحقيق ذلك مستقبلا. ثم إن الدول التي استطاعت تحقيق مصالحة حقيقية مع الماضي هي الدول التي حققت المصالحة التامة في الحاضر، واستطاعت إنجاز توافق سياسي شامل وحققت الانتقال الديموقراطي الحقيقي الذي يعتبر –في نظرنا- المناخ الملائم للحديث عن مصالحة حقيقية لا مصالحة شكلية . ذلك أن المناخ الديموقراطي الذي يمنح الحرية لكل الأطراف ويضمن الحقوق والواجبات للمواطن هو وحده الكفيل بإنجاح تجارب العدالة الانتقالية، لأنه يوفر أهم شرط تفتقده التجربة المغربية، وهو شرط عدم تكرار ما جرى في الماضي، والقطع مع أساليب الاضطهاد والتعسف والمحاكمات الشكلية والمتابعات الانتقامية.
هل أسست توصيات هيئة الإنصاف حقا لالتزامات وتوجهات جديدة تعزز الانفتاح والمناخ الديموقراطي؟ وما هي الآليات التي يمكن بها ضمان عدم تكرار ما حصل في الماضي وخاصة ما يتعلق بالخروقات الماسة بالحقوق الأساسية للمواطن؟ وهل كانت هناك بالفعل إرادة سياسية حقيقية للقطع مع الدولة العميقة ومنطق التعليمات؟
تعرضت تجربة المصالحة بالمغرب لانتقادات متعددة من قِبَلِ العَدِيد من الهيئات والشخصيات، وقد نفصل في هذه النقطة في مقال آخر؛ لكننا نشير هنا إلى الإهمال والإقصاء الذي طال العديد من الملفات والقضايا، والعديد من التوصيات لم تُطبق على أرض الواقع ولم يتم أجرأتها، وهو ما يجعل التجربة شكلية وذات أهداف سياسية بالدرجة الأولى، فقد خدمت أطرافا دون أخرى، كما أن تراجع رصيد المغرب في مجال حقوق الإنسان بعد حدث 16 ماي 2002 كان مخيبا للآمال؛ فالعودة مجددا إلى ممارسة أساليب الاختطاف والتعذيب تطرح أكثر من سؤال بخصوص فكرة التعهد بعدم تكرار ما جرى، والقطع مع أساليب الماضي، ولا يمكن إلا أن نتساءل عن المنطق الذي تم به التعامل مع الحراك الاجتماعي بالريف وما حصل لاحقا في جرادة، وما عاناه المعتقلين ولا يزالون إلى اليوم يواجهون مصيرا شبيها بمصير عدد من ملفات الماضي الأليم، وكلنا نتذكر تسريب لقطات مهينة للمعتقلين (ناصر الزفزافي نموذجا)، وما تم الإفصاح عنه من انتهاكات على لسان معتقلي الحراك دون أن تفتح تحقيقات شفافة ونزيهة. يبدو الأمر وكأنه كيل بمكيالين، فهل انتهينا للأبد من ملف العدالة الانتقالية. وهل مفهوم العدالة والإنصاف والمصالحة ينحصر معناه على ما حصل في السابق، وهل هو ورش انتهى بانتهاء عمل أفراده؟
مما يستغرب له أن تتنكر الدولة المغربية لتوصيات هيئة المصالحة والإنصاف بكل بساطة، فقد ضربت عرض الحائط بكل ما تم إنجازه، ووقفنا فجأة عما يكذب ادعاءات سابقة تتعلق بالرغبة في دعم مشاريع حفظ الذاكرة بالريف على سبيل المثال لا الحصر. فقد قامت الهيأة بمبادرة مهمة اتجاه عائلة محمد بن عبد الكريم الخطابي من أجل استعادة رفاة الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي من القاهرة ليدفن في التربة التي أنجبته والتي سقتها دماء الشهداء الريفيين الذين عضدوه. بل إن الهيئة عبرت عن استعداد الدولة الكامل، كما جاء في مذكرات من تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة، لوضع إمكانياتها ليس فقط لنقل جثمان الأمير، بل إعادة الاعتبار لقيمته التاريخية والرمزية، وذلك بتنظيم جنازة وطنية رسمية تليق ببطل مغربي مقاوم، وبناء متحف قرب ضريحه لتذكير الأجيال بإنجازاته، فلم لم يتم الاستمرار في بذل الجهود لتحقيق هذه الغايات؟ ولم لم يتم إنجاز هذا المتحف الافتراضي؟ ولم افترضنا أن الفكرة تحققت هل ستعرض فيه أعلامه وصوره ومراسلاته التي تمت جميعا باسم الحكومة الريفية؟
يبدو من خلال المسار الذي اتخذته محاكمة رموز حراك مدينة الحسيمة والاتهامات والأحكام الجاهزة التي تم النطق بها في النهاية، درسا بليغا، يؤكد فشل الدولة في أول امتحان لها، بل إن ما حصل يوضح أن هناك من قام بدور العراب سابقا مقدما ضمانات باسم الريف دون أن يكون قد تحقق أي مشروع حقيقي في المنطقة يعبر عن صدق مصالحة ليس لها من الاسم إلا رسمه.
إن موضوع الريف يشكل عقدة حقيقية لأطراف داخل السلطة وداخل مجموعة من الأحزاب السياسية، فهناك من يضيق ضرعا بالعلم الذي اتخذه عبد الكريم رمزا لحكومته إبان الاحتلال الاسباني للمنطقة الشمالية، وإلا بماذا نفسر إدانة من رفع في الحراك الريفي علما ينتمي للثقافة المغربية بدعوى انفصال وهمي؟، هل حمل الأعلام المحلية المرتبطة بماضي مجيد نبجله جميعا يعد جريمة يعاقب عليها القانون؟، كيف اعتمدت النيابة العامة في بياناتها ضد قيادات ومعتقلي حراك الريف مجموعة من الاتهامات، بناء على التحقيقات التي أنجزتها الضابطة القضائية بالدار البيضاء، وهي تتعارض وتوصيات هيئة الإنصاف والمصالحة؟ حيث أشارت العديد من المواقع الإخبارية بناء على تسريبات بعض المحامين، إلى أن أفراد الفرقة الوطنية المشرفة على التحقيق مع المعتقلين ركزت على قضية عدم حمل العلم الوطني كقرينة إدانة وحجة ضد موكليهم، معتبرة ضمنيا أن حمل الأعلام المحلية دليل على الانفصال عن سيادة الوطن، ودعاية من شأنها المس بوحدة المملكة وسيادتها وزعزعة ولاء المواطنين للدولة المغربية ولمؤسسات الشعب المغربي. كما أن ما حدث في المحكمة حين أثيرت قضية صور عبد الكريم الخطابي يطرح علامات استفهام كبرى عما قيل عنها تجربة الإنصاف والمصالحة في الشق المتعلق بالريف.
إن الطريقة التي تم التعامل بها رسميا مع استخدام الأعلام المحلية دليل على مدى سوء الفهم التاريخي المستفحل في صفوف عدد كبير من المغاربة، سواء العامة أو من هم في مراكز القرار والمسؤولية، ويتجلى ذلك في تشجيع السلطة المحلية لتظاهرات مناوئة للحراك في عدد من المدن المغربية، حيث يبدو المشهد سرياليا، وكأنما الأمر يتعلق بعدوان خارجي على الوطن، أو أننا نعيش في ظل عهد الحماية.
إن المزاعم بشأن الانفصال استنادا إلى رفع العلم الريفي لا تصمد أمام التاريخ. كما أن رفع صور الزعيم الخطابي لا تعني أكثر من اعتزاز وفخر بأحد أبرز قادة التحرر الوطني وأشهرهم على الإطلاق، فكيف يمكن أن نصدق استنادا لما حصل أننا فعلا نعيش في مغرب متعدد الهويات والثقافات، ولدينا رموز متعددة نفتخر بها، والدستور يعترف بهذه الخصوصيات الثقافية والتنوع اللغوي، بينما هناك من يشتغل بعقلية إقصائية ضاربا عرض الحائط بتجربة أريد لها أن تبيض وجه السلطة، فمن ينكر أن الرموز والأعلام الهوياتية تدخل ضمن الاختلاف الثقافي والتاريخي، ولا يجرم القانون المغربي الاحتفاء بالرموز المحلية ولا حملها، بل هي جزء من الذاكرة التاريخية للمغاربة جميعا.
مارست الهيئة المغربية مهاما ترتبط بالتقييم، والبحث، والتحري، والاقتراح، فيما يتعلق بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي حصلت في الفترة المذكورة أعلاه، كما استغلت على ملفات الاختفاء القسري، والاعتقال التعسفي، والتعذيب، والاعتداء الجنسي، والاغتراب الاضطراري، والحرمان من الحق في الحياة نتيجة الاستعمال المفرط للقوة العمومية. لكن ماذا بشأن الحاضر؟ وهل ما وقع من انتهاكات في العقد الأخير يعضد آفاق هذه التجربة التي لم تكتمل؟
إلى جانب مُعالجة الهيئة للملفات الفردية، وإصدارها أحكاما محددة فيما يتعلق بالتعويض المادي للضحايا، والإدماج الاجتماعي، والتغطية الصحية، تَمَّ اقتراح مجموعة من التوصيات الأخرى المتعلقة ببرامج جبر الضرر الجماعي، والتي تولى المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان مهمة تتبعها، وقد أعادت هذه التوصيات الأسئلة بخصوص التاريخ الراهن إلى الواجهة؛ فقد اقترحت الهيئة مجموعة من التدابير أهمها:
– الدعوة إلى حفظ الأرشيفات الوطنية، وتنسيق تنظيمها، في أفق تأسيس معهد الأرشيف المُوصى بإحداثه، ليكون مؤسسة وطنية تشرف على الأرشيف في إطار قانوني، وقد تحقق هذا، بيد أن الأرشيف الحقيقي لازال مغمورا في الغياهب المظلمة، وعليه فأي مصداقية إن لم يتم الكشف عن كل الوثائق لتنجلي الحقيقة.
– الاهتمام بالتوثيق والبحث والنشر حول الأحداث التاريخية المتصلة بماضي الانتهاكات الجسيمة وبتطورات قضايا حقوق الإنسان والاصلاح الديموقراطي، وهذا أمر لم نجد له صدى حقيقي، فماذا يمكن أن نكتب عن حقيقة قضية المهدي بنبركة وقضية اختفاء المساعدي، وماذا كُتب عن أحداث الريف 1958، ولماذا تأخر التقرير الذي كان من المفترض أن ينجزه شوقي بنيوب عن هذه الأحداث؟، ولماذا تأخر صدوره كل هذا الوقت؟ نعلم أن هذا التقرير سيصدر قريبا، فهل يمكن أن نعتبره تقريرا موضوعيا أم أنه خضع لرقابة ذاتية؟ وهل يمكن لهذا التقرير أن يدين الأطراف الحقيقية التي تقف وراء الأحداث؟ وماذا بشأن حاضر الريف الذي لايزال يتعرض للإقصاء والحيف والإهمال؟ ألم تكشف أحداث الحراك مدى هشاشة تجربة المصالحة والإنصاف؟ ماذا سيستفيد الريف من تقارير قد تكشف جزءا من حقيقة أحداث الماضي إذا كان تاريخ حاضره ينتهك؟ لا يمكن تحقيق مصالحة مع ماضي منطقة دون تحقيق مصالحة حقيقة مع حاضرها؟
-بلورة مقاربة جديدة لحفظ الذاكرة، تستهدف تحويل بنايات الاعتقال والاحتجاز والتعذيب السابقة كالمعتقل السري تازممارت ومعتقل كرامة وغيرها إلى أماكن لحفظ الذاكرة، باعتبارها شواهد، وذلك في إطار مشاريع جبر الضرر الجماعي. لقد تمَّت عملية إعادة الدفن للهالكين بمقبرتي أكدز وتزممارت، كما أُعِدَّتْ دراسات عن أماكن تعرضت للضرر والتهميش، بهدف النهوض بها، لكنها لم تخضع لمتابعة دقيقة، فظلت حبرا على ورق، وبدل الوقوف على ما تم إنجازه من هذه التوصيات، نجد الغالبية من الباحثين تكتفي بترديد ما ورد في التوصيات وكأنها تحققت على أرض الواقع مما يساهم في تزييف حقيقة مآل النتائج، وبالتالي طرح التساؤل بخصوص مدى نجاح التجربة.
– القيام بمراجعة لبرامج محتوى التاريخ، وتشجيع البحث العلمي المتعلق بالتاريخ الراهن، وبالخصوص التركيز على فترة ما بعد الاستقلال، وهذه التوصية لا نجد لها أي صدى في الواقع الحقيقي، فبرامج المتعلقة ببرنامج التاريخ لاتزال تدور في نفس الحلقة السابقة، إذ لم يشملها أي تغيير، ولا زال الإقصاء حاضرا لكل ما يمثل رواية مضادة للروايات الرسمية.
إن الاهتمام بتاريخ الزمن الحاضر تحدي كبير تفرضه المهمة الجديدة الملقاة على عاتق المؤرخ، لتجاوز أزمة الشك التي تمس اليوم مهنة التاريخ، ينضاف إلى ذلك المكانة الكبيرة التي يحظى بها الماضي القريب، والذاكرة، والشهادة، لدى العموم. وقد ساهم الصعود القوي لوسائل الاعلام والتواصل، في إعادة البريق للراهن، وللشاهد، وللفاعل التاريخي، وللحياة اليومية. لكن، تَطرح كتابة هذا التاريخ مُعضلة بالنسبة للمؤرخين المغاربة، خاصة في الجانب المتعلق بصعوبة الحصول على الوثائق، ولحساسية بعض القضايا، وأخيرا تُطرح قضية الموضوعية التي لا تتحقق في ظل هيمنة رؤية شبة رسمية تتمثل في عدد من المؤسسات التي تعمل حاليا على تزييف الوعي وتكريس المنظور الأحادي، لكونها تمارس الرقابة الذاتية، وتستحضر الخطوط الحمراء أكثر من السابق.