من بين شبابنا من نفْسُه تهفو إلى ما وراء البحر، يبحث عن  قارب نجاة وهو يعلم أنه “قارب موت“، يحرق أوراقه، ينْجذر من وطنه كما تنْجذر الشجرة، يرحل وفي مُقْلته دمعة، لكنه يرحل بلا عودة. في مخياله حياة يخالُها أفضل، وعيش يظنُّه أطيب، وعلاقات يتوسَّمُها أكثر دفئاً. ليس لدي تفهُّمٌ لمواسم الهجرة إلى الشمال، وإن كنتُ أفهم الدوافع والبواعث، وأُقدِّر اليأس الذي نال من بعض الشباب منالاً، بعد أن “رأوا العذاب وتقطَّعت بهم الأسباب“.

وهناك من بين شبابنا مَنْ هجْرتُه إلى الوطن، لا يبغي عنه بديلاً. تنْسدُّ الأبواب في وجهه، فينْشدُّ إلى خيط النور، يشلُّ الإحباط عزيمته، فيستوقد الأمل بوطن فيه زيدٌ وخيرٌ. فتْيةُ حراك الريف من هذه الفئة الثانية. بالتدافع، بالفم وبالفؤاد، أرادوا درء الفساد، ودفع الضيم، ورفع الحيف، لكن مِنْ تظلُّمهم لم يصل شيء. وعندما سعوا إلى الترافع، باقتراح  البدائل، لجلب المصلحة لمنطقتهم الجاثية في “اقتصاد الحرمان“،  بالرغم من المؤهلات الطبيعية، والاقتصادية، والثقافية التي تزخر بها، فإنهم ما جنوا سوى المزيد من سوء الفهم، وضعْفين من العذاب.

في الأيام القليلة الماضية أصدروا بيانا للناس يحمل عنوان “الريف الذي نريد في المغرب الذي نريد“. ها هم مرة أخرى يرسمون، بنفس الإصرار، خريطة الوطن الذي إليه يشكون بثَّهم وحُزْنهم. في البيان رغبة في البناء، ورؤية   للمستقبل، وخطة للنهوض بالريف مندرجة في الدينامية الوطنية التي من المنتظر أن يُطْلقها النموذج التنموي الجديد. في البيان أيضاً سلة برامج، من النوع التصاعدي، من شأنها أن تشكل، في التقائيتها وتكامُليتها مع  المقاربة التنازلية لاستراتيجية “الحسيمة منارة المتوسط“، الشرط الضروري للإقلاع المحلي وللإدماج الوطني (كما سنبين لاحقاً). هؤلاد الفتية، الماضون إلى الوطن، لا ينبغي لمبادرتهم النموذجية هذه أن تذهب أدراج الرياح. بل علينا، بالأحرى، أن نُزْجي التحية للماهدين، و“أن ندع  مائة وردة تتفتَّق، ومائة مدرسة تتنافس“.