الموقفان الصيني والعربي من "ترامب" و"بايدن"
أشرنا في مقال” الدروس المستفادة من حدث إقتحام مبنى الكونغرس…”أن ما يثير الانتباه في الأحداث و السجال الدائر بين “ترامب” و “بايدن” ، والهزيمة السياسية والأخلاقية ل”ترامب” هو الحالة النفسية لأغلب الأنظمة العربية، التي راهنت على الرجل، وعلى قدرته في تغيير المعادلة بداخل الولايات المتحدة الأمريكية، و إندفعوا بجنون في دعم مخططاته على حساب معارضة وإستعداء شعوبهم عبر التطبيع مع إسرائيل ودعم الثورات المضادة لإجهاض الربيع العربي وجعله خريفا تعمه الفوضى…لكن بالمقابل لنرى موقف الصين من “ترامب” ومما حدث في أمريكا منذ الحملة الانتخابية لكلا “المرشحين” إلى حين إعلان النتائج بشكل رسمي وحسم فوز “بايدن”، مرورا بموقف الصين من حدث اقتحام الكونغريس…لذلك هذا المقال سيكون مقارنة بين موقفين، موقف متملق وخانع و مستسلم، وموقف غير مبالي ويتعامل ببرغماتية وتعقل مع الأحداث ، وفق أجندة وطنية تخدم مصلحة الصين وشعبها…
آراء أخرى
أولا- قراءة الموقف الرسمي العربي:
السؤال الذي ينبغي أن يكون موضع تحليل عميق في أغلب البلاد العربية و خاصة البلدان التي لها من مقومات القوة و التأثير (وخاصة الجغرافية و الديموغرافيا)، ما يؤهلها للعب أدوار إقليمية بالغة الأهمية، فهذه البلدان التي إنجرفت وراء “ترامب” وراهنة على نجاحه و استمراره في فترة رئاسية ثانية، وإستمرت في دعمه و المراهنة عليه حتى بعد إعلان نتائج الانتخابات..هذا الموقف يدعونا حقيقة إلى الإقرار بأننا نعيش في “دول الموز” التي يحكمها الفرد الواحد، و أن ما تدعيه هذه البلدان من وجود مؤسسات سياسية، ووزارات وجامعات ومؤسسات بحثية ماهو إلا كلام فارغ، فالبلدان العربية وحكامها لايملكون أي رؤية مستقبلية، اللهم كيف يحافظون على الوضع القائم بمعنى الحفاظ على المناصب والمكاسب..والطامة الكبرى أن هذه البلدان أصبحت تشهد نموا غير مسبوق للمطبيلين ولسحرة فرعون، والمسبحين بحمد الحاكم من باحثين و إعلاميين وأساتذة الجامعات وغيرهم، فهل بلغ الخوف بالناس إلى درجة دعم الباطل و التفنن في تسويقه لعموم الناس…؟ أم أن ما يحدث هو أن من يتصدرون المشهد الإعلامي و ” العلمي” والرسمي” هم من أشباه المتعلمين الذين وصلوا إلى مواقعه بناءا على الولاء والنفاق لا على أساس الكفاءة و الدراية ؟ فبنظرنا، التشخيص الجيد للداء هو نصف العلاج، فعلى الأقل ينبغي أن نوصف واقعنا بموضوعية، و لنعترف أن حكامنا ضعفاء و فاقدين للاستقلالية، و أن لهم دور وظيفي عليهم الالتزام به، ودورهم الفعلي هو ما نراه على أرض الواقع و كفى المؤمنين شر القتال…
فليس هناك مسلم أو عربي أو إنسان عاقل يمكن أن يتحالف مع “ترامب” على طول الخط، فالرجل يفكر بمنطق القراصنة و قطاع الطرق وليس بمنطق الزعماء، فسياساته التي عبر عنها قولا و فعلا تستهدف بالدرجة الأولى العالم العربي والإسلامي، و كلما عبر الحكام العرب عن ضعفهم إلا و زاد من إذلالهم.. ورأينا ذلك بوضوح، فالحاكم الفعلي للبلدان العربية هو “ترامب” وصهره “كوشنر” و تبين ذلك في الأسابيع الماضية و بعد فشله في الانتخابات الرئاسية.. لكن بالمقابل، هذا الرجل العنصري سعى جاهدا لكسب ود روسيا والصين، فهو يخشى قوة و بطش هؤلاء لأن لديهم القدرة على الرد، ورأينا أن هجومه على الصين سرعان ما يتحول إلى ود و مغازلة بمجرد أن تقرر الصين المعاملة بالمثل…
ثانيا – الموقف الصيني من الصراع الحاصل بين “ترامب” و “بايدن”:
يقال أن الشيء يعرف بضده، و لفهم موقف البلدان العربية و تحديدا الأنظمة الحاكمة،ينبغي مقارنته بمواقف وسلوكيات الغير، والصين نموذج فريد للمقارنة، فهي بلد لا تدعي أنها ديمقراطية، فهي خاضعة لحكم الحزب الواحد، و الرئيس الصيني حاكم مطلق، و هنا فالصين تشبه أغلب البلاد العربية في هذا المعطى، لكن وجه الخلاف أن “الديكتاتورية الصينية” تخدم الصين و شعبها، و الحزب الشيوعي يملك رؤية و يعمل على تنفيذها منذ 1949 تاريخ قيام الجمهورية الشعبية الصينية ، بل إن هذا الحزب كانت له القدرة و الجرأة على القيام بنقد ذاتي لسياساته و الاعتراف بأخطائه ، و رأينا ذلك في أواخر سبعينات القرن الماضي ، ومن يريد أن يتوسع أكثر فليرجع إلى مقالات الكاتب …فالصين تحكمها إدارة فعالة لها رؤية على المدى القريب و المتوسط و البعيد ، و النتائج على الأرض تدعم فعالية هذه الإدارة، فالشعب الصيني لم يتخلى عن بعض حرياته المدنية و السياسية خوفا من بطش النظام الحاكم ، بل لأن هناك عقد إجتماعي بين الحزب الشيوعي و عموم الشعب مفاده تجاوز قرن الإذلال، و تحقيق التنمية و إعادة مجد مملكة السماء، و الشعب الصيني له ثقة في حكومته و قيادته لأنها عمليا لم تفرط في حقوق الشعب و المصالح الحيوية الصين..أما في حالة حكامنا العرب فلا ديمقراطية تحققت و لا معدلات تنمية نمت، فمعدلات النمو الوحيدة التي لا تتوقف عن الصعود هي معدل الفساد و تكدس ثروات الأقلية الحاكمة، ومعدل الفقر و تفقير الأغلبية الساحقة…
وبالعودة إلى موقف الصين من الصراع الدائر بين “بايدن” و “ترامب” لابد من التأكيد أن القيادة الصينية تود لو حدث إنشقاق بداخل أمريكا، حتى تنكمش الإدارة الجديدة على ذاتها، وهذا الموقف يمكن إستخلاصه ضمنيا من : أولا، سكوت الحكومة الصينية، عن تقديم “تهاني الفوز” ل “بايدن”..فهي لم تقدم على تهنئة “بايدن” إلا بعد التأكد من فوزه بشكل قطعي.. وثانيا، من متابعة بعض وسائل الإعلام الصينية، التي عملت على وصف ما يحدث في الانتخابات الأمريكية بأنها “مثيرة للانقسام وفوضوية وشابها الشغب”،وقالت وكالة أنباء “شينخوا” “الكثير من وسائل الإعلام والمتابعين يرون أن الانتخابات قد تؤدي إلى فوضى وقلاقل اجتماعية”،أما جريدة “غلوبال تايمز” الحكومية فعنونت صفحتها الرئيسية بالقول إن “التوتر والفوضى يخيمان على الانتخابات الأمريكية”….
لكن مع ذلك، فإن الموقف الرسمي للحكومة الصينية لم يعبر عن تفضيل مرشح دون الأخر، فالموقف الصيني الرسمي رحب بالفائز سواءا كان جمهوري أو ديموقراطي… فالصين عمليا لا يهمها من في البيت الأبيض، فهي تدرك جيدا أنها مستهدفة من قبل الإدارة الأمريكية، و تعمل على أساس خفض حدة التوثر و تأخير المواجهة الحاسمة قدر الإمكان، مع الحرص على تجاوز هذه الفترة العصيبة بأقل الخسائر، ومحاولة التقليل من أثر العدوانية الأمريكية و الغربية، تجاه الصين بإعتبار أن فيروس كورونا إنتشر من أراضيها، خاصة بعد حرص ” ترامب ” على وصف فيروس كورونا ب”الفيروس الصيني” ، وهو ما ألحق أذى بالقوة الناعمة للصين… بالإضافة إلى أن البيئة الدولية في ظل مزاجية و عدوانية “ترامب” وفي زمن ” الكورونا” أصبحت معقدة بشكل متزايد وتشهد مزيدا من عوامل عدم اليقين والتحديات..وهي أمور تضر بمصالح الصين، فالقيادة الصينية تدرك بأنها في حاجة إلى بيئة خارجية مناسبة لتحقيق أهدافها طويلة الأجل حتى عام 2035…
لذلك، فإن الصين إختارت موقف الصمت ولم تعبر عن تفضيلها لمرشح دون الأخر، ف”ترامب” عدو الصين، تحدث في عام 2017 بإستفاضة عن علاقاته الطيبة و الوثيقة بالزعيم الصيني “شي جينبينغ” وكيف أنهما “تناولا معا كعكة شوكولاتة”، لكن منذ ذلك الحين استبدل “ترامب” صداقته مع الرئيس الصيني بعداوة الصين واتهمها بنشر فيروس كورونا، بل حرص على وصفه ب”الفيروس الصيني” ، واتخذ إجراءات قاسية ضدها وتبني خطاب جديد ينذر بإشعال حرب باردة بين البلدين…وقد نجح “ترامب” إلى حد كبير في تغيير الموقف الأمريكي الرسمي والشعبي في مواجهة ثاني أكبر اقتصاد في العالم، و لعل نجاح “ترامب” في حصد هذا العدد الكبير من الأصوات بالرغم من هزيمته راجع إلى قدرته على مواجهة الصين ، والتي تمثل من دون شك تهديدا للهيمنة الأمريكية، وقد تصدت إدارة “ترامب” بقوة لجهود الصين لنشر نفوذها على الصعيد العالمي، وهذا الموقف أكسب “ترامب” شعبية داخلية ودفعت منافسيه إلى الإشادة بمواجهته للصين…
وعلى الرغم من أن “بايدن” لم يوضح بعد ملامح إستراتيجية في التعامل مع الصين، لكن كل المؤشرات تدل على أنه سيواصل النهج المتشدد تجاه بكين، لكن وجه الخلاف سيكون في منهجية التعامل لا في الأهداف ، فعلى عكس أسلوب المواجهة والصدام المباشر الذي إنتهجه “ترامب” ، فإن “بايدن” سيركز على “المنافسة الإستراتيجية” وعلى الاستفادة من حلفاء واشنطن لمحاصرة بكين عبر تقوية العلاقات مع الأعداء التاريخيين للصين ” الهند” و “اليابان” و أيضا محاولة الإستفادة من مخاوف باقي بلدان شرق أسيا من الصعود الصيني …
فما يميز الصين هو أنها تعرف ما تريد و تتحرك وفق خطة و منهج مدروس، و ليس تبعا لمزاجية الحاكم المستبد على منوال ما يحدث في عالمنا العربي ، فالصين عندما تم اقتحام الكونغرس سارعت لاقتناص الفرصة و تسجيل ملاحظة في غاية الأهمية ، و هي بداية لم تدعوا إلى ضبط النفس و السعي نحو تداول السلطة والاعتراف بنتائج الانتخابات على منوال ما فعلت أغلب البلدان ، فموقف الصين اتجه إلى التعبير على أن ما يحدث في أمريكا هو شأن داخلي، بل إنها عملت على مقارنة اقتحام أنصار الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته “دونالد ترامب” لمبنى الكونغرس، بالاحتجاجات المؤيدة للديمقراطية في هونغ كونغ العام الماضي. فقد أشارت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية “هوا تشون ينغ”، في إفادة صحفية يومية، إلى أن “الأحداث في “هونغ كونغ” في 2019 كانت “أشد خطورة” من أحداث واشنطن و بالرغم من ذلك “لم يُقتل متظاهر واحد”،في حين أسفرت أعمال العنف في واشنطن عن مقتل أربعة أشخاص…و قد حرص التلفزيون الحكومي الصيني على تكرار بث مشاهد الفوضى في واشنطن… وقالت “هوا تشون ينغ”: “نتمنى أيضاً أن ينعم شعب الولايات المتحدة بالسلام والاستقرار والأمن في أسرع وقت ممكن”.. وقد نددت “هوا تشون ينغ”، بتصريحات وزير الخارجية الأمريكي “مايك بومبيو” التي قال فيها، إن واشنطن قد تفرض عقوبات على المتورطين في اعتقال ما يزيد عن 50 شخصاً في “هونغ كونغ”، وستُرسل سفيرها لدى الأمم المتحدة لزيارة تايوان.. و تعليقا على ردود الفعل داخل أمريكا و خارجها، على حدث إقتحام الكونغرس قالت “هوا تشون ينغ” “كانت ردود الفعل والتعبيرات التي استخدمها البعض في الولايات المتحدة إزاء ما حدث في هونغ كونغ في 2019 مختلفة تماماً عن (ردود الفعل إزاء) الأحداث الجارية الآن في الولايات المتحدة”.
فمن المؤكد أن العلاقات بين بكين وواشنطن وصلت إلى أسوأ حالاتها منذ عقود بسبب مجموعة من الخلافات التجارية و الجيواستراتيجة، و خاصة تتمدد النفوذ الصيني سياسيا واقتصاديا في جنوب وشرق أسيا خاصة، وفي العديد من بلدان العالم عامة، في مقابل تراجع ملموس للنفوذ و الهيمنة الأمريكية، والصين تدرك أن قضايا من قبيل مسألة حقوق الإنسان و الاحتجاجات الشعبية في “هونغ كونغ” و تعامل السلطات الصينية مع مسلمي الإيغور، هذه القضايا تشكل تهديدا لإستقرار ووحدة الصين ، وهي من ضمن أهم أوراق الضغط التي يتم توظيفها من قبل أمريكا و حلفاءها لفرملة الصعود الصيني، و من المتوقع أن إدارة “بايدن” سوف تتبنى خطاب حقوق الإنسان ودعم التوجه الديمقراطي، المناهض لهيمنة الحزب الشيوعي في “هونغ كونغ” و دعم استقلال “تايوان”..
هذا إلى جانب أن الصين بالرغم من الصعود الظاهر و ملامح القوة النامية للصين إقتصاديا و سياسيا وعسكريا ، إلا أن الصين لازالت غير مستقلة تماما، و لا تملك حرية الحركة الكافية، والسبب أن الاختيارات التي تأسست عليها الاصلاحات الاقتصادية منذ 1978 جعلت الصين ملزمة بإحترام جملة ثوابت دولية، و الحفاظ على استقرار النظام الاقتصادي والمالي والتجاري العالمي، ذلك أن إعتماد الناتج القومي الصیني بنسبة %80على الصادرات يمثل تحذیرا للصین التي یجب أن تنمي بقية قطاعات إقتصادها، وأن تركیز الصین بهذه النسبة الكبیرة على التصدیر يعني فشلها في تنمية قاعدة استهلاكية محلية كبیرة توازي حجم نموها التجاري ، وهذا بدوره يعرض الصین لآثار سلبية كبیرة في حالة تعرض إقتصاد الدول التي تمثل سوقا بالنسبة لها لأي إضطرابات إقتصادية مفاجئة، و هو ما رأيناه مع تفشي الوباء و غلق الحدود و رأيناه أيضا خلال الأزمة المالية العالمية لعام 2008 والأزمة الأسيوية لعام 1997 عندما تم التلاعب بعملات النمور الأسيوية و تفقير هذه البلدان و فرملة صعودها.. فعندما راهنت الصين على الصادرات فهي جعلت الاقتصاد المحلي مرتبط بأسواق التصدير و أي خلل بهذه الأسواق يضر بالتبعية بالاقتصاد الصيني و يدخله في دورة أزمات..و سنحاول توضيح ذلك في مقال منفصل إن شاء الله تعالى… والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لايعلمون …
أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني والشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة..