تأملات في المشهد "الكوروني"
تستدعي منا الأزمة الصحية التي يمر منها العالم حاليا والناجمة عن جائحة كورونا، مجموعة من الملاحظات نعتبرها مساهمة في النقاش الدائر حول واقعنا الآني وتجليات بعض ملامح ما بعد كورونا. ولا يخامرني أدنى شك، كمواطن وباحث متجرد من أية دوافع سياسية أو مصلحية، بأن الجدال العلمي والفكري النابع بخصوص هذه الأزمة، سواء كانت طبيعية أو مصطنعة، سترهن مستقبل أجيال برمتها خصوصا على المستوي الاقتصادي والسياسي، وذلك ما يلزم التنبيه اليه قبل فوات الأوان.
آراء أخرى
لهذا سنحاول تجزئ هذا العرض إلى ثلاث مستويات: المستوي العلمي-الطبي والمستوى السياسي-الاجتماعي تم المستوى الثقافي-الحضاري.
المستوى العلمي-الطبي
لقد ابان فيروس كوفيد 19 المتجدد والمنحدر من سلالة فيروسات كورونا، عن خصوصية سرعة انتشاره وعدم ظهور اعراضه بالضرورة، ومضاعفاته الوخيمة بين كبار السن وذوي الأمراض المزمنة. لذا يؤكد الأطباء والمختصون أمام غياب أي علاج يقيني، على ضرورة الالتزام بالحجر الصحي الذي تباينت مظاهر الانضباط له من بلد لآخر بل ومن منطقة لأخرى في نفس البلد. لكن ما يثير الاهتمام في هذا الشأن هو البحث عن تفسير للتضارب الكبير بين المتخصصين في تحديد طبيعة الوباء وكيفية انتشاره ومدى حدة نتائجه الوخيمة على صحة الانسان.
هناك مقولة ل”باشلار” مفادها أن “ليست هناك حقائق أولى بل هناك فقط أخطاء أولى”، بمعنى ألا وجود لأية حقيقة مطلقة عدا الموت، إذ لا يختلف حوله إثنان مهما تعددت أجناسهم ولغاتهم ومعتقداتهم. فمن الثابت أن القواعد العلمية نفسها، طبقا لنظرية النسبية، لا تنعت بالمطلقة لأن أسس إسدال صفة العلمية عليها هي مسألة منهجية تعتمد التجارب المخبرية ولا تومن بالاعتقادات الغيبية، كما هو شأن الديانات التي تقوم على الإيمان ولا شيء غير الإيمان. نفس القياس تتحدد به القواعد الفلسفية التي ترتكز على سلطة العقل أولا وأخيرا. كل هذا لا يلغي طبعا الإختلاف. وعليه فالإختلاف بين الأطباء والباحثين بخصوص أي اكتشاف يتعلق بالمرض أو الأوبئة أو العلاج، ليس مرده أليا لقصور في المعرفة، بقدر ما يعود إلى اختلاف في التخصص والمناهج. وتاريخ البحوث العلمية يشهد على محنة المبتكرين في شتى المجالات تعود إلى عوامل سوسيوثقافية أكثر منها علمية محضة. لنتذكر أن اللقاح المبتكر من طرف باستور ضد داء الكلب لقي مقاومة شرسة في فرنسا وخارجها على اعتبار أنه مكون من خلايا حيوانية تزرع في جسم الإنسان السليم، فيما طعن فيه رجالات الدين كتدخل في إٍرادة الله. إلا أن ما يحدث اليوم هو انتقال الخلاف الطبي من دائرة الباحثين في البيولوجيا وعلم الأحياء إلى حلبة الصراع الإعلامي، مما سمح لفئة من “الخبراء من غير ذوي الاختصاص” لتنتحل صفة منتجي الرأي والأفكار في المجال.
والغريب في الأمر هو النفخ والتهويل في خطورة هذا الوباء الذي انتهجته بطريقة غير مسبوقة وسائل الاعلام، في حين أن العالم قد عاش أوبئة لا تقل ضراوة وخطورة. إن جردا سريعا لمخلفات بعض الأوبئة قد تفيدنا في إدراك محدودية كوفيد 19 من حيث عدد الوفيات. فقد تسبب خلال القرن الرابع عشر ما سمي بالطاعون الأسود في هلاك خمسين مليون من ساكنة أوربا، ساعد في اتساع رقعته الغزو الاستعماري والحروب الصليبية، علاوة علي توسع شبكة التبادل التجاري والعمران، فيما خلف الجدري ومرض الحصبة في القرن السادس عشر وفاة أكثر من 90 مليون من الساكنة الأصليين في أمريكا الجنوبية. أما الكوليرا التي ميزت القرن التاسع عشر فقد انتشرت في الهند وأروبا وحوض البحر المتوسط، وحصدت ما يناهز أربعين مليون من الأرواح. نفس الشيء حصل في بداية القرن العشرين مع فيروس أنفلونزا الطيور الذي يمتلك قدرة فائقة في تغيير بنية البروتينات التي تنتج باستمرار أجساما مضادة قابلة للتأقلم وإفقاد جهاز المناعة فاعليته. أما السيدا أو فيروس فقدان المناعة المكتسب الذي اكتشف في ثمانينيات القرن الماضي، فقد خلف من الوفيات الإجمالية حوالي 36 مليون نسمة. غير أن خاصية فيروس كورونا يِؤكد عموم الأطباء هو سرعة العدوى وصعوبة معرفتها مما حتم في نظرهم ضرورة تطبيق الحجر الصحي.
وبعيدا عن أي إيحاء لنظرية المؤامرة، فإن هناك عدة احتمالات تطفو من خلال الجدال القائم بين الباحثين والمختصين تؤشر على وجود فريقين: فريق يرى أن فيروس كورونا المتجدد ظاهرة طبيعية نجمت عن تطور فيروس سارس، والثانية تؤكد أنه معدل أو على الأقل لا تلغي تدخل العنصر البشري في بروزه. لكن هذا الصراع العلمي، وفي انتظار ما ستسفر عنه الدراسات الحالية من أجل التحقق الإنساني، يرسم علامات استفهام مشروعة حول مدى ترابط العلمي بالسياسي في ظل النموذج الرأسمالي المشتق من اقتصاد السوق الليبرالي-الراديكالي المهيمن الذي يطمح إلى الكونية عبر فرض نظام أوحد لا يعترف باستقلالية الدول والشعوب. وهذا النموذج للديمقراطية الكونية ينتهي إلي نفي الديمقراطية حسب “ديفيد هيلد” ليحل محلها استبداد الأقلية بالأكثرية والعالم المتقدم بالعالم المتخلف. ولقد كرست إلى حد بعيد في اعتقادي جائحة كورونا هذا المنطق من خلال الحملة المناهضة للبروفيسور الفرنسي المارسيلي “ديديي راوولت” من طرف النخبة “الباريسية”، علما أنه دعا الى اعتماد الكلوروكين الذي أبان عن نجاعته في الحد من انتشار الفيروس الى حين اكتشاف لقاح نهائي عوض إرغام الجميع على الخضوع مرغمين للحجر الصحي، كما أنه لا أحد أتى بالدليل القاطع على أخطار مضاعفاته. وقد كان المغرب من بين الدول الني فطنت مبكرا لخطورة المكوث في غرفة الانتظار، فسارع الى اتباع خطى “البروفيسور راوولت”، بل أكثر من هذا جند آلياته الصناعية لإنتاج الأقنعة الطبية الواقية فجنب البلاد كارثة تفشي الوباء.
المستوي الاجتماعي والسياسي
لقد علمنا التاريخ أن الصدمات البيئية والكوارث الطبيعية لا تمر دون تأثير على البنيات الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية. وإذا كان من السابق لأوانه المسك بكل تداعيات ما بعد جائحة كورونا، فمن الجلي أنها خلقت شرخا في منظومة الاقتصاد الرأسمالي سواء في الدول الديمقراطية أو في غيرها. ولا أدل على ذلك من كون جميع الحكومات، قد توحدت، ولو بدرجات متفاوتة، في اتخاد نفس التدابير الوقائية في مواجهة الوباء، كالحجر الصحي وفرض الأقنعة والتزام التباعد الصحي وإغلاق الحدود… بالمقابل لوحظ انجراف في التدابير الظرفية التي تسمح بها المنظومة الدولية لحقوق الانسان فيما يتعلق بتقييد بعض الحريات إلى ممارسات استبيحت فيها كل أشكال العنف وأحيت الغرائز العنصرية لدى السلطات الأمنية بلغت ذروتها في مدينة “مينابوليس” ولاية مينيسوتا بالولايات الأمريكية باغتيال المواطن دي الأصول الإفريقية “جورج فلويد” خنقا من طرف عناصر الشرطة. ولقد سبق أن عبر “كينيت روت”، المدير التنفيذي لمنظمة هيومن رايت ووتش في ندوة منشورة بمجلة “فورين بوليسي” تحت عنوان “رؤى غربية لمستقبل أنظمة الحكم بعد وباء كورونا”، عن تخوفاته من استغلال الظرفية الحالية من طرف بعض الحكومات لإضفاء طابع الديمومة عليها بغية تجميد كل الانتقادات والانتفاضات المحتملة من طرف الشعب أو المعارضة السياسية. من الملاحظ أيضا أن الحجر الصحي قد اتخذ في معظم الدول طابعا زجريا أكثر منه رضائيا باستثناء جل الدول الأوربية. أما في المغرب ففقد فرضت الحكومة الحجر منذ التاسع عشر من شهر مارس وحددت نهايته في العاشر من يونيو دون إنهاء حالة الطوارئ والرقابة على حرية الأفراد في السفر والتنقل. وبذلك يكون المغاربة حسب بعض المحللين قد قضوا ما يقارب ثلاثة أشهر تحت الحجر، متجاوزين بذلك حتى الدول التي كانت فيها مضاعفات الوباء أكثر انتشارا وأشد خطورة كإيطاليا وفرنسا واسبانيا والولايات المتحدة الأمريكية. أكثر من هذا فحسب تحقيق أنجــزته المندوبيــة الســامية للتخطيــط في الفــترة الممتــدة مــن 14 إلى 23 أبريل 2020 لـدى عينــة تمثيليــة مكونــة مــن 2350 أسرة تنتمــي لمختلــف الطبقــات الاجتماعية والاقتصاديــة للســكان المغاربــة حســـب الإقامــة (حــضري وقــروي)، فإن %34 من العائلات المغربية تقيدت بالحجر الذاتي حتى قبل تطبيق حالة الطوارئ الصحية، فيما التحقت بها % 54 بعد دخوله حيز التنفيذ و%11 منـذ صدور مرسوم القانـون المتعلـق بــسن أحـكام خاصة بحالة الطوارئ الصحية.
ويبذو أن هذه الاستراتيجية الاستباقية التي نوهت بها العديد من الدول، كانت ضرورية وطبيعية أمام هشاشة الهياكل الاستشفائية وانعدام البنية الصحية فيما يخص الطاقم الطبي (هناك فقط 92000 طبيب في القطاع العام أي ما يعادل 2,3% مقابل 10000 ساكنة) والأسرة الكافية لاحتواء عدد المصابين والمرضى (هناك فقط 1800 سرير للإنعاش في مجموع التراب الوطني).
كل هذا يؤشر على أنه رغم أهمية بعض التدابير الإيجابية المتخذة على مستوى هرم السلطة، فإن ما ساهم بشكل كبير في تنزيلها هو روح التضامن والتكافل اللذان يشكلان رافدين متلازمين في تقاليد الشعب المغربي، إد أن ظـروف الحجر الصعبة أمام تدني المستوي المعيشي وضعف الوعي الجماعي لدى أغلبية المحجورين، لا تستبعد ردود الفعل الغاضبة والمتمردة في أسوا الأحوال.
المستوي الثقافي والحضاري
سيسدل الستار على هذا الوباء لأن الطبيعة لا تعرف الجمود وسوف يلح علينا السؤال الذي ما فتئ يتردد على لسان العديد من المفكرين ورجال السياسة: وماذا بعد كورونا؟ لكن لو نظرنا إلى الأمور بمنظار الطامحين للتغيير، سيجد حتما مشروعيته اعتبارا لكونه، وعلى خلاف باقي الأوبئة، قد كسر العديد من المسلمات واليقينيات حول صلابة النظام الاقتصادي المهيمن وذلك لعدة عوامل:
– العامل الأول كونه ترافق مع العولمة التي سمحت بتنقله عبر بقاع العالم مستمدة قوته من سلاسة تنقل الأموال والبضائع بفضل سهولة الولوج إلى الوسائط التواصلية الرقمية. فخلال بضعة أسابيع تجسد الفيروس في هيئة محارب بيولوجي لا يعترف بالحدود الجغرافية ولا بالتمايز الطبقي أو العرقي أو اللغوي. ولا جدال في أن هذه الوسائط وأمام فقر المعرفة العلمية بالوباء قد لعبت دورا كبيرا في تملك ونشر المعلومة وتحوير مضامينها وفق رغبة مستعمليها اليقينية. لكن من فرط حماسها لم تعد تميز بين الخبر والتعليق، لا فرق في ذلك أحيانا بين القنوات العمومية أو القنوات الخاصة لأهداف سياسية أو تجارية، فتغلغل سوء الفهم وانتصر الجشع والتمويه على حساب المعرفة، فاحتلت الأخبار الزائفة الساعية إلى الرفع من وثيرة المشاهدة الحيز الأكبر في شبكة برامجها. فكان ذلك من أسباب التهويل والتخويف الذي عم الساكنة في أرجاء العالم…وتتجلى إحدى أبرز مخلفات هذا التوجه صعود الشعبوية والعنصرية في الغرب وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية التي أذكى زنادها سوء تدبير الجائحة من لدن رئيسها.
-العامل الثاني يتجلى في سقوط منطق الأحادية القطبية وتهاوي النظريات الفلسفية حول نهاية التاريخ، ذلك أن فرضية صراع الحضارات التي نالت حظا وافرا من الاهتمام منذ صدور كتاب “صامويل هنتنغتون”، ودون الغوص في ثناياها النظرية، لم تصمد كثيرا بدورها لأن نواتها تأسست على التعارض المطلق بين الثقافة والدين، وبالأخص الإسلام، جاعلة منه العقبة الكأداء أمام تطور العلوم وتحقيق أصول العولمة الهادفة الى خلق “الانسان الكوني” ، المتجرد من أي انتماء عرقي أو ديني أو قومي أو لغوي… وهي فكرة طالما روجها وأفصح عنها عدد من المفكرين على غرار “[رنست رينان” الذي قال في معرض سجاله مع جمال الدين الأفغاني بأن “ما يميز المسلم في جوهره هو الحقد على العلم، وايمانه بان البحث عديم الجدوى وباطل ويكاد يكون كفرا لأنه منافسة للإله”
واليوم بعد مضي عشرين سنة على أطروحة “هنتنغتون”، فقد أكدت جائحة كورونا محدودية هذا الطرح الذي لم يميز كثيرا بين التفافة والحضارة وانشغل بحاضر الأخر في تجاهل تام للبيئة والتاريخ. لقد كشفت عن المستور في شعار العولمة وأنها لم تعد سوى محاولة للتوسيع دائرة القيم الثقافية الأمريكية، مستفيدة من جميع وأحدث وتساءل الاتصال والاعلام كالأنترنيت، لتوطيد دعائم ريادتها في العالم. ولا أدل على هذا من توجيه رحى صراعها التقليدي ضد العدو الإسلامي نحو عدو جديد يحلق في الأفق: الصين المنافس الأول حاليا على زعامة العالم. فمع الإعلان عن بداية كوفيد 19 في يوهان، تدفق سيل من الاتهامات المتبادلة بين البلدين عن مسؤولية انتشار الفيروس، في حين تمت الإشادة بتضحية الأطباء المسلمين الأربعة الذين كانوا أول ضحايا الفيروس في بريطانيا، فاستبدل خطاب “محور الشر” الذي كان ساريا على لسان “جورج بوش” بمقولة “الفيروس الصيني” عند “ترامب”، في وصف مباشر لها بحجب حقيقة الوباء، ومتهما في ذات الوقت المنظمات والمؤسسات المرتبطة بهيأة الأمم المتحدة، وعلى رأسها المنظمة العالمية للصحة بالتواطؤ، مما دفع الرئيس الأمريكي ترامب إلى حجب نصيب الولايات المتحدة من دعمها المادي للمنظمة.
-العامل الثالث يكمن في إعادة الاعتبار لسلطة العلم والمعرفة بدل هيمنة الإيديولوجية المتطرفة. بالطبع ليس غرضنا هنا استرجاع كل ما كتب حول التطور التاريخي للصراع الجدلي الذي عرفته حركة التنوير تحت تأثير موجة العقلانية في أوربا خلال القرنين الثامن والتاسع عشر والذي أفضي إلى سيطرة العلم في تفسير الظواهر الطبيعية ودراسة مسببات تغيرها بهدف تحقيق تقدم الحرية الفردية أو “العقل الذاتي” كما يسميه روادها خصوصا ديكارت وفخته وهيغل…. غير أن هذا التيار المنبثق عن إرادة حقيقية في إشاعة النزعة التنويرية في العلاقات المجتمعية، ما لبث أن اصطدم بواقع سيأسى حول التنوير إلى أداة للسيطرة والاستبداد على الطبيعة والانسان عن طريق البيروقراطية الإدارية والمؤسسات السياسية التي دأبت على تنميط الثقافة السائدة على صعيد الإعلام والتكوين. فانتفت فكرة استقلالية الفرد لفائدة النزعة الشمولية والرأسمالية المتوحشة التي شكلت النازية ذروة تجلياتها.
اما في العالم العربي والإسلامي المطبوع بسيطرة الديني على السياسي فإن الطابع العدائي للاستعمار الغربي زاد من حدة التصاقه بالموروث الديني خاصة وقد وظفته النخبة المثقفة سلاحا في معركة الاستقلال. الأمر الذي أسهم من الجانب الأخر في كبح كل جنوح نحو التغيير بدعوى التغريب والمس بالشريعة الإسلامية. وهكذا شهدت مصر أولى خطوات الانتكاسات الفكرية والعلمية عند نهاية القرن التاسع عشر بعد إبادة الحركات الإصلاحية ونشأة حركة الإخوان المسلمين، بعد إقامة جمهورية أتاتورك العلمانية في تركيا. والأدهى أن الزعامات الحاكمة وجدت في معركتها ضد هذه الجماعة ذريعة لبسط الاستبداد والديكتاتورية حتى بعد نهاية الاحتلال. أما الانتكاسة الأعظم فقد تجلت في بروز الإسلام السياسي عند متم العقد السابع من القرن العشرين حيث دخل العالم الإسلامي منذئذ في طور الإرهاب وفوضي الفتاوى والتي كان من نتائجها انتشار الفكر الوهابي التكفيري واحتكار فهم النصوص الدينية من طرف جماعات نصبت نفسها وصية على الفرد والمجتمع. لّذا صار كل طارئ طبيعي على مجرى الحياة عنوانا لغضب إلهي وعلامة من علامات الساعة. لنتذكر محاولة جماعة إسلامية الركوب على قرار السلطة المغربية بغلق المساجد والتزام التباعد الصحي بتجمعات ومسيرات جماهيرية منددة بالقرار ومستنكرة وجود الوباء تجوب شوارع مدينة طنجة. ولا شك أننا نقف هنا عند عتبة الجهل والدوغمائية الهوجاء الراكضة وراء كل حدث مهما قل شأنه لتحقيق الوجود. وكيفما كان الحال فمن حسنات هذا الوباء كونه جعل الإنسان محور العالم عوض الاقتصاد، وأعاذ إلى الأذهان أنه بالعلم والتعليم تسمو الشعوب وترقى الدول. ألم يكن هذا مخططا في برنامج التربية والتكوين الذي أفشلته الانتهازية السياسية والفكرية؟
إن الحداثة في جميع الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية تشترط تحييد الحياة الفردية والجماعية من كل القيود التي تلجم حرية الناس في التفكير والإبداع.
لا يعني هذا القول تجريد الإنسان من إيمانه ومعتقداته، لكن وجب علينا جميعا استخلاص الدرس من هذا الوباء، لا أن نتيه وراء الهوس بالنزعة الإيديولوجية الضيقة التي يجد أصحابها فيها دوما ملجأ لتبرير انتكاستهم الفكرية وقصور رؤياهم المستقبلية…
دكتور العلوم السياسية،وأستاذ التعليم العالي بجامعة الحسن الثاني عين الشق الدار البيضاء.