نجد هذا الحكم في كافة الأديان، غير أن معناه يختلف باختلاف التأويل الذي يقدمه المتدينون له. وهناك بصفة عامة تأويلان إثنان: تأويل يعتبر الأمراض والأوبئة عقابا إلهيا ينزله الله على الناس مباشرة، مثلما تنزل السلطة السياسية العقاب على المخالف بشكل مباشر؛ وهذا في الواقع ليس تأويلا بل هو تفسير، لأن الطابع الحرفي والمباشر فيه يتعارض مع التأويل باعتباره منهجية تتعامل مع المنطوق بكيفية رمزية وإيحائية. في مقابل هذا “التأويل” الحرفي هناك تأويل ثانٍ يعتبر أن الأوبئة عقاباً إلهيّاً غيرُ مباشرٍ يَحُلُّ بالناس إذا ما خرقوا النواميس أو القوانين التي وضعها الله للعالم، تنظم حركته.

ينطلق “التأويل” الأول من تصور تدخلي لله، في حين ينطلق التأويل الثاني من تصوري انسحابي، أو تفويضي لله. فبموجب “التأويل” الأول فالله يتدخل مباشرة في الكون، يحرك هذه الشجرة، ويسقط ذاك الغيث، ويسلط الضفادع والقُمّلَ على هذا العاصي، ويتفضل بالمن والسلوى على تلك المرأة المطيعة…إلخ. وبمقتضى التأويل الثاني، فالأمر غير ذلك. فالله وضع للكون نواميسَ أو قوانينَ، ثم “فوّض” لها أمر تسييره. فكل من “أطاع” قوانين الطبيعة نال الثواب على شكل خيراتٍ وعافية، ومن عصاها مسته الأمراض والأوبئة ولحقته مصائب التلوث البيئي.

الغريب هو أن التأويل الثاني، حيث الله يضع النواميس ويتركها تسير الكون، موجود لدى الفلاسفة الذين يخصصون مساحة لله في مذاهبهم الفلسفية. فمنهم من جعل الله علة أولى، لأنه لما بحث عن علة الأشياء وجد نفسه يعود من علة إلى علة سابقة عليها، وتبين له أن سلسلة العلل لا بد أن تنهي عند علة لا علة لها، فرأى أن هذه العلة الأولى هي الله. إنه المحرك الأول الذي لا يتحرك. فبعدما وفر للعالم، بوجوده هو، العلة التي سـ”تخلق” سلسلة العلل الأخرى، انسحب من التدخل المباشر في العالم وتوقف عن الحركة، وترك العالم يتحرك من خلال العلل التي كان هو علتها الأولى. هكذا تكلم أرسطو، أو تقريباً.

إذا كان التأويل الثاني، الذي ينص على أن الله يتدخل بشكلٍ غير مباشرٍ في العالم، من خلال “التفويض” الذي منحه للعلل التي وضع علتها الأولى وتوقف عن التدخل المباشر في العالم، يوجد عند الفلاسفة فهو غير موجود عند العلماء؛ لا لأن العلماء لا يؤمنون بفكرة الله، ففيهم من المؤمنين مثلما فيهم غير ذلك، بل لأن العقل العلمي لا يطرح سؤال الأصل أصلا. فسؤال الأصل، في طبيعته، سؤال ميتافيزيقي بشكل عام، وسؤال ديني وفلسفي بشكل خاص.

إن السؤال الذي يطرحه العالم يختلف عن السؤال الديني والفلسفي. إنه سؤال لا يستحضر الفاعل الإلهي، بل يستحضر الفاعل الطبيعي. وهنا قد نجد العالم يعتبر أن الوباء هو “عقاب طبيعي” على فعل “غير طبيعي” يتمثل، مثلا، في التدخل في الطبيعة بكيفية تتعارض مع “طبيعتها” كأن نجعل الحيوانات العاشبة تتغذى باللحوم. في جواب العام هنا تحضر بنية الجواب الديني والجواب الفلسفي؛ تحضر على مستوى الشكل، وليس على مستوى المضمون. فالمتدين والفيلسوف والعالم، كلهم هنا يعتبرون الاختلالات الطبيعية الكبرى، مثل الأوبئة والتلوث البيئي، “عقوبات”. لكنهم يختلفون في تحديد صاحب العقوبة. فالفاعل هو الله عند المتدين، وهو الطبيعة صاحبة “التدبير المفوض” عند الفيلسوف، وهو الطبيعة “صاحبة السيادة” على العالم.

ومع ذلك فهناك اختلاف أساسي يتميز به العالم عن المتدين وعن الفيلسوف: حينما يطرح العالم سؤال المسؤولية عن الأوبئة وعن الكوارث الطبيعية، لا يطرحها وهو عالم يشتغل داخل المختبر لفهم الظواهر الطبيعية، بل يطرحها وهو خارج مختبره يمارس النضال البيئي، أو الضغط السياسي، أو الاستثمار الاقتصادي، أو يمارس “الأخلاقيات العلمية”. تجتمع في ذات العالم ذاتان اثنتان، الذات الإبستمولوجية، والذات الأنثربولوجية. فمبوجب الذات الإبستمولوجية يمارس العالم بحثه العلمي داخل المختبر، وبموجب الذات الأنثربولوجية يمارس العالم “قناعاته”. لهذا، فالعالم يتميز عن عالم الدين وعن الفيلسوف بالمعرفة العلمية المحصل عليها داخل المختبر. وهنا على “الرأي” و” القناعة” الالتزام بالصمت، والإنصات لما يقوله العالم الباحث. بل على العالم نفسه أن يأمر ذاته الأنثربولوجية بالصمت أمام ذاته الإبستمولوجية. لماذا؟ إن الذات الأنثربولوجية تجعلنا ننخرط في التصور الإغريقي القديم للعلم الذي ينطلق من السؤال “لماذا؟”.

والجواب على سؤال “لماذا؟” يكون بالبحث عن العلة، والاعتماد على مقاربة “التفسير”. أما الإنصات للذات الإبستمولوجية، ولصوت المختبر، فهو يجعلنا ننخرط في التصور العلمي الجديد الذي بدأ في الأزمنة الحديثة مع غاليلي ونيوتن. إنه نموذج ينطلق من السؤال “كيف؟”. والجواب على هذا السؤال يكون من خلال البحث عن القوانين. والبحث عن القوانين يكون من خلال مقاربة تعتمد الوصف.
-3-
في لحظات الغمة، ومع هجوم الوباء، يجب إعطاء الكلمة للعالم لتشخيص الداء وتحديد الواجب فعله. وعلى عالم الدين والفيلسوف، والذات الأنثربولوجية للعالم نفسه أن ينصتوا ويسيروا خلف العالم، فيما على السياسي أن يعمل على تنفيذ توجيهات العالم اعتماداً على سلطة القانون، وهي سلطة حصرية للسياسي، وعلى سلطة التربية والتوجيه، وهي حصرية له أيضا، لكن يمكنه إشراك عالم الدين والفيلسوف والمربي والإعلامي.

خلاصة القول هي أنه في زمن الوباء يجب أن يتوقف كل تساؤل عن تحديد الفاعل المسؤول عن الوباء. هذا ترف لا تسمح به كورونا. بعد انقشاع الغمة يمكن لكل أن يعلن في “الأغورا” رأيه، لكن وفق الشروط العلمية للحوار، وتحت رقابة السياسي الذي من مهامه الحفاظ على الأمن والنظام العامين، بكل ما لهاتين الكلمتين من معاني.