كان المتتبعون للشأن السياسي والثقافي في المغرب خلال الأسبوعين الأولين من يناير الجاري على موعد مع اسمين غابا نسبيا عن الساحة أو عن واجهتيها الإعلامية والأكادمية بالخصوص. ففي ثاني يناير شارك محمد الساسي الأستاد الجامعي والسياسي اليساري في ندوة حول النقاش العمومي وحققت مداخلته انتشارا إعلاميا واسعا عبر الإعلام الالكتروني وحتى في الصحافة الورقية.

وفي ثامن من يناير افتتح كرسي عبد الله العروي للترجمة والتأويل بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط وألقى المفكر المغربي محاضرة استقطبت جمهورا  ضاقت به جنبات مدرج ابن خلدون و حظيت باهتمام كبير في وسائل الإعلام التقليدي منه والإكتروني وعلى مواقع التواصل الاجتماعي ، نشرا وتحليلا وتعليقا.

إن هذا الإقبال الملفت على ماقاله الاستاذ محمد الساسي ثم المفكر عبد الله العروي يجد أساسه أولا في قيمة الرجلين وقيمة تحليلاتهما كل في المجال الذي تحدث فيه غير أن لهذا الإقبال أيضا سبب أخرى يستحق التوقف عندها لأنه يكشف عن طبيعة السياق السياسي والأكاديمي الراهن.

لم يعبر الساسي عن جديد يمكن أن يدل على تغيير في قناعاته ومواقفه، فالرجل الذي يعد منتوجا للسياسة والجامعة في الوقت ذاته، وهي فصيلة نادرة جدا من السياسيين ومن الجامعيين حاليا، (الرجل)  التزم في مداخلته ب” الوفاء” لكل ما ورد في “تفاصيل سياسية ” الكتيب الصغير حجما والجريء موقفا وتحليلا والذي صدر في نهاية تسعينيات القرن الماضي.

لكن محمد الساسي تحدث بلغة وخطاب كادا يختفيان تماما في وسط ساد فيه خطاب سياسي أوعن السياسية، نمطي وبقاموس مكرور وبسقف يلامس الأرض أو يكاد. فالخطاب السياسي السائد حاليا عند أغلب المتصدرين للواجهة قد يتعرض لبعض السياسيين لكنه لا يناقش السياسات والتي تبدو بالتالي وكأنها موضع إجماع حتى في تفاصيلها وفي كل المجالات تقريبا.

في وسط يسود فيه هدا النوع من الخطاب السياسي  كان من الطبيعي أن  تجد محاضرة أو مداخلة لمحمد الساسي هذا الصدى الواسع نسبيا ،  فالساسي تحدث في السياسة وفي جوهرالسياسة ولم يختر ، كجامعي أيضا، الاختباء وراء التحليلات التقنية والتي تبدو اليوم أفضل الموجود وعملة نادرة على مستوى المنتوج الأكاديمي المرتبط بالسياسة .

فالسائد في هذا الوسط (الأكاديمي) أو على الأقل في امتداده الإعلامي هو خطاب يكاد  يكون” احتفاليا” بدون جرأة ولا يتجاوز سقف “الوظيفة” أو “الطلب المناسبتي” إلا فيما ندر .

في ظل هذا الواقع  كان لا بد أيضا أن تحظى محاضرة لمفكر كعبد الله العروي بهذا الإقبال في الجامعة وخارجها مع أن المفكر المغربي وإن تحدث في محاضرته انطلاقا من مداخل متعددة ومتنوعة فإنها في المجمل تعد استمرارا لتأملات تتوج مسارا فكريا وبحثيا طويلا وغنيا، أي أن المفكر عبد الله العروي في كل ما قاله كان يستعيد أو بالأحرى يتأمل بشكل مباشر وأكثر ملامسة للواقع، خلاصات أعماله الأكاديمية.

فالمحاضرة كانت بالخصوص بمثابة امتداد لإصدارته الأخيرة والتي استغنى فيها عن الثقل الأكاديمي لينطلق في سماء التأمل الفسلفي أو الفكري والذي أثمر في حالة المفكر المغربي كثيرا من الأسئلة وقليلا من الأجوبة.

في المحصلة قد لا تشكل مداخلة محمد الساسي نقطة فارقة في مسار السياسي والأستاذ الجامعي ، كما أن محاضرة المفكر عبد الله العروي وعلى أهميتها لا تمثل بالتأكيد إضافة كبيرة قياسا بمشروعه الفكري، لكن كل منهما مازال يمثل نموذجا نادرا ومطلوبا في السياسة وفي الفكر والبحث الأكاديمي .

إن هذا الاقبال على هذين الاسمين يؤكد أن أحد الأدوار الرئيسية التي ينتظرها المجتمع من الوسط الأكاديمي هو إعطاء عمق علمي لقضايا تشكل، حتى وإن لم يستشعر المواطن ذلك بشكل مباشر ، جوهر المشاكل التي تعترضه عند  سعيه لبناء غد أفضل أو في تعاطيه مع أوضاع مستجدة .

كما أن هذا الإقبال يؤكد أن الدور المنتظر من السياسي مجتمعيا هو أن يتسلح بالجرأة الكافية لينقل النقاش العمومي إلى مربعات  متقدمة  طرحا وقاموسا دون استعلاء على المجتمع الذي يخاطبه مع الاستعداد الدائم للانصياع عمليا(وليس موقفا) لاختيارات الأغلبية.