الأفكار الخاطئة تعمر طويلا كما يقول المثل الفرنسي، وهي تتحدى بإصرار عجيب قواعد العقل والمنطق وتتجاوز في أحايين كثيرة حدود الزمان والمكان.

يطلق علماء الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي على هذه الظاهرة تسمية ″التمثلات الاجتماعية″. وتعود الأبحاث الرائدة في هذا المجال إلى ستينيات القرن الماضي وبالضبط إلى عالم النفس الاجتماعي الفرنسي من أصول رومانيةSerge Moscovici  – راجع بهذا الخصوص كتاب Les représentations sociales, Christine Bonardi, Nicolas Roussiau, Ed. Dunod, 1999.

هذه الأفكار الخاطئة من الناحية العلمية ليست خاطئة من الناحية الاجتماعية والنفسية لأنها نوع من ″المعرفة الذاتية″ Connaissance immanente – ص.10 من المرجع أعلاه- للأفراد والجماعات تراكمت عبر الزمن وتأثرت بالثقافة والعادات والمعتقدات…تقوم بثلاث وظائف رئيسية هي التواصل وفهم الواقع في أفق التحكم فيه.

بمعنى آخر، فكلما اشتدت تعقيدات الواقع اليومي إلا وانتشرت التمثلات الاجتماعية حول هذه التعقيدات بغية فهمها والتواصل حولها استعدادا لعملية الاستيعاب الضرورية لكل موقف أو تحرك.

وقد مكنت الأبحاث العديدة في الموضوع من تفكيك بنية هذه التمثلات الاجتماعية إلى عنصرين

أساسيين :

1 – النواة المركزية : وهو العنصر الرئيسي الموحد لجميع الأفكار الفردية أو الجماعية حول مشكل ما كالهجرة أو التمييز العنصري أو العنف…

2 – المكونات الهامشية التي تعزز من مصداقية النواة المركزية انطلاقا من التجارب الميدانية كالعلاقة مع الأجانب مثلا ودورها في تكريس الصورة النمطية عنهم.

باختصار فهذه التمثلات عبارة عن بنية ذهنية ونفسية شديدة الصلابة والاستقرار تجاه مشكل أو موضوع ما ليس من السهولة تغييرها.

وبالعودة إلى عنوان المقالة والسؤال لماذا يٌحتقر مستشارو التوجيه بالمغرب، فمن الضروري تقديم بعض الملاحظات حول التمثلات الاجتماعية السائدة بخصوص العمل والوظيفة العمومية تحديدا :

1 – الصورة النمطية لدى غالبية المغاربة حول موظفي الدولة هي مجموعة من الأفراد يغدون إلى مقرات عملهم ويروحون منها يوميا باستثناء أيام العطل الأسبوعية أو غيرها.

2 – هذا الحضور اليومي يترتب عليه عدد من الساعات يقضيها الموظف في مقر عمله قد تصل في بعض الإدارات إلى ثمان ساعات من العمل اليومي أو أكثر.

3 – كلما كان الموظف حاضرا وعدد الساعات التي يقضيها في الإدارة كبيرا كلما كان له صيت حسن عند زملائه أولا وعند المرتفقين ثانيا.

أي أن المعيار الأول في تقييم الموظفين هو في الجانب الكمي فقط أما الجانب النوعي المتعلق بالكيف فليس من السهل الإحاطة به لأنه من أسرار المهنة وبالتالي فالأغلبية تتجنب الخوض فيه.

4 – الجانب الديني حاضر بقوة لدى الموظفين وغيرهم في تقييم العمل حسب القاعدة التالية :

″أنا أشتغل في كل وقت وحين إذن أنا أطيب مطعمي ومشربي″

والقاعدة العكسية هي كالتالي :

″أنا موظف شبح إذا أنا آكل السحت والحرام″

5 – العلاقة مع وقت الفراغ تتأرجح لدى الغالبية من الناس ما بين الرغبة والرهبة. الرغبة في الراحة والرهبة من تكاليف هذه الراحة المادية والنفسية. وهنا تحضر بالذات الصورة الاستهلاكية للوقت التي كرستها الآلة الدعائية الأمريكية لدى الكثيرين، لكنها في تنافر مستمر مع العادات والتقاليد والثقافة التي تشربناها منذ الصغر.

أي انه لشيء جميل أن تكون بلا شغل لكي تسافر وتستمتع بالحياة لكن ذلك من نواقص المروءة ومن ″الحشوما″ أو الطابوهات.

والحل : لنتظاهر كلنا بالعمل ولو كنا لا نعمل !

هذه الملاحظات تشكل النواة المركزية للتمثلات الاجتماعية حول مستشاري التوجيه الذين يتميزون عما سواهم من الموظفين بتدخلاتهم النوعية في الزمان والمكان كما أشرنا إلى ذلك في مقالات عديدة، لكن وبما أن هذا الجانب يستعصى على الفهم فالتمثل الرائج حولهم هو لقب ″الموظفين الأشباح″.

أن يكون هذا التمثل السلبي رائجا لدى الإنسان العادي شيء يمكن تفهمه، لكن أن يسود هذا الاعتقاد لدى باقي موظفي وزارة التربية الوطنية على الخصوص فهذا ما لا يجب القبول به.

وأما أن يصدر عن أطر التوجيه التربوي أنفسهم فتلك هي الطامة الكبرى لأنه لا يعني إلا شيئا واحدا ووحيدا :

يجب إعادة توجيه أطر التوجيه التربوي!!

والى مهنة أخرى غير مهنة الاستشارة والتوجيه !

يبقى معطى أخير بالغ الأهمية وهو أن تدخلات مستشاري التوجيه تتقاطع إلى حد بعيد مع تدخلات المفتشين التربويين مع فارق بسيط وهو أن الأولى تستهدف التلميذ والثانية تستهدف أستاذ هذا التلميذ.

لكن وبما أن المفتشين التربويين لهم سلطة تنقيط وتقييم وتقويم باقي الأطر الإدارية والتربوية فلا أحد يجرؤ على الاقتراب منهم بله احتقارهم. ولا ننس ما لكلمة ″مفتش″ من وقع على أذهان الكثيرين موظفين كانوا أم أناسا عاديين في مجتمع تربى على القهر والاستبداد.

ختاما، إذا استحضرنا التقارير الدولية حول الإدارة المغربية والمراتب الأخيرة التي نتبوؤها جاز لنا أن نتساءل عن مشروعية هذه التمثلات حول مستشاري التوجيه على شكل السؤال التالي :

أليست هذه التمثلات نوعا من الاعتراف الضمني بأن من يشتغلون، موظفين كانوا أم لا، هم في الحقيقة بلا شغل* ؟

* اقتباس من الفيلسوفة الالمانية Hannah Arendt, “Les travailleurs sans travail”