عندما نقول “المدنية” فإنه التعبير الصريح على “التحضر” والاحساس بأن الفرد والجماعة أصبحوا على قناعة وإدراك على سمو “الإنسان”، أيا كان هذا الانسان. واعتبار الانسانية، هي ما يجمعنا إلى الأبد، وأن عدم وجود الإنسانية هو ما يفرقنا منذ الأمد.

فالتطلع الفردي إلى المدنية، ما هو إلا انعكاس لوعي بناء شخصي داخل مجتمع أصبح مفتوحا على الآخر، متقبلا للغير قابلا العيش معه تحت ظل قيم وأخلاق المدنية، أي الحرية في كل شأن فردي، والمساواة في كل ما هو اجتماعي، والعدالة في كل ما هو قانوني، وضمان الحقوق الثابتة لبناء الفرد وتحصين وجوده الاجتماعي في كل ما هو صحي مجاني، وتعليم براغماتي ومعرفي مجاني، وضمان اجتماعي قوي ضد مخاطر وتقلبات الحياة الاجتماعية.

يأتي الحراك العربي في العقد الأخير من العشرية الثانية من القرن الواحد والعشرين، وكل شباب الوطن العربي وقد أرهقتهم الأوضاع المزرية داخل بلدانهم، أوضاع لازالت بعيدة كل البعد عن “المدنية”، التي درسوها بالمقررات وناقشوها بمدرجات الجامعات وتقدمها لهم وسائل الاعلام والمديا الحديثة بأوجهها العالمية وبأمثلتها الواقعية اليومية المعاشة، والتي حلموا بها طوال سنوات تكوينهم، على أنها الآلية القيمية التي تحتضن تطلعاتهم وآمالهم، عندما يتخرجون بشواهدهم او يعملون بسواعدهم او يمارسون مهنهم بمختلف دواليب وقطاعات المجتمع، لكن ماذا يجدون أمامهم؟

كل هؤلاء الذين يعبرون عن تطلعات معقولة وتعج بهم الاحتجاجات عبر الشوارع وعبر مواقع التواصل الاجتماعي الحديث وعبر منصات النشر التقليدي والتأليف الكلاسيكي، لايمكن ان مُوسمهم  بالزيغ ولا ان نصفهم بقصر الرؤية او بعدم النضج. وإنما حقيقتهم، أنهم اصطدموا بعقليات توجد بالمجتمع ولا تهتم حق الاهتمام لحاجياتهم الاساسية الدنيا منها، وهم على وعي بالحق بها، وعلى أرضهم وفي بلدهم، وان الحرمان من كرسي تمدرس أو سرير تطبيب، أو منصب شغل او من وظيفة أو تقاعد وتأمين على التقاعد وعلى الصحة على سبيل المثال ما هو الا نتيجة منظومة بنت وجودها فقط على اللهج “بالمدنية” واللهج ب”الحقوق” وما هي حقيقة إلا معرقلة لها ومانعة لواقعيتها خوفا منها أو جهلا بإيجابيتها، حسبها في ذاك أنها ستمنع عنها منفعيتها التي تحت الطاولة وفوق الطاولة، ويبقى مرادها النأي من عدم وجود “المدنية” كواقع يومي معاش. علما أنه بقيم المدنية ستكون المؤسسات أكثر قدرة وأوفر خصوبة وانتاجا لضمان الصحة بكرامة والتعليم بكرامة والشغل بكرامة والتأمين الصحي والاجتماعي بكرامة.

بعيدا عن لغة البرمجة والخوارزميات المعلوماتية الحديثة، فأن نتكلم عن “المدنية” ببساطة وبلغة الخشيبات التي تعلمنا بها مبادئ الرياضيات الأوقليدية، هو أن نتخلى عن “الديماغوجية” التي تركب على عواطف الناس، وتلعب بمشاعرهم لتغييب وإبعاد عقولهم. وأن نعترف واقعا، بقيمة المساواة ما بين جميع الأفراد والجماعات، ليس خطابا وحسب، وليس فصاحة في القول وعلى المنابر وبكراسي المكاتب وكفى، ولكن كتلقين عائلي وتربية بالمدرسة وتكوين بالدراسات العليا والأهم كثقافة وفعل يومي وكممارسة عملية بينية كأفراد وكمؤسسات وكجماعات.

عندما نقول المدنية، ليس القصد –في حد ذاته-  أن نغير دستور ونشرع قوانين جديدة تحوي عبارات “المدنية”، فربما لدارسي القانون والقانون الدستوري على وجه الخصوص، أن يلحظوا بأن الدساتير – أغلبها – أن لم نقل –جملتها- تضم ما بين دفتيها كل ما يعبر عن “المدنية”، لكن هل الواقع الذي تؤطره يستفيد منه جميع الأفراد في تحسين يومياتهم  ويعكس حقيقة ما نفهمه من صريح ومراد ومقصود عباراتها ومصطلحاتها ومفاهيمها وجملها وفقراتها ونصوصها وبنودها وفصولها؟؟

إن المدنية وعي وسمو فكري، يؤمن بالتساوي في الحقوق والاعتراف بالواجبات في حق الفرد والذات وحق المؤسسة والجماعة والايمان بأن سلامة المجتمع من سلامة الفرد، و قوة بناء الفرد  من قوة دولته عماد المجتمع، وتماسك الشعب فيه من وازدهار الحضارة واشعاعها الأفكار والثقافة فيه. وأن حاجيات الانسان مهما اختلفت القدرات، تبقى رهينة باعتراف المجتمع بوجوب ضمان تلك الحاجيات الأساسية للجميع، دون استثناء او تمييز او استبعاد تحت اي مبرر أو ذريعة كانت.

إن “المدنية” هي السبيل الواعي للامتثال لروح نص القانون، وبناء السلم الأهلي القوي والحضاري للمجتمع، وهي الضامن للعيش الكريم لجميع الأفراد دون ريب ودون توجس، وهي الحامل والحامي لصحيّة ممارسة التمرينات الديمقراطية السياسية ما بين التوجهات الفكرية، التي ستفضي إلى الشفافية السياسية واحترام القانون وصون الثروات وضمان استغلالها بحق واستثمارها بمعرفة والاستفادة منها بعدل وعقلانية.