نظمت مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد يوم الجمعة 27 سبتمبر 2019 مائدة مستديرة تحت عنوان “الذكرى 60 لإحداث المنشئات العامة للتنمية”. للموضوع أهمية بالغة لا تخفى على أحد بالنظر إلى المداولة الوطنية الراهنة في موضوع “النموذج التنموي الجديد”. حكومة عبدالله إبراهيم هي التي وضعت في أقل من سنتين القواعد الارتكازية الصلبة، والبنيات العميقة التي تقتضيها، في المدة الطويلة، سيرورة التنمية الشاملة في بلادنا. ولقد شكل القطاع العمومي بمنشئاته الاقتصادية، وبمؤسساته السيادية، وبمرافقه الاجتماعية الذراع الاستراتيجي لإنفاذ شروط الاستقلال الاقتصادي، ولإنجاز “الضروري من التنمية”. لا شك أن المستوى المحترم الذي بلغته قوى الإنتاج الوطنية يعود، بامتياز، إلى الريادة العمومية، وإلى الدينامية التي ضخَّتْها في أوصال الاقتصاد الوطني مؤسسات مثل البنك الوطني للإنماء الاقتصادي، والبنك المغربي للتجارة الخارجية، وصندوق الإيداع والتدبير، والصندوق الوطني للادخار، وصندوق الضمان الاجتماعي، وصوماكا، وصوناسيد، وسامير، على سبيل المثال لا الحصر. عمران مؤسسي عمومي متكامل بدونه لا تستقيم العملية التنموية، ولا تَتَوطَّنُ الخيارات الاستراتيجية، ولا يتسنَّى ضبط إيقاعاتها وتوازناتها.

هذا “التراث” الاقتصادي والاجتماعي سوف تأكله سياسة الخوصصة “أكلاً لمّاً”. لم يتوقف، مع الأسف الشديد، تفكيك القطاع العمومي تحت حكومة التناوب التوافقي، التي سوف تنحو نفس المنحى، وتمضي قُدُماً في تفويت الباقيات الصالحات من الملكية العمومية، أو في تفويضها لصالح القطاع الخاص والرساميل الأجنبية.

لا بد من اجتراح الموضوعية في التقييم، فوق هذا المستوى بالذات، لكي لا تتحول المناسبة الفائرة إلى مراجعة فاترة للسياسات الاقتصادية الليبرالية التي يبدو أن بعض أحزاب اليسار لم تعد ترى عنها بديلاً. المراجعة المجدية والمنتجة ينبغي أن تلِجَ إلى المرجعية الفكرية في حد ذاتها، التي تصدر عنها التنمية، وأن تتخلَّلَ الرؤية التقدمية الموجِّهة لها. عندما يمشي اليسار مرَحاً في الطريق الليبرالي، ويرضى بالقطاع الخاص كما يرضى بالمقسوم، فإنه يبني صروحاً في الهواء، وعندما ينْكَفُّ عن بنيات الاقتصاد العمومي، فإنه بذلك يكون كمن بيده يقطع الغُصْنَ الذي يجلس عليه.