ونحن نتابع اليوم المزايدات السياسية حول موضوع لغة التدريس والقانون المؤطر لها الذي صودق عليه في مجلس النواب، تفترق بيننا الطرق بين فريق مغالٍ في الأدلجة المبنية عنصرَيْ العروبة والإسلام، في حين يذهب الفريق الآخر للجانب التقني المرتبط باقتصاد السوق والعلاقات الاقتصادية والإدارية مع فرنسا. كلا الفريقين له حججه وبراهينه للدفاع عن أحد الأطروحات. صراحة، هو تمرين مفيد لفهم آليات بناء الخطاب في النسق السياسي المغربي، يمكننا أن نعالجه من خلال طرح الأسئلة الصحيحة، وهذا ما سنحاول تناوله في الفقرات الموالية.

كيف يمكننا معالجة المسألة اللغوية في المغرب؟ هل هي أداة للتواصل والعلم أم للهيمنة؟

المتتبع للتاريخ الحديث للمغرب، خاصة في فترة الاستعمار وما بعده، يلاحظ منذ الوهلة الأولى أن اللغة الفرنسية لم تكن فقط لغة للتواصل مع المستعمر، بل كانت ركيزة من ركائز بناء الدولة المركزية “الحديثة” بالمعايير الفرنسية، بالإضافة إلى كل ما تحمله من براديغمات تحدد مجال التفكير والتحليل والنقاش. بالتالي كان من المهم أن يتم تكوين الأطر الإدارية، الاقتصادية، السياسية والعسكرية بهذه اللغة، بالتالي وجب تعليم هذه اللغة أولاً، وهنا مربط الفرس. يعتبر تعليم اللغة إبان الاستعمار مسألة تفوق جانبها التقني المحض، فإقحام الفصل الدراسي ببنيته المحددة للمعلم والمتعلم، أو المتحضر والساعي إلى التحضر، بالإضافة إلى ترتيب الفصل الذي يحدد “المجتهد” من “الكسول”، طريقة الجلوس التي تختلف عن طريقة الجلوس في المدارس القرآنية ، طريقة اللباس (خاصة بالنسبة للمعلم)، دون أن ننسى القراءات المطروحة للتدريس المليئة برموز العنصرية والاستشراق التي تجعل من الإنسان الأبيض رمزا للتحضر والأسود رمزا للوحشية و”التخلف”، كل هذا بالإضافة إلى استعمال العنف الجسدي للتأكد من ترسيخ هذه البنى الذهنية لدى المتلقي (للمزيد من التفصيل يمكنكم الرجوع إلى كتابات ميشيل فوكو حول المدرسة والتعليم). عندما يجتاز المتعلم مرحلة ترسيخ بنية التفكير والتحليل يتم إرساله (إذا كان من “المتميزين”) في بعثات لفرنسا ليكتمل تلقينه وفق مناهج الهيمنة الفرنسية.

استمر الوضع كما هو عليه حتى بعد الاستقلال، فمعظم الأحزاب الوطنية أصرت على إرسال بعثات إلى فرنسا، بهدف تكوين الأطر والنخب القادرة على التدبير والمساهمة في الحكم أو الهيمنة، تمرّست في المعاهد والجامعات الفرنسية وترسخت في بنيتها الفكرية نفس براديغمات التفكير التي كانت عند الطبقة المهيمنة الفرنسية، وحاولت تطبيق ما تعلمته في المغرب، سواء على مستوى الخطاب أو على مستوى التدبير. فبالنسبة للخطاب، لاحظنا تطور الأطروحات الليبرالية و الاشتراكية في المغرب، فمثلا هذا الطرح الأخير كان بعيدا حينها عن التطور الاقتصادي، الثقافي والسياسي في المغرب، حيث لم يعرف المغرب ثورة صناعية وما يرافقها من ظهور لطبقة عمال قادرين على تبني خطاب ثورة العمال، كما لم تكن هناك خوصصة، فالدولة المركزية كانت تتحكم في كل المؤسسات الاقتصادية والسياسية، بالتالي كانت هناك هوة كبيرة بين الواقع والخطاب، وهو ما ساهم في تراجع القوى الاشتراكية التي كانت تدافع عن تموقع الطبقة البورجوازية داخل بنية الحكم، خاصة وأنه تم تهميشها إبان الاستعمار وبعده.

في تطور آخر، كانت العربية تترنح بين الفكر القومي والإسلامي، فهناك من أصر على أن العربية هي أحد أهم طرق النهضة الفكرية، وأداة لتوحيد شعوب المنطقة تحت لواء المغرب العربي، بعد فشل المشروع الناصري ظهر المشروع الإسلامي الداعي لبناء نهضة المجتمعات المسلمة وقد اعتمد على المسألة اللغوية كعنصر مهم في الهوية وقد تم تقديسها ووضعها في نفس مرتبة الفرقان، بالتالي أصبحت في نفس مرتبة الدين، والاستغناء عنها يعني الاستغناء عن عنصر مهم في الهوية الجماعية. غير أننا يجب أن نعالج الأمر داخل سياقه الاقتصادي والسياسي، فعلى سبيل المثال من كان يغني للعروبة والإسلام قد تم تهميشهم من النظام المفرنس إبان الاستعمار، وكذا من طرف القوى السياسية المهيمنة آنذاك، بحيث أن أغلب الكوادر في المراكز المهمة كان تكوينهم فرنسيً. التغيير كان في سياق الصراع بين الملكية والمعارضة اليسارية، فكان تأليب القوى المحافظة تكتيكا مهما لقلب موازين القوى داخل الحقل السياسي المغربي، فتم تعريب التعليم في سلكه الابتدائي، الإعدادي والثانوي، وتم حذف الفلسفة وتعويضها بالدراسات الإسلامية، وهي خطوة لإرضاء هذا التيار وكذا مصدر للشرعية من طرف المؤسسة الملكية. فبالتالي الاستمرار في هذا الخطاب هو كذلك محافظة على تقدم مُكتسب من ظرفية سياسية معينة.

لكن ما هي تبعات هذا الانتقال من الفرنسة إلى التعريب؟

بداية تجدر الإشارة إلى أن الفرنسية كلغة أصبحت محددا للانتماء الطبقي ودليلا على رفاعة المستوى الثقافي (في المخيال الجماعي)، فالمتحدث بهذه اللغة بطلاقة يعني أنه تلقى تعليما خاصاً أو أتم دراسته في فرنسا، وهو أمر غير موفر لعموم المواطنين، حيث أن مصاريف هذا التمكن قد تتجاوز في أغلب الأحيان راتب الموظف البسيط. بل والحديث بها في الإدارات العمومية أو في تجمعات النخب يعتبر (عندهم) دليلا على والوعي والانتماء لنفس محددات التحليل والإدراك، وعليه يحدد الانتماء لفريق أو لآخر.

لنفهم ذلك يجب أن نعود لتجربة التعريب التي كانت في إطار رد الفعل السياسي، فهي لم تكن مبنية على دراسة أو تصور واضح، حيث تم الانتقال من لغة إلى أخرى دون استعداد ودون تكوين للأطر التي ستواكب هكذا تحول، فعلى مستوى ترجمة العلوم، فقد اتسم بالركاكة وب”الديپناج”، ولم تتم المتابعة، فقد توقف ذلك بعد فترة وجيزة من انطلاق مشروع التعريب، بالتالي تطور تدريس المواد العلمية خاصة كان مرتبطا بالأساس بتطور المناهج التعليمية في الدول المُعربَة (مثلا مصر وسوريا)، وهو ما خلق فجوة كبيرة بين المُتعلم ومواد التدريس التي لم تكن/لا تساير السياق السوسيو اقتصادي للبلاد، هذا من جهة، من جهة أخرى، أزمات التعليم في الدول المُعربَة أثرت بشكل كبير على مستوى المناهج التعليمية في المغرب الذي لم يستطع أن يطور بنفسه مناهج خاصة به، فتحول إلى النسخ الأعمى من المناهج الفرنسية وبركاكة وسوء فهم، مما نتج عنه تحولات خطيرة في بناء العقل المغربي الذي اختلطت فيه الدياليكتات والمصطلحات ومناهج التحليل، بالإضافة إلى غياب سياسة حقيقية لترجمة العلوم، بالتالي تجد التلميذ والأستاذ بعيدين كل البعد عن تطور العلوم، فالكتاب الذي يكتب بلغة أجنبية لا يلقى طريقه للمتلقي المغربي إلى بعد عقد أو عقدين (إن تمت ترجمته). بخلاف ذلك، تجد أبناء الطبقة المتوسطة والغنية يحرسون على تعليم أبنائهم بلغة الهيمنة، ويمكنونهم من أدوات التفكير والتحليل التي ستمكنهم من خلق الفرق مع باقي أبناء الفقراء، بل والإبقاء عليه.

لكن هل العودة إلى الفرنسية كلغة لتدريس المواد العلمية سيعالج إعادة الإنتاج الطبقي؟

العودة للغة الفرنسية كلغة لتدريس المواد العلمية يدخل في إطار تأهيل اليد العاملة التقنية التي يُراد تشغيلها في مصانع الشركات الفرنسية والأجنبية التي فتحت فروعا لها في المغرب، في إطار استراتيجية “بكالوريا+سنتين تقني”، التي أصر عليها عاهل المملكة ووزراؤه في مختلف الخطب والمناسبات. حيث أن التوجه للانفتاح على اقتصاد السوق، توفير الامتيازات الضريبية واليد العاملة المؤهلة هو السبيل لضمان السلم الاجتماعي (حسب هذا التصور). غير أننا نعيد نفس أخطاء الماضي، حيث لم تجرى دراسات حقيقية حول الموضوع، لم يتم تجريب هذا التحول على أقسام نموذجية، لم يتم الاستعداد وإعداد الأطر لكذا تحول، والأهم أنه لم يتم تقييم كل البرامج الاستعجالية التي تنزيلها على المدرسة العمومية.

بالتالي النتيجة الموضوعية لسياسة كهذه هو الفشل، ربما ستسهل تكوين التقنيين واليد العاملة الرخيصة التكلفة، وستضمن سلما اجتماعيا مؤقتا عبر خلق فرص للشغل، لكنها لن تساهم في بناء العقل المغربي المبدع وتطويره، كما أنها لن تساهم في تقليص الهوة بين أبناء الفقراء وأبناء الأغنياء في هذا البلد، فالدارس في المدرسة العمومية بمختلف عيوبها البنيوية لن يستطيع أبدا التنافس مع الدارس في البعثات الأجنبية أو في الخارج، بالتالي مجالات العمل ستستمر في نفس النسق، وهو ما سينطبق على الأجور والحركية بين الطبقات الاجتماعية.

وعليه فإن صاحب القرار والنخبة السياسية مُلزمين اليوم أكثر من أي وقت مضى بإعادة التفكير في المشروع المجتمعي المقدم للمغاربة ومدى قدرته على إعطاء إجابات اقتصادية، سياسية وثقافية. لا عيب في الاجتهاد وإن أخطأ المرء في التقدير، لكن العيب في أن تُكرر أخطاء الماضي وأن يُعاد إنتاج نفس الأمراض التي لازالت تعاني منها البلاد. المسألة اللغوية لا يمكن أن نعالجها اليوم من منظور تقني صرف، ولا من منظور إيديولوجي أعمى، ولا من منظور سياسوي شعبوي يدغدغ عقول البسطاء، بل يجب وضعها في سياقها الوطني والإقليمي، آخذين بعين الاعتبار مختلف التحديات والتشوهات التي خلقتها ولا زالت تخلقها. أما وقد صوت مجلس النواب على القانون المؤطر لمسألة لغة التدريس، فلا يسعني إلا أن أدعو من سيسهرون على تنزيل القانون أن يُبدعوا في منهجيات التدريس وأن ينفتحوا على تجارب أخرى خارج الثنائي الفرنسي/الشرق أوسطي، فلا الشرق أفلح ولا فرنسا أفلحت، وعليه فلا حكمة من التمسك بتلابيب الغرقى.