منجب يرصد تراجع الحريات في المغرب ما بعد 2011 في دراسة نشرتها جامعة "وارويك" البريطانية
شهدت فترة ما بعد الربيع العربي في المغرب تراجعا في الحريات والحقوق - أرشيف
بين أيدينا مقال أكاديمي للمؤرخ المغربي المعطي منجب، نشرته جامعة “وارويك” البريطانية، في إطار برنامج خصصته للأبحاث المتعلقة بموضوع “الديمقراطية وحقوق المواطنة في شمال افريقيا بعد الربيع العربي: رهانات السياسة الخارجية للولايات المتحدية الامريكية والاتحاد الأروبي”.
يرصد منجب أوجه التداخل بين الأوضاع السياسية الاقليمية والمحلية والأوضاع الإقتصادية بعد احتجاجات 20 فبراير 2011، ومدى انعكاسها على موازين القوى في هرم السلطة، وعلى الوضع الحقوقي بالتالي. يقدم الباحث إجابات موضوعية على حيثيات تراجع الحريات، وعودة الممارسات السلطوية لفترة ما قبل 2011. وكيف فشل ـ أو أفشل ـ حزب “العدالة والتنمية” في الوفاء بوعوده في الاصلاح ومحاربة الفساد. ومع ذلك يعترف في ختم مقاله أن التطورات الاقليمية جعلت الغالبية تقبل بالوضع الراهن، وعززت المخاوف من المطالبة بالإصلاحات خشية أن تمهد الطريق امام العنف والارهاب.
ترجمة سعيد السالمي
مقدمة
شهدت فترة ما بعد الربيع العربي في المغرب مراحل مختلفة من حيث التطورات التي مرت بها العلاقة بين الدولة والمجتمع على صعيد الديمقراطية والمواطنة وحقوق الإنسان. تميزت المرحلة الأولى، التي امتدت ما بين فبراير 2011 وصيف 2013، باحتجاجات شعبية تطالب بالحرية والديمقراطية، انتقد فيها المواطنون السياسات العمومية المتعلقة بالحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية (الشغل والصحة والتعليم، ووضع المرأة، والقضية الأمازيغية). هذا الغليان وضع الدولة في موقف دفاعي حرج، وإذا قارنا المغرب مع دول الربيع العربي الأخرى، فقد كانت ردة فعل الدولة المغربية معتدلة في استخدام العنف وممارسة القمع، وكانت إيجابية، إذْ ترجمت إلى اعتراف رسمي ضمني بمطالب الديمقراطية والمواطنة ومحاربة الفساد، حيث تعهد الملك في خطابه يوم 9 مارس 2011 بتعديل الدستور ودمقرطة المؤسسات.
صيف 2013: التعديل الحكومي والتراجع التدريجي للحريات العامة وحقوق المواطنة
معظم المحللين السياسيين المهتمين بالربيع العربي لم يتوقعوا التطورات السلبية التي شهدتها العديد من البلدان المغاربية والعربية، والامثلة عديدة: بدءًا من الحروب الأهلية في سوريا واليمن، إلى الانقلاب العسكري في مصر، والفوضى السياسية والأمنية في ليبيا، وما يمكن أن نسميه بـ”الربيع الممخزن” في المغرب. ويبقى الاستثناء الوحيد هو تونس، التي برهنت حتى الآن أن النخبة المخضرمة التي أفرزها الحراك الاجتماعي ماضية في طريق التحول الديمقراطي، على الرغم من الإضطرابات في دول الجوار والهجمات العنيفة للمتشددين.
تأثر المغرب بالتراجع الذي عرفته منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط، على الخصوص خلال النصف الثاني من سنة 2013. ومع أن الحركات الاجتماعية الجديدة كانت نشيطة للغاية، فإنها لم تتمكن من خلق نظام سياسي جديد. ورغم الاستقلال النسبي لمسار “الربيع المغربي”، فقد تأثر بالسياق الإقليمي، ويتضح ذلك من خلال تراجع مكتسبات المواطنة، وعودة بعض الممارسات التعسفية، التي انتشرت على نطاق واسع في فترة ما قبل 2011.
بين صيف 2013 ومنتصف سنة 2015، كانت هناك مرحلتان مختلفتان على مستوى احترام الدولة للدستور الجديد، ووعود النخبة الحاكمة فيما يتعلق بحقوق المواطنة، ومشروع دمقرطة الحكامة.
رغم أن مفهوم المواطنة يشمل جميع مظاهر العيش المشترك، يتم حصره في المغرب، بشكل رئيسي، في الانتخابات والأحزاب. يعتبر الخطاب الرسمي الحق في التصويت والترشح للمناصب أهم سمة من سمات المواطنة، بينما يميل إلى تهميش الحريات السياسية والتغيير الاجتماعي والمساواة والكرامة والعدالة الاقتصادية، وهي المطالب الرئيسية التي رفعها الشعب سنة 2011.
باستثناء الفترة القصيرة التي سبقت التصويت على الدستور المعدل والانتخابات البرلمانية لسنة 2011، يبقي مفهوم المواطنة محصورا في صناديق الاقتراع. بعد الانتخابات التشريعية وتعيين حكومة جديدة، حل الحق في العيش في أمن وسلام (“الاستقرار” في الخطاب الرسمي) تدريجيا محل المشاركة السياسية، في الخطاب الرسمي. وعلاوة على ذلك، فإن الانتخابات البلدية، التي كان من المرتقب أن تجرى في الأشهر التي تلت إقرار الدستور الجديد، ظلت تؤجل باستمرار طيلة السنوات الأربع التي تلت الاحتجاجات. وذلك بسبب مخاوف النخبة من أن تتسبب تلك الانتخابات في حراك جديد في الشارع، من جهة، ومن جهة أخرى، فإن التهديد الذي يشكله فوز الإسلاميين منعهم أيضا من إجراء الانتخابات في وقت مبكر.
على وسائط التواصل الاجتماعي والصحف الإلكترونية مثل “لكم” و”بديل” و”أنوال بريس”، أعرب العديد من الشباب عن إحباطهم في الوتيرة البطيئة للغاية للتحولات التي أعقبت انتفاضات 2011، على الرغم من الدستور الجديد ووعود الملك في خطاب 9 مارس.
ظلت حقوق المواطنة وتوسيع الحريات في الدستور الجديد محل جدل بسبب الغموض والتناقض الذي يكتنف النصوص، فضلا عن الخلافات التي برزت حول تطبيقها. خلافات مرتبطة أساسا بالإرادة السياسية وطبيعة الفاعل السياسي، على مستوى رئاسة الحكومة ورئاسة الدولة على حد سواء. وهكذا بقي التأويل والتطبيق يتأرجحان وفق ثلاثة أبعاد مترابطة: الحداثة والتقليد، التقدمية والمحافظة، والقيم الكونية والخصوصية الثقافية. ويتجسد هذا البعد الأخير في الفصل 19 من الدستور، الذي يقر بالمساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق، ولكن في إطار ثوابت المملكة، أو في الحالة التي تقر بسمو الافاقيات الدولية على التشريعات الوطنية، ولكن في إطار الحفاظ على الهوية الوطنية. كما أن ثمة قراءة أخرى أكثر قساوة للحريات الفردية تظهر عندما يتعلق الأمر بمسألة حرية الإعتقاد وممارسة الشعائر الدينية، حيث لا يسمح للأقليات الدينية بنشر معتقداتها ومبادئها الدينية، ومشروع القانون الجنائي ينص على عقوبة السجن للمتهمين بـ”زعزعة عقيدة المسلمين”، مثل” الإفطار العلني في نهار رمضان”.
مع أن الوثيقة الدستورية الجديدة لم تكن واضحة في إرساء أسس العقد الذي يجمع السلطة السياسية والمواطنين، فقد ظلت مسألة تأويلها وتفعيلها، طيلة السنوات الأربع التي أعقبت الانتخابات، تخضع لموازين القوى بين الشارع والسلطة السياسية. وإذا كانت الدولة لا تعرف كيف تتعامل مع مفاهيم المواطنة والديمقراطية كمفاهيم شاملة ومتكاملة تجمع الشأن السياسي بالاقتصادي، والاجتماعي بالثقافي، كما طالب بذلك حراك الشارع، فإن بعض مقتضيات الدستور بقيت حبرا على ورق، ولم تفعل أبدا، مثل الفصل 33، القاضي بإحداث المجلس الإستشاري للشباب والمجتمع المدني، الذي كان من المتوقع أن يعالج مشاكل الشباب والمجتمع المدني، هاتين المجموعتين اللتان لعبتا دورا رئيسيا في إطلاق الربيع العربي وتنظيم الإحتجاجات في الشوارع سنة 2011.
أدى التحالف بين حزب “العدالة والتنمية” الإسلامي والأحزاب الثلاثة المقربة من القصر إلى مشكلة عدم التجانس داخل الائتلاف الحكومي، ما شكل إلى حد ما عائقا أمام عمل الحكومة، ستزداد حدته عندما قام حزب “الاستقلال” بتعميم وثيقة انتقد فيها أداء الحكومة، والطريقة التي يدير بها حزب العدالة والتنمية الشأن العام، وعرقل بذلك تنفيذ برنامج الحكومة، ليتحول التركيز إلى حل أزمة الحكومة، إلى أن حدث الإنشقاق في الأغلبية البرلمانية بسبب قرار حزب “الاستقلال” الانسحاب من الحكومة.
استمرت أزمة الحكومة إلى ما بعد 2013، وعطلت تنفيذ برامج الإصلاح التي وضعتها في بداية ولايتها. أصبحت أزمة الحكومة أزمة سياسية عامة، مما جعل انتخابات سابقة لأوانها إمكانية حقيقية، كما اعترف بذلك عبد حامي الدين، عضو الأمانة العامة لحزب “العدالة والتنمية”. وساهمت هذه الأزمة في عودة القصر كلاعب قوي، في حين واصل حزب “العدالة والتنمية” لعدة أشهر البحث عن حليف جديد لتجديد التحالف. أظهر هذا أن ”العلاقة بين الملكية والحكومة علاقة أصل بفرع، وليست علاقة طرفين نِدَّيْنِ في السياسة”.
كل هذا أدى إلى شعور عام بخيبة الأمل. وفي هذه الظروف عادت حركة 20 فبراير إلى التظاهر في الشارع تحت شعار “من أجل انطلاقة جديدة، بسبب رفض النظام تلبية المطالب العادلة”. كان المغرب أمام التحدي الحقيقي لتنفيذ الدستور الجديد الذي وعد بالمزيد من الحريات، وتكافؤ الفرص، وربط المسؤولية بالمحاسبة والمواطنة الكاملة. إلا أن تفاقم الأزمة المالية أدى إلى قرارات حكومية غير متوقعة، مثل رفع الأسعار، والتوقف عن التوظيف المباشر لخريجي التعليم العالي والعاطلين عن العمل، واعتماد نظام المقايسة في تسعير المحروقات وإصلاح صندوق المقاصة. هذه القرارات الحكومية أثارت غضب العديد من النقابات والمنظمات السياسية، وأدت إلى موجة متزايدة من الإضرابات والاحتجاجات الاجتماعية، والتي كان بعضها بقيادة حركة 20 فبراير.
وضع دستور فاتح يوليوز 2011 حرية التعبير والصحافة والتجمع وتكوين الجمعيات على قدم المساواة مع الحريات وحقوق المواطنة الأساسية، ولكن، منذ التعديل الحكومي في صيف سنة 2013، اتضح أن الحكومة غير قادرة على حماية تلك الحريات.
في 17 سبتمبر من نفس السنة، تم اعتقال الصحفي علي أنوزلا، مدير الصحيفة الإلكترونية “لكم”، وتوبع رسميا بموجب قانون الإرهاب بسبب نشر رابط لشريط فيديو لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وهو الشريط الذي سبقته إلى نشره بعض وسائل الإعلام الغربية، ويوتيوب والعديد من المواطنين المغاربة على الشبكات الاجتماعية. وكان واضحا أن اعتقال مدير “لكم” كان بسبب انتقاداته الشديدة لبعض سياسات الملك، وليس مرتبطا بأي شكل من الأشكال بشريط القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي
ما أعطى بعض الأمل للصحفيين ونشطاء وسائط التواصل الاجتماعي هو أن وزارة الاتصال كانت قد أعلنت أكثر من مرة، سنة 2013، أنها بصدد إعداد قانون جديد من شأنه أن يحرر الصحافة من العقوبة السالبة للحرية. وكانت العقوبات السجنية في قوانين الصحافة السابقة واحدا من الأسباب التي جعلت المغرب في مؤخرة التصنيفات الدولية في حرية الصحافة.
وقال يحيى اليحياوي، الخبير في الإعلام، “لذلك، فإن حذفها من مشروع القانون الحالي هو أمر يسير في الاتجاه الصحيح، إذا لم يكن بجهة توسيع مجال الفعل الإعلامي، فعلى الأقل لتخليص الإعلاميين من عقوبة مسلطة” . ومع ذلك ، فإن نص المشروع الحالي ينص على حجز المطبوعات إذا تضمنت “إساءة للدين الإسلامي أو الإساءة للاحترام والتوقير الواجبين لشخص الملك وأصحاب السمو الملكي والأمراء والأميرات أو التحريض على الوحدة الترابية وفقًا لأحكام الدستور”.
وفيما يتعلق بانتهاك بعض الحقوق التي كفلها الدستور عام 2011، سجلت منظمات حقوق الإنسان “اعتقالات انتقامية” في حق حركات الشباب والطلبة. اعتقال المغني معاد الحاقد (للمرة الثالثة)؛ اعتقال الصحفي مصطفى الحسناوي؛ وفاة معتقل رأي كان طالبا في فاس؛ وعدم الترخيص لجمعية الحرية الآن ــ منظمة حقوقية تدافع عن حرية الصحافة والتعبير ـ اقتحام مقر الجمعية المغربية لحقوق الإنسان؛ واعتقال 11 شابا من حركة 20 فبراير في مسيرة سلمية في الدار البيضاء يوم 6 أبريل 2014.
في سنة 2013، أكد تقرير لمنظمة “هيومن رايتس ووتش” أن المغاربة يمارسون حقهم في الاحتجاج السلمي في الشارع، إلا أن الشرطة تواصل تفريقهم بالعنف. وأضاف التقرير أن القوانين التي تجرم الإساءة للملكية أو الإسلام أو الوحدة الترابية، تحد من الحق في التعبير السلمي، والتجمع، وتكوين الجمعيات.
ظل المغرب يتلقى انتقادات كثيرة من المنظمات الدولية لوضعية حقوق الإنسان في البلاد، وممارسة التعذيب، والتراجع في حرية التعبير والحرية الاقتصادية. كما أن الصحف الغربية الكبرى واصلت توجيه النقد لممارسات الحكم في البلاد. احتل المغرب المراتب الأخيرة في العديد من التصانيف العالمية في مجالات مثل الفساد، وضعف التعليم، والصحة. وكان تراجع الديمقراطية في المنطقة عاملا حاسما في انحراف مسار الحراك المغربي والانحدار في مجال حقوق الإنسان. شكلت سنة 2014 نقطة تحول سياسية تميزت بتراجع عام، حتى أن العديد من المراقبين اعتبرها أسوأ من فترة ما قبل مظاهرات 20 فبراير، وذلك لأن الوزن السياسي لقوات الأمن تنامى وتقوت فعليا مشاركتها في صنع القرار.
وفي هذا الصدد قالت “سارة ليا ويتسن”، المديرة التنفيذية لقسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: “كان المغرب في وقت ما بارزا كخلية للأنشطة المستقلة لحقوق الإنسان، ولكن السلطات دأبت في الآونة الأخيرة على منع الأنشطة يمينا ويسارا والتي حاولت بعض المجموعات الأكثر انتقادا تنظيمها”.
صيف 2014 وإغلاق الفضاءَات العامة
في تصريح لوزير الداخلية، محمد حصاد، يوم 15 يوليوز عام 2014، اتهم جمعيات حقوق الإنسان بخدمة أجندات خارجية مقابل الحصول على مساعدات مالية أجنبية. وشكل هذا بداية الهجوم على الحريات وتقليص هامش المناورة أمام المعارضة.
كما اتهم منظمات المجتمع المدني بعرقلة عمل الدولة ضد الإرهاب. هذا التصريح اعتبرته حركات المجتمع المدني وحركة شباب 20 فبراير بمثابة إعلان رسمي عن تراجع الحريات الأساسية و التضييق على المواطنين الذين لا يتفقون مع الرأي الرسمي. لقد كان مؤشرا على نهاية الهدنة التي جسدها الربيع المغربي، مصدر الكثير من المكاسب الهامة في المرتبطة بالمواطنة. بين بيان يوم 15 يوليوز ونهاية السنة، منعت السلطات ستين نشاطا عاما للجمعية المغربية لحقوق الإنسان وحدها. كما منعت أنشطة منظمة العفو الدولية، ومركز ابن رشد، ومؤسسة “فريدريش ناومان”، والجمعية المغربية لصحافة التحقيقات، وجمعية “الحرية الآن”، وغيرها كثير. وعلاوة على ذلك، منعت مئات من الناس من حقهم في التنظيم والتجمع، حيث رفضت السلطات منحهم إيصال التسجيل الرسمي لجمعياتهم، أو أوقفت اجتماعاتهم أو ملتقياتهم.
كان ردة فعل جمعيات حقوق الإنسان أن أسست “تحالف 18 يوليو”، الذي ضم أكثر من عشرين جمعية، بهدف الضغط على وزير الداخلية وإجباره على الاعتذار عن تصريحاته المسيئة للمجتمع المدني، وإقناعه بالتخلي عن السياسات القمعية المتبعة.
في هذا السياق الموصوم بتراجع حقوق الإنسان، في نوفمبر 2014، احتضن المغرب الطبعة الثانية للمنتدى الدولي لحقوق الإنسان بمشاركة أكثر من 5000 مشارك من 94 بلدا، اجتمعوا من أجل مناقشة أهم التطورات التي يشهدها العالم في مجال حقوق الإنسان والإكراهات التي تعترض تفعيلها اليوم”. ومع ذلك، فإن هذا التجمع حول حقوق الإنسان، الذي نظم في وقت تتعرض فيه جمعيات حقوق الإنسان والمعارضة لمضايقات، قاطعته الجمعيات المغربية لحقوق الإنسان، وذلك احتجاجا على استمرار الاعتقال السياسي. وقالت خديجة الرياضي، وهي ناشطة في مجال حقوق الإنسان وحائزة على جائزة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان لعام 2013 ”نريد خطوات فعالة وملموسة للدولة تجاه الحريات وأوضاع حقوق الإنسان. هناك توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة لم تنفذ، والحريات التي لا تحترم، وعقوبة الإعدام. فبعد كلمة وزير الداخلية، تعرضت الجمعيات الحقوقية لهجمة ممنهجة”.
استمرار ممارسة التعذيب في المغرب، وإن لم يكن بالحدة التي كانت عليها في “سنوات الرصاص” (بين الستينات والتسعينات)، تسبب في أزمة دبلوماسية في العلاقات المغربية الفرنسية سنة 2014، عندما تم استدعاء مسؤول في المخابرات المغربية للاستجواب بشأن التعذيب المفترض الذي مارسته أجهزة المخابرات على عادل المطالسي، ونعمة الاسفاري والملاكم الدولي المغربي زكريا مومني. وقال أستاذ العلوم السياسية، محمد الساسي، في معرض مناقشته لنتائج الأداء الرسمي بشأن الديمقراطية وحقوق المواطنة: ” إن المغرب يشهد في ذات الآن دينامية الإصلاح وديناميكية في الانحدار، ولكن هذه الأخيرة تلتهم مكاسب الأولى”.
تجري النقاقشات السياسية لحركة 20 فبراير على وسائط التواصل الاجتماعي، وتركز على انتهاك الدولة لحقوق المواطنة، وعلى الخصوص حرية التعبير. تلك النقاشات اقتصرت على الفيسبوك وتويتر، سيما منذ اعتقال أنوزلا وإغلاق صحيفته الإلكترونية، التي شكلت واحدا من أهم أسباب النقاش. جدير بالذكر أيضا أنه بعد إغلاق موقع “لكم” في أكتوبر 2013، مارست معظم الصحف الإلكترونية الرقابة على تعليقات المواطنين وعلى المقالات المنشورة، والأخبار. ومع ذلك فإن النشاط الإفتراضي الكبير لشباب 20 فبراير والمجتمع المدني، أجبر الدولة على توظيف بعض المفاهيم والشعارات، التي يستعملها المنتقدون، في خطابها. وهكذا بدأت وسائل الإعلام الرسمية في استخدام مفاهيم مثل ” الملكية المواطنة “و”الملك المواطن”. حتى أن الملك استعمل لهجة حادة في العديد من الخطابات الرسمية في 2013 و2014، شبيهة بتلك التي يستعملها النشطاء عندما ينتقدون السياسات العمومية. على سبيل المثال في عيد العرش في 30 يوليوز سنة 2014، استخدم الملك لغة سياسية غير مسبوقة في خطابه، منتقدا الظروف الراهنة، وذهب إلى حد استخدام شعار انتشر على نطاق واسع على تويتر والفيسبوك: “أين الثروة”؟ وهو شعار طالما استخدمه المواطنون الذين يشتكون من الفساد وسوء تدبير عائدات الضرائب والموارد الوطنية. ”أتساءل باستغراب مع المغاربة : أين هي هذه الثروة ؟ وهل استفاد منها جميع المغاربة، أم أنها همت بعض الفئات فقط ؟”. عشرات المثقفين استغلوا الخطاب الملكي لإطلاق نقاش حول توزيع الثروة. وركزوا على مدى استخدام القادة السياسيين لسلطتهم للإغتناء عن طريق خرق قوانين المنافسة.
وتبقى الملكية المغربية اللاعب الرئيسي الذي يتلقى انتقادات كثيرة على بعض منتديات النقاش والمواطنة، التي عادة ما تتداول مقالات للصحف الأوروبية والأمريكية مترجمة إلى اللغة الفرنسية أو العربية، حيث أن الصحافة المغربية لا تجرؤ على انتقاد الملك مباشرة. وعلى مستوى الحركات الاجتماعية، نظمت العديد من المظاهرات من خلال الفيسبوك، على غرار الإحتجاج على استمرار الحفل السنوي لتقديم البيعة للملك، وهو حفل تقليدي ومهين يركع فيه الآلاف من ممثلي المواطنين وقادة الأحزاب والعلماء والنخبة العصرية، والحكومة أمام الملك وهو يمتطي صهوة جواده.
علاوة على ذلك، تم تحميل المسؤولية للملك في القضية الكبرى التي هزت الرأي العام في البلاد في بداية غشت 2013. عندما أصدر ــ عن طريق الخطأ ــ العفو عن مغتصب الأطفال “دانيال كالفان”، الذي حكم عليه بالسجن لمدة 30 سنة بتهمة اغتصاب إحدى عشر طفلا في مدينة القنيطرة. خرجت مظاهرات غاضبة في الرباط، وقابلتها الشرطة بالقمع. ومع ذلك عاد الآلاف في العديد من المدن إلى الإحتجاج في الشارع مرة أخرى، ما دفع وزير الداخلية إلى التصريح بإنه لم يصدر أي أوامر إلى الشرطة بالتدخل. كما أن القصر سحب العفو، للمرة الأولى في تاريخه، واعترف أنه ارتكب خطأ. اعتبر المواطنون هذا الإعتراف اعتذارا ضمنيا، وبذلك عاد الهدوء إلى الشارع. وفسرته الغالبية بأن الملك “ديمقراطي جيد”، ينصت للمطالب الشعبية.
خلال الحملة الانتخابية في صيف 2014 تبنى حزب “العدالة والتنمية” خطابا يدعم الإصلاحات السياسية والاقتصادية، والمواطنة الحقة والعدالة الاجتماعية، واستقلال السلطة القضائية ووسائل الإعلام، وتبنى شعار “مكافحة الاستبداد والفساد”، وهو شعار شبيه بالمطالب الرئيسية للحركات الاجتماعية في المغرب. ومع ذلك، اصطدم بنكيران، رئيس الحكومة، مع النظام الملكي، ولهذا عجز عن ممارسة كافة الصلاحيات التي يخولها له الدستور الجديد. هذا التوزيع غير المتكافئ للسلطة بين الملك ورئيس الحكومة أثر على أداء حزب العدالة والتنمية. وعندما قال بنكيران: “عفا الله عما سلف”، طمأن حزبه النخبة، إلا أنه، ضمنيا، تخلى عن شعاره الأساسي “محاربة الفساد والإستبداد”. “البيجيدي” برر ذلك لناخبيه بكون الخيار السلمي والتدريجي هو السبيل الوحيد القابل للتطبيق لتجنب العنف والصدام مع المخزن، أي “الدولة العميقة”.
وبسبب الأزمة المالية، ولأن النظام لم يكن يرغب في دعم القرارات التي من شأنها زيادة شعبية حزب “العدالة والتنمية”، فقد فشلت الحكومة في الوفاء بالوعود الاجتماعية الأكثر أهمية. وعانى الحزب الإسلامي الأمرين من أجل إقرار دعم شهري مباشر بقدر 1000 درهم للأرامل والأيتام القاصرين وزيادة 200 درهم في منح الطلبة. ناهيك أن هناك تحديات اجتماعية أكبر، مثل بطالة الشباب والتضخم، لم يستطع معالجتها. ضف إلى ذلك أن الدين العام بلغ 68 مليار يورو سنة 2014 (%81 من الناتج المحلي الإجمالي)، مقارنة بـ 62 مليار يورو في نهاية 2013.
حصل هذا التراجع العام تزامنا مع الانقلاب العسكري في مصر، والحرب الأهلية في ليبيا، والتوسع السريع لتنظيم “الدولة الإسلامية” في العراق وسوريا. لذلك كان الشغل الشاغل المشترك للنظام وحزب “العدالة والتنمية” معا هو الحفاظ على الاستقرار الداخلي. أما الجهات المحافظة داخل النظام فقد استفادت من الوضع السياسي الجديد لمواصلة قمع حرية التعبير تحت ذريعة محاربة الإرهاب. وبالمقابل، يبدو أن الغالبية العظمى من المواطنين، الذين ليس لديهم أي اهتمام بالسياسة، يفضلون الحفاظ على الوضع الراهن في المغرب، إذ يرون أنه أكثر أمانا وأكثر استقرارا مما هو عليه في معظم البلدان العربية الأخرى. ولذلك، فإن النشطاء الذين يناضلون من أجل المزيد من حقوق المواطنة وجدوا أنفسهم معزولين، ولا يحصلون على الدعم اللازم من الناس. قالت نعيمة، وهي امرأة محجبة في الأربعين من عمرها، وهي أم لثلاثة أطفال لأحد نشطاء حركة 20 فبراير، كان يحاول إقناعها بالإحتجاج والدفاع عن حقوقها: “نعم، هناك ظلم في بلادنا، ولكننا على الأقل لا نقتل”.
في الواقع هناك شعور بأن الفضاء السياسي يتقلص أكثر فأكثر، وضاق مجال الإشتغال من أجل دعم التغيير واحترام حقوق الإنسان بله عن توسيعها. ويترافق ذلك مع المخاوف من أن المطالبة بالإصلاح قد تمهد الطريق أمام العنف والإرهاب على التراب الوطني. بالنسبة لغالبية الشعب، يبقى الوضع العام في المغرب أفضل بكثير مما هو عليه في جل الدول العربية الأخرى. وفي هذا السياق، تبدو تكلفة الإحتجاج والمطالبة بالتغيير السياسي أهم من أي تحسينات طفيفة محتملة.