لم نَتناول حتّى الآن سوى الجوانب الايجَابية لتكْنوليجيات الأنترنت.  صّفاتٌ تُمكّن ركاب وطاقم سفينة الفضاء (الأرض) استخدامها كمنصة لتشغيل رافعة للتضامن العالمي. وهذه الصفات تكمن في:

1.هيكل مفتوح وديمقراطي وأفقي للويب (خلافا للهيكل الرأسي، الاحْتكاري، من أعَلى إلى أسْفل نحو الشّبكات السّمعية البصرية) وكذا التواصل الواسع « plusieurs-à- plusieurs » التي تتيحه.

2. قدرتها العملية والتكتيكية على تجميع الأفراد والجماعات المعزولة حول نفس القضايا رغم الحواجز الجغرافية والمؤسسية.

ومع ذلك، قَد يَبدو الأنترنت مُرعبا من عدة جوانب. وهذا هو ما نطلق عليه “الجانب المظلم” للتكنولوجيا.  تستثمر الحكومات والشركات على حد سواء، في جَمع وتخزين كمية هائلة من بياناتنا الشخصية (وهي ممارسة نَفَتها الحُكومة الأمريكية لمدة طويلة). فشركات مثل “أمازون” مثلا تستخدم خوارزميات متطورة لإنشاء ملفّات تعريف الزّبناء المحتملين لغرض وحيد هو التلاعب بهم وجرهم للاستهلاك.  إن الدول تسْتخدم نفس التّقنيات (إنشاء ملفات تعريف لمعَارضين مُحْتملين) لغَرض وحيد هو قَمع الشعوب. للحفاظ على امتيازاتها بمنطقة الشرق الأوسط، ترسل الولايات المتحدة طائرات بدون طيار إلى باكسْتان (“تقودها” قواعد عسكرية في ولاية إيداهو) لغرض اغتيال معارضين مزعومين. على الأراضي الأمريكية، تستخدم الطائرات بدون طيار لتصوير المتظاهرين. يمكن لـ “أمازون” في المستقبل القريب، بعث الطرود في طائرات بدون طيار. الخيال العلمي البائس   يصبح حقيقة واقعية.

هذه المجموعة الكَبيرة من البيانات الشّخصية المخزنة، يعتبرُ، في حد ذاته، غزوا ضخمًا للخصوصية.  وهي ممارسة تستخدمها الدول ووكالات الاسْتخبارات الخاصّة. هذه الأشياء تذكّرنا برؤية الواقع المرير لأورويل في روايته  “1984”: “الأخ الأكْبر يُراقبك“.

وعلاوة على ذلك، حسب وجهة نظر النقد الثقافي، في الإنترنت مجرد أداة لانحراف أدمغتنا. يضعف  عقُولنا، ويشجع الإدمان (الاباحية، الألعاب)، يدمر مجتمعاتنا ويقلص العلاقات الإنسانية إلى مجرد ضغط  على زر “أعجبني” على الفيسبوك. ومع الفضاء الإلكتروني الذي يتطور بأضعاف مضاعفة، فبعد عشر سنوات، سيظهر حجم أنترنت اليوم ككرة كولف مقارنة بحجم الشمس.

ومثل أي مجال آخر من مجالات المجتمع الرأسمالي، فإن الفضاء الإلكتروني يبقى محل خلاف.  ليست جيدة أو سيئة في حد ذاتها، وإنما التكنولوجيا الرقمية أداة، وسلاح في بعض الأحيان. إن الدول والفئات الاجتماعية المتنافسة على إخضاع أحدث التكنولوجيا، إنما لخدمة مصالحها الخاصة (البعض يستخدمها لتعزيز حرية التعبير والتحرر الإنساني، والبعض الآخر لتحقيق مكاسب مالية أو السيطرة على العالم). وبما أن “المال” هو “الملك“، فليس مستغربا أن تنفق الشركات متعددة الجنسيات والدول العسكرية التي تدافع عن مصالحها الخاصة، مبالغ طائلة في “تكنولوجيا المراقبة“.

المراقبة الجماعية نمّت الهيستيريا ونظريات المؤامرة في كل من اليسار، وصولا إلى الرجعية كـ”أردوغان” رئيس الوزراء التركي. لكن، ورغم ظلمة الأنترنت الاستبدادي، تبدو نتائج النضال من أجل فضاء إلكتروني مفتوح لا تزال غير مؤكدة. اذن عوض الخضوع للإصابة “بِالذُّهانِ الهَذَيانيِّ“، لنأخذ الوقت للنظر بموضوعية “للجانب المظلم” للإنترنت في سياق الامكانيات المتاحة من أجل التحرر، وذلك عن طريق الموازنة بين الايجابيات والسلبيات. في مواجهة مجموعة واسعة من الأسلحة الرقمية  التي تملكها الشركات والدول، فإن قوة بضعة آلاف من الهواتف المحمولة في أيدي المحتجين المؤيدين للديمقراطية في هونغ كونغ قد تبدو ضئيلة. ولكن هل هي حقا كذلك؟ تمكن محتجي“ثورة مظلة“، من خلال هواتفهم وتطبيق مرتجل لشبكة اجتماعية (FireChat)، السيطرة على العاصمة المالية في آسيا وارباك “الصين الشيوعية القوية ” لأكثر من شهرين.  هل هي معركة بين داوود وجوليات (المستوحاة من الانجيل)؟

المراقبة الحكومية

دَعونا نبدأ معَ المُراقبة الجمَاعية (الجماهيرية). ما كشَف عنه “إدوارد سْنودن” حول جمْع معلومات ضخمة من التسجيلات الهاتفية ورسائل البريد الإلكتروني، بما في ذلك معلومات رؤساء الدول مثل ”أنجيلا ميركل”، قد فتح أخيرا النقاش حول الحُرّيات المدنية والحَق في الخُصوصية.  في الوقت الذي يدّعي فيه الرئيس ”أوباما” و“الكونغرس الأمريكي” وقْف المُراقبة الجَماعية (كما لو أن  تخزين كم هائل من البيانات من طرف شَركات الهَاتف سوْف يحدث فرقًا!)، وقد  أظهرت التسريبات المتعلقة بالكنز الشاسع من الوثائق الحكومية السرية التي جمعها “سنودن” أن هذه المراقبة، بما في ذلك الاستفزازات، تتزايد باستمرار. والولايات المتحدة  ليست البلد الوحيد الذي دخل في حرْب رقميّة ضدّ مواطنيه وأعدائه المزعومين في الخارج. فالصّين على وجه الخُصوص تملك ترسانة متطورة جدّا من أجهزة وبرامج المراقبة والاختراق. ناهيك عن المجرمين الذين يستخدمون نفس الأساليب لسرقة الهويات وإفراغ الحسابات البنكية.

على حد تعبير مؤسس موقع ويكيليكس، جوليان أسانج: فـ”في الوقت الذي  يملك فيه الإنترنت قدرة هائلة لم يسبق لها مثيل، إلى المستوى الذي يُظهر لنا تحركات الحكومات والشركات القمعية ويسمح  لنا بدفعها للمساءلة عن أفعالها، يبقى أيضا أكبر آلة للتجسس عرفها العالم حتى اليوم.”^[1] وهذا لا يبعث على السرور !

تجسس الدول والتهرب الإجرامي ليست أشياء جديدة. كشف “غلين غرينوالد” في الآونة الأخيرة أنّ مكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالات الاستخبارات الأميركية الأخرى تستخدم الإنترنت للتحايل =لتشويه سمعة/إفقاد مصداقية، وإرشاء وتجريم الأفراد أو الجماعات الراديكالية، تماما كما كانوا يفعلون في الستينيات من خلال برنامج كوينتيلبرو (COINTELPRO)^[2]. هذه الفضائح لم تعد تفاجئني. كناشط تم التنصت على هاتفه وتم فتح رسائله منذ الخمسينيات في عهد “إدغار هوفر“، لست مندهشا بشكل خاص بمعرفة أن وكالة الأمن القومي تجمع يوميا وعشوائيا المليارات من رسائل البريد الإلكتروني والمكالمات الهاتفية من جميع من هم على هذا الكوكب. الفرق هو أنهم سابقا كانوا يرسلون محققا إلى رئيس عملك لجعله يطردك. اليوم، بإمكانهم تدميرك عبر الفيسبوك.

أساءت أحدث فضيحة حول المراقبة الإلكترونية الجماعية سمعة الإنترنت ونمت  ”البَارانوايّا” الرقمية لدى اليسار. وهل بهذا المعنى تفقد المراقبة الرقمية للإنترنت مصداقيتها؟ ليس أكثر من فتح الرسائل أو التنصت على المكالمات  التي مست بسمعة النظام البريدي والهاتف! بالإضافة إلى ذلك،  يمكن أن يكون الجمع والتخزين الهائل للبيانات عديم الجدوى، وقد يكون ذا نتائج عكسية. يمكن للمرء أن يطرح سؤالا مشروعا على سبيل المثال، حول كيف سيتمكن المحققون الحكوميون من إيجاد الإبرة المخربة وسط كومة القش الرقمية الهائلة من الميجابايتس المخزنة في هذا المنتجع العملاق الجديد في ولاية يوتا.  على العكس، فقد أضعف استبدال “الجواسيس البشر” بالتكنولوجيا قدرات أجهزة الاستخبارات. في حين أن المعلومات ذات قيمة حقيقية لإحباط التهديدات الأمنية قد يكون غالبا بلغة أجنبية، مثل العربية أو الصينية، وتم خفض عدد الموظفين والمترجمين الفوريين بشدة. ناهيك عن حقيقة أن المترجمين الأصليين قد يميلون للعمل لصالح الطرف الآخر. إن التدخل العشوائي أفقد، على الصعيد العالمي، مصداقية ما يسمى “أجهزة الاستخبارات” الأمريكية. مما تسبب في انتقادها من طرف أنجيلا ميركل وديلما روسيف وجيمي كارتر. هذا يثبت أن “الذكاء العسكري” يمثل “”للذكاء“” ما تمثله “”الموسيقى العسكرية” للموسيقى.

كما هو الشأن بالنسبة لاستخدام التعذيب،  فقد فشلت برامج المراقبة الجماعية في إحباط المؤامرات الإرهابية وقلصت بشكل كبير من الآراء الموالية للولايات المتحدة في جميع أنحاء العالم. السياسة اللاإنسانية لأوباما بالقتل عبر الطائرات بدون طيار التي تستهدف اعتمادا على ”البروفايل‘، مع حتمية سقوط ضحايا مدنيين، وقد عبأ بلا شك أكثر لتجنيد مقاتلين جدد في تنظيم القاعدة كما فعل مئات الدعاة الإسلاميين. الإمبريالية الأمريكية تخسر بشكل واضح على حد سواء الحرب “لكسب قلوب وعقول الناس” والحرب ضد “الإرهاب“. “انتصاراتها” في العراق وأفغانستان لم تترك شيئا في أعقابها سوى الأنقاض والحقد، مما يمهد الطريق أمام الدولة الإسْلامية.

السرية.. الرقابة..

هناك أكثر من مُجرّد تجسس الدّول في الجانب المظلم من الإنترنت. “الفضاء السبرنيتيقي” يعتبر  بكامله مساحة عليها جدال. وإن  الخصوصية، الرقابة، التشفير، والشجب، وقرصنة الكمبيوتر، هي مجالات أخرى تستثمر فيها الحكومات والشركات المتعددة الجنسيات بكثافة لتستطيع السيطرة عليها. ومع ذلك فهي مجالات من الفضاء الرقمي يمكن لـ ”داوود” خلالها أن يتجاوز ”جوليات”.

لنأخذ مثال الرقابة. إن الديكتاتوريات المهدّدة بثورات يتم التنسيق لها عبر ”الفيسبوك” و”تويتر”، يمكنها، بطبيعة الحال، ببساطة أن تمنع الوصول إلى الإنترنت، كما حدث في مصر في 2011 ومؤخرا في تركيا. ولكن إلى متى؟ تحرم السّلطات نفسها، بإجراءات مَنع الانترنت، من الإبداع ومن المحفز التكنولوجي اللازم وتَغرق في الرّكود. الرّقابة الأخيرة للصين على الانترنت “تضر بالاقتصاد الصيني وتخلق فجوة كبيرة بين الصين وبقية العالم“^[3]. ويمكن القول، أن هذا النوع من الرقابة كان  من أحد الأسباب التي أدت إلى انهيار النظام الشمولي الشيوعي في روسيا والذي كان، في نهاية القرن العشرين، متأخرا على الغرب في المجال المعلوماتي.

وقد وضعت السّلطات الصّينية ما يسمى “جدار الحماية” ( Pare-feu) لمنْع  المُناقشات المفتوحة على شَبكة الإنترنت حول موضوعَات مثل الدّيمقراطية. لكن المُدونين وبَاقي المُعلّقين يتمكنون من التواصل باستخدام “لغة ايسوب“^[4]. وتستغل السلطات الصينية (بمساعدة من “ياهو“، “الفيسبوك” و“لا تكونوا شرسين” الـ ”غوغل”) البريد الإلكتروني للتجسس على المعارضين ومعاقبتهم في حين أنه في الولايات المتحدة الأمريكية، فإن الرئيس أوباما الذي حاضَرَ الصينيين في “حرية التعبير“، يعاقب بقسوة الصحافيين المعارضين مثل “جوليان أسانج” مؤسس “ويكيليكس“، والمنبهون الوطنيون مثل الجندي “مانينغ تشيلسي” و“إدوارد سنودن“.

من البَديهي القول أن تقنيات الشّبكات الحالية، تسمح بتواصل plusieurs-à-plusieurs، وهي مشكلة حقيقية للحكومات القمعية. بما أن المحتوى الخاص بك يمكن أن يتكرر إلى ما لا نهاية ويخزن على الأقراص الصلبة في جميع أنحاء العالم، لا يمكن للذين يطمحون للرقابة فقط تدمير مطبعتك أو مصادرة صحيفتك لإسكات صوتك. في جميع الأحوال، دائما ما يجد الهاكرز  في نهاية المطاف طرق للالتفاف على العوائق التي تضعها الرقابة الصينية والمتواطئين معها من الشركات الأمريكية الكبيرة. وحتى لو عرقلت السلطات الوصول إلى شبكة الإنترنت، التكنولوجيا مفتوحة المصدر التي يقال عنها “إنترنت في حقيبة” تسمح لهواتف  بالتواصل من خلال اتصال تدريجيا، من جيب لجيب بدون نقطة وصل مركزية.

وسنفصل فيها في الجزء القادم، يتبع

ترجمة: عبد الصمد أيت عيشة، هشام منصوري، قدس لفناتسا