منذ أبريل الماضي، يقاطع المغاربة الذين ضاقوا ذرعاً بالوتيرة البطيئة للتقدّم الاجتماعي والاقتصادي، ثلاث شركات وطنية كبرى: شركة “سنترال دانون” المنتِجة لمشتقات الحليب وهي فرع من فروع الشركة الفرنسية “جرفيه دانون”؛ وشركة “أولماس للمياه المعدنية”، المصنِّعة لمياه “سيدي علي” المعبّأة واسعة الانتشار في المغرب؛ وشركة “أفريقيا” التي هي من كبريات شركات توزيع الغاز وبيعه بالتجزئة.

يعتمد الجمهور بصورة مطّردة مقاربة بديلة للمشاركة السياسية، فيما تبدو المنظومة السياسية التقليدية في البلاد عاجزة عن التصدّي للتحديات اليومية. تعبّر حملات المقاطعة، التي أُطلِقت إلكترونياً في أبريل الماضي، عن الهواجس التي تراود عدداً كبيراً من المغاربة بشأن قدرتهم على تحمّل كلفة المعيشة الآخذة في الارتفاع في البلاد. ويُحفَّزهم في تحرّكهم هذا اعتقادٌ بأن أسعار المواد الغذائية شهدت تضُخِّماً غير منصِف.

تطبع هذه التطورات تغييراً في المسار السياسي المغربي في مرحلة مابعد العام 2011، حين حاول السياسيون أن يصبحوا أكثر استجابةً للمشاعر الشعبية. بيد أن الدور الأكثر علانيةً الذي يؤدّيه البلاط الملكي في السياسة تسبّب بإضعاف الفرقاء السياسيين، وجعل مجدّداً مفاهيم على غرار التمثيل السياسي والانتخابات، فاقدةً للمعنى. نتيجةً لذلك، ازدادت التحركات الاحتجاجية. وفيما أصبحت الحكومة أكثر انفصالاً عن السياسية اليومية، بدا المغاربة أكثر انخراطاً فيها.

لم يكن اختيار الشركات التي شملتها المقاطعة وليد الصدفة. فقد وقع الاختيار عليها نظراً إلى حصتها الكبيرة في السوق، وعلاقتها المقرّبة بدوائر السلطة، وعدم اكتراثها، كما يُعتقَد، لخير المغاربة. كانت شركة “سنترال دانون” تخضع سابقاً للإدارة المشتركة من شركة “دانون” الفرنسية و”الشركة الوطنية للاستثمار”، وهي شركة قابضة ملكية، لكن منذ العام 2014، استحوذت “دانون” على غالبية حصصها.

أما شركة “أولماس للمياه المعدنية” فمملوكة من تجمّع شركات “هولماركوم” ذي المُلكية والإدارة العائليتَين. تتولّى مريم بنصالح شقرون إدارة شركة “أولماس”، وهي كانت تشغل مؤخراً منصب رئيسة الاتحاد العام لمقاولات المغرب. تربط شقرون، وفق ما أُفيد، علاقات وثيقة بالملك محمد السادس، وتجسّد في شخصها الروابط القوية بين نخبة الأعمال والقصر، وغالباً ماتُرافق الملك إلى الخارج ضمن وفود الأعمال.

لكن لعل المقاطعة الأكثر شحناً بالانفعالات في نظر المغاربة هي مقاطعة شركة “أفريقيا”، إذ أن عدداً كبيراً من الأشخاص يعتبر أن هذه الشركة تجسيدٌ للزبائنية. عزيز أخنوش هو مالك ومدير “مجموعة أكوا”، التي تنتمي إليها شركة “أفريقيا”، وهي عبارة عن تجمّع شركات عائلية ورثه عن والده. “مجموعة أكوا” متخصصة في تكرير المنتجات البتروكيميائية، ولاسيما البنزين والوقود، وفي توزيعها على المستهلك، وهي منخرطة كذلك في قطاعَي العقارات والتطوير. أخنوش صديق مقرّب للملك ويشغل راهناً منصب وزير الفلاحة والصيد البحري، مع العلم بأنه تولّى هذه الحقيبة الوزارية في ثلاث حكومات منذ العام 2007. لكن بعد أواخر العام 2016، صعد نجمه السياسي مع تسلّمه قيادة التجمع الوطني للأحرار على إثر الانتخابات البرلمانية. وقد عطّل التجمع بقيادته آلية تشكيل الحكومة بناءً على طلب القصر، في خطوةٍ هدفت إلى الإبقاء على هيمنة الملك على إدارة السياسة المغربية.

تُعتبر السيطرة على الاقتصاد من جانب نخبة صغيرة في قطاع الأعمال مقرّبة من الملَكية – ومن جانب النظام الملكي نفسه – محرِّكاً أساسياً لاحتجاجات العام 2011، ودافعاً مهماً لحملات المقاطعة الراهنة، ناهيك عن أنها تعكس مشكلة أعمق في المغرب. فعلى الرغم من التطورات المهمة على امتداد العقدَين الماضيين، لاتزال الحوكمة غير الملائمة تتسبّب بتحديات اقتصادية وإنمائية وإدارية كبيرة للبلاد، تنعكس في التنمية غير المتساوية، والفساد، وتردّي الخدمات، وارتفاع معدّلات البطالة. وقد برزت هذه التحديات إلى الواجهة في الأعوام الماضية، فيما ازداد العصيان المدني منذ العام 2011.

عرف المغرب تحركات احتجاجية على امتداد تاريخه. ففيما يدرك المغاربة حقّ إدراك كيف أن الاحتجاجات المناهضة للحكومة في مناطق أخرى من العالم العربي تسبّبت بفوضى سياسية ونزاعات في الأعوام الأخيرة، ليس هناك عدد كبير من الوسائل الحيوية الأخرى المتاحة للفت الانتباه إلى المشاكل التي يعانون منها في وجه حكومات لاتستجيب لمطالبهم. في تشرين اأكتوبر 2016، اهتزّت البلاد على وقع الاحتجاجات التي اندلعت في منطقة الريف شمال المغرب واستمرت حتى فترة غير بعيدة، عندما استُخدمت الاعتقالات الجماعية لوضع حد لها. وفي سبتمبر وتشرين أكتوبر 2017، اندلعت احتجاجات في مدينة زاكورة في جبال الأطلس في جهة درعة-تافيلالت التي تُعتبَر الأشد فقراً في المغرب، وحيث عانى المواطنون الأمرّين من أجل الحصول على مياه شفة نظيفة. قبل ذلك، في إقليم تنغير الواقع في الجهة نفسها، اندلعت احتجاجات في أبريل 2017 على إثر وفاة فتاة صغيرة بعد تعرّضها لحادثة سقوط، وذلك لأن المستشفيات المحلية غير مزوّدة بالتجهيزات المناسبة لمعالجتها من الإصابة التي تعرّضت لها. وفي يناير وفبراير 2018، عمّت موجة أخرى من الاحتجاجات مدينة جرادة والنواحي المحيطة بها في شرق المغرب بعد وفاة عاملَين أثناء محاولتهما الاسترزاق داخل منجم مغلق في ظروف محفوفة بالمخاطر. وقد سلّط ذلك الضوء من جديد على غياب الخدمات الحيوية، والفقر المدقع الذي يعاني منه عدد كبير من المواطنين.

فشلت الحكومة في تأمين حلول مُرضية لعدد كبير من المشاكل. فهي لاتزال عاجزة عن تحسين الأوضاع الاقتصادية وزيادة فرص العمل، ولاسيما للشباب. وقد سعى القصر إلى التدخّل، لكنه يفتقر إلى استراتيجية متماسكة. في أكتوبر 2017، اشتكى الملك، في واحد من خطابات عدة تطرّق فيها إلى المسألة، من حالة الإدارة العامة وعجز الاقتصاد عن تلبية احتياجات المواطنين. ومنذ ذلك الوقت، أعلن عن تغييرات في الإدارة على المستويَين المركزي والمحلي، حتى إنه تحدّث عن المساءلة. بيد أن تضحية القصر الروتينية والشكلية بالسياسيين والبيروقراطيين تفقد فاعليتها، إذ إن هذه التدابير عجزت عن إحداث وقع لدى المغاربة. فلايزال كثرٌ يعبّرون عن شعور عميق بالاستياء والقلق على مستقبل البلاد، ويشيرون إلى غياب واضح للخصال القيادية لدى الملَكية والحكومة.

يلتقي المغاربة، حتى أولئك الذين يحترمون الملك والملَكية، على الشكوى من انفصال الملك مجازياً وجسدياً أيضاً عن البلاد. فوفق ما أشار إليه الصحافي الإسباني إيغناسيو كمبريرو، وهو مراقب مخضرم للشؤون المغربية، على الرغم من أن محمد السادس يحتكر فعلياً جميع السلطات السياسية، إلا أنه أمضى 20 يوماً فقط من الأشهر الثلاثة الأولى من العام الجاري في الأراضي المغربية. يُثير هذا الابتعاد قلق المغاربة، ولاسيما عندما تبدو البلاد في مهب الريح.

علاوةً على ذلك، تلقّت الطبقة السياسية ضربات كبرى. فحزب العدالة والتنمية الإسلامي، الذي كانت شعبيته قد ارتفعت قبل انتخابات 2016، تعرّض للإضعاف وتعطيل نفوذه عبر إرغامه على الدخول في ائتلاف حكومي ضعيف. وقد فشلت هذه الحكومة في تلبية الاحتياجات الوطنية بسبب غياب الإرادة السياسية، والمصالح المتضارِبة للأفرقاء في ائتلافٍ غير منضبط، وشلّ إمكاناتها على يد البلاط الملكي.

وبدلاً من معالجة المسائل الأساسية، قرّر القصر والحكومة محاربة التململ الآخذ في الاتساع. فقد فرضا قيوداً شديدة على حرية الخطاب والتعبير، مع تهديد الأفراد أو وسائل الإعلام بتحمّل تبعات قانونية في حال تخطّوا الحدود. وخير مثال على ذلك محاكمة الأشخاص الذين شاركوا في احتجاجات الريف. فربما وصل عدد الموقوفين إلى ألف شخص، وصدرت أحكام مشدّدة بحق عدد كبير منهم لتكون بمثابة رادع يثني المغاربة عن تنظيم مزيد من التظاهرات، مع العلم بأن بعضهم حصلوا على عفو مؤخراً. قد يكون اللجوء إلى القوة مقاربة ناجحة في المدى القصير، لكنه يؤشّر إلى غياب الحلول الحيوية للمشاكل التي يتخبط فيها المغرب.

في تشرين أكتوبر 2017، وعد الملك بـ”زلزال سياسي” لدفع الطبقة السياسية إلى التحرك. وفي يوليو 2018، ألقى خطاباً آخر اشتكى فيه من غياب التقدم وأقرّ بأنه ثمة شيء “مفقود”. في الماضي، غالباً ماكانت الملكية تسعى، ولو سطحياً، إلى بثّ شعور بالتفاؤل. غير أن الملك يفقد شيئاً فشيئاً مكانته كركيزة في وجه الاستياء الشعبي. بدلاً من ذلك، عكست خطاباته الأخيرة إحباطاً متصاعداً قد يمهّد الطريق أمام إحكام السيطرة الملكية وفرض مزيد من القيود على الحريات السياسية.

المفارقة هي أن الملك يتمتع أصلاً بنفوذ كبير، ولذلك إذا لم يُبذَل أي مجهود لتحسين الوضع، فقد يرتدّ ذلك بالسوء على الملَكية نفسها. في غضون ذلك، يبحث المغاربة، وفق ماأظهرته حملات المقاطعة، عن طرق بديلة لإحداث تغيير.

– المصدر: موقع صدى