يلقي المفكر وعالم الأنتروبولوجيا المغربي عبد الله حمودي الضوء على المعرفة “المستوردة” من الغرب في ميادين العلوم الاجتماعية والسياسية والإنسانية عموما، مفككا بنيتها الفكرية ومبرزا كيف مارس الاستعمار هيمنته ليس فقط على مقدرات وموارد المغاربة وإنما على فكرهم كذلك من خلال المدارس والبرامج التعليمية.

وبالنسبة لحمودي فإن الفكر الذي كان مهيمنا في تلك الفترة هو الفكر الاستعماري الذي يمجد “فرنسا العظيمة”، وهو ما دفع المغاربة إلى مكافحة هذا “الكيان الموهوم”.

وكشف حمودي، في حوار مصور مع موقعـ “لكم”، وجه الهيمنة هذا الذي يقول إنه يستمر لدى أوساط قوية تنزع لتقديم المعرفة الغربية بطابع “كوني”، ومقدما منهجية في التعامل مع التراث الغربي والتراث المدون باللغة العربية أو بالأمازيغية أو بهما معا في منطقة المغارب والمشرق تعتمد النقد المزدوج للرصيدين دون إغفال الذات الباحثة من عملية التفكر، لتكون المسافة ويكون التحليل.

وفي هذا الحوار المطول يناقش، حمودي، مشروعه الفكري الذي حملته كتاباته خاصة كتابي “المسافة والتحليل” و”ما قبل الحداثة”، وكيف يمكن نزع الاستعمار عن المعرفة وبناء معرفة جديدة لا تقول بالقطيعة مع الموروث الغربي لكن بأخذ مسافة الحوار واستقلال في التفكير، معتبرا أنه لا يكفي التدريس في الجامعات باللغة العربية حتى تكون المعرفة المدرسة غير غربية، داعيا إلى بداية جعل مكان في الجامعات لبذور هذه المعرفة الجديدة التي سيتطلب إرسائها جيلين أو ثلاثة في نظره، لكنها ستكون البداية.

ويوضح حمودي أن الحديث عن علوم اجتماعية وأنتروبولوجيا عربية بالمعنى الذي يقدمه لا يحمل معنى قوميا شوفينيا قائلا: “لقد أظهرت في كتاب “المسافة والتحليل”معنى عربية، معناه أن تكون مدونة باللغة العربية، واللغة العربية ليست بمفهوم قومي محض، لأن اللغة العربية يكتبها أقوام وتجمع كتاب ومثقفات ومثقفين من أصول عربية وأمازيغية وكردية أو فارسية وغير ذلك .. هذا هو المعنى الدقيق ومعناه أنك تتحدث في أمريكا أو في فرنسا على السوسيولوجيا الفرنسية، المكتوبة بالفرنسية، طبعا الفرنسيين غالبين لكن هناك كنديين وكنديات و آخرين..إذن ليس بالمعنى القومي الشوفيني”.

الاستقلال ليس هو نزع الاستعمار

ويعود حمودي إلى نشأة العلوم الاجتماعية في المغرب والمشرق خلال فترة الاستعمار قائلا: ” العلوم الاجتماعية كما نعرفها اليوم في غالبيتها موروثة عن العلوم الاجتماعية الغربية وفي مقدمتها في المغرب الفرنسية، ثم اليوم صار أكثر فأكثر بالإنجليزية وهذا شائع في المنطقة المغاربية والمشرقية برمتها، بغض النظر عن أن المختصين كتبوا باللغة العربية ودرسوا باللغة العربية في جامعات بالرباط أو فاس أو دمشق أو القاهرة .. لكن المعرفة في غالبيتها أنجزت في أروبا وأمريكا وفي ظروف تاريخية معروفة، ودخلت لهذه البلدان مع الاستعمار عبر مختصين غربيين وبعد الاستقلال، ولا أقول نزع الاستعمار، كان تكوين الجامعات والمدارس، وكانت البرامج منقولة أو شبيهة جدا بالبرامج الفرنسية عندنا بالمغرب والبرامج الإنجليزية وأخرى في المشرق، إذن كونك تدرس بالعربية لا يعني أن البرنامج الذي تدرس والمحتوى يأتي من مراجع عربية أو رصيد عربي أو أمازيغي”.

ويفكك حمودي مظاهر الأزمة في العلوم الاجتماعية الغربية متحدثا عن السياقات التاريخية وكيف تم استيراد هذه العلوم في المغارب والمشرق بأزماتها قائلا: ” ما بعد الحرب “العالمية” الثانية، وهي حرب بين قوات غربية، وأطلق عليها الفرنسيون والإنجليز ..اسم عالمية ، بعد هذه الحرب تغيرت المفاهيم في الغرب.. واليوم هناك أزمة معروفة يتحدث عنها الجميع وهي أزمة ما بعد الحداثة التي شككت في الطابع العلمي للعلوم الاجتماعية الغربية وهذا أيضا أظن أن المختصين في هذه المنطقة ورثوه، لأن من فكر في تلك الأزمة هم بالأساس غربيون، كانت لهم القدرة على انتقاد علومهم، والحال أن الكثير من المختصين المعايشين لفترتنا تحدثوا عن أزمة العلوم الغربية كأنهم اخترعوها وهم نقلوها عن النقد الغربي.

وبخصوص عبارته “استوردوا الحداثة بأزماتها”، يشرح حمودي بأن المقصود هو أننا مازلنا مستمرون في الاستيراد ، كان استيراد النظريات الكلاسيكية، ثم استيراد النقاش الذي ظهر في الغرب، مثلا حينما تم استيراد دوركايم والمدرسة الفرنسية بمصر أولا، ذلك كان بوازع من سلطان مصر وكانت عنده أهداف تحديثية، واليوم هناك أهداف أخرى، العودة للمرجعية الثقافية العربية الإسلامية أو غيرها”، مضيفا: ” علينا أن نفكر من جديد وليس بالضرورة بالفكر النقدي بأوروبا، والذي له إيجابيات ، لكن إذا استوردنا نفس التشكيك فنحن لم نخترع شيئا، أنا أدعو المثقفين العرب والأمازيغ إلى استخدام قدراتهم الفكرية الخاصة”.

الاستعمار خلق ثنائية الحداثة والتقليد عندنا

وعن ثنائية ثنائية الحداثة والتقليد يقول حمودي إن ” لها تاريخ وليست أزلية، لأنها نفسها شيء محدث وأنا لا أقول كل محدث ضلالة، أنا أقول محدث، يعني جيد، لكن ينبغي التفكير في الظروف التي ظهرت فيها الثنائية، وتصبح الثنائية ليست حجرا لا يتغير ولابد أن نفكر من داخله”. وبالعودة لظهور هذه الثنائية زمن الاستعمار الفرنسي يعطي حمودي أمثلة من داخل المدراس وكيف تم تصنيفها وفق تلك الثنائية من قبل الفرنسيين وبعض النخبة المغربية موضحا تصوره لهذه الإشكالية بالقول: “المشروع الذي أتبناه هو التفكير في الحداثة والتقليد وزمنيتها، كيف أن ذلك ظهر في ظروف معينة، الرجوع للأرصدة المدونة بالعربية والأرصدة الأمازيغية والتفكير فيها خارج هذا القالب، وسيظهر أن هذا الرصيد لم يتوقف يوما عن التغير. ما يسمى تقليد يصبح موروثا حيا قابلا للتفكير والرجوع إليه ينبغي أن يكون رجوعا نقديا، كما أن مقابلته بالرصيد الغربي يكون دائما بمنهج نقدي، لتكون المسافة بينه وبين الباحث”.

ويضيف حمودي “إذا لم يتم استيعاب الرصيد الغربي بعمق لا يمكن نقده بفكر مستقل”، مؤكدا أنه “إذا أردت أن تتخلى عن شيء لا بد أن تعرف كنهه، لا يمكن نزع الاستعمار عن المعرفة دون معرفة ذلك الإنجاز العلمي عن ظهر قلب. تريد نزعه ولم تحط بماذا تريد أن تنزع؟ كنت أومن منذ كنت طالبا بجامعة محمد الخامس بالرباط بأن هناك شيء يمكن أن يتبلور شيئا فشيئا يسمى بمعرفة مستقلة عن المعرفة الغربية وعن المعرفة التي أنجزت زمن الاستعمار في زمن الهمينة التامة على المغاربة والمغربيات ليس فقط على قواتهم ومواردهم ولكن الهيمنة على فكرهم”.

وحول وجه تلك الهيمنة الاستعمارية على فكر المغاربة يوضح حمودي أن “الرصيد المدون بالعربية والرصيد الأمازيغي كان تحت وطأة البنية الاستعمارية التي وضعت في برامج التعليم، بنية تسير كل شيء، وهذه البنية هي التي أحاول تفكيكها لإعادة النظر في الأرصدة الموجودة سواء كان الرصيد الذي ورثناه من الاستعمار أو غيره، يعني استيعابها حتى تأزيمها ، حتى تظهر لك أزمتها ، وتأزيمها لا يعني التخلي عن كل ما شخصت”، موضحا أن”الدراسات الاستعمارية كانت كلها مندرجة في إطار متخيل وهو كيان فرنسا العظيمة، وبدأ المغاربة في التخلص من ذلك الكيان الكبير الموهوم ..”.

العروي لم يفكر في نفسه كذات باحثة

في هذا الحوار يخوض حمودي في نقاش مع المفكر عبد الله العروي حول مفهوم “النقد المزدوج” مؤكدا أن “واضعه هو عبد الكريم الخطيبي، والعروي في كتابته كان يقول بنقد المعرفة الاستعمارية بالرجوع للوثائق المغربية التي يمكنها أن تغير الصورة التي تظهر بها الأشياء المغربية في الكتابات الاستعمارية، وحاول أن يخرج بنتائج مغايرة.. وليس هناك نقاش صريح بين العروي والخطيبي، المشروع استنبطه الاثنان مع فارق أن للعروي كان على اطلاع واسع على الرصيد المغربي المدون بالعربية، ولا أريد هنا مقارنته بالخطيبي وهو الآخر كان له الفضل، وهذا أهم شيء، غير أن رجوعه للرصيد التاريخي كان محدودا في حين أن العروي تبحر في ذلك الرصيد”.

ويستمر حمودي في المقارنة بين نظرة المفكرين إلى مفهوم النقد المزدوج قائلا: “لا الخطيبي ولا العروي فكرا في تشخيص ذلك الباحث الذي أصبح وسيطا بين رصيدين أو أكثر، هل هو كاميرا فقط تصور؟ هل هو إنسان أو إنسانة بطموحاته وأسئلته الوجودية ..؟ أنا حاولت أن أفكر في وضعيتي كذات باحثة واستنبط منها أشياء قد تكون صالحة في التفكير في ماهية الوسيط بصفة عامة. وتبقى محاولة، والمحاولة تقارن بالنتائج التي تأتي بها. حاولت التفكير في ماهية الوسيط، هذا الذي يقوم بالنقد المزدوج، وأعترف بجميلهم وأنهم كانوا سباقين إلى هذا. الذي آتي به بدقة هو التفكير في ماهية الذات الباحثة لأن الذات الباحثة لا يمكن أن تزعم أنها ذات مجردة أو مجردة بالكامل. نحن بشر يحاول أن يوسع نظرته ويرى التعدد وأنه ليس ذاتا خارقة للطبيعة البشرية، أظن أن الخطيبي كان لديه شيء من هذا الشعور لكن العروي لم يفكر في ذاته من ناحية تأثيرها على المعرفة التي ينتج، وأختم أنه لا محيد لا عن العروي ولا عن الخطيبي كيفما كانت ملاحظاتي لأنهما فتحا هذا الباب”.

ويقول حمودي: “لا أظن أني متجرد تماما، إنها تجربة، وهذه التجربة تشعر بالذاتية وموقعي كمغربي بتاريخي الذي أتحدث عنه في فصل كامل في كتاب “المسافة والتحليل”، أقول هذه تجربة، هذا ربما الجديد الذي أتيت به، لم أت بكل شيء جديد ولا بنهاية العلم، والأشياء تبقى خاضعة للنقاش”.

بداية نزع الاستعمار عن المعرفة

وحول مصير المعرفة التي تدرس بالجامعات بالمنطقة والتي تعود للزمن الاستعماري يوضح حمودي “لا أقترح التخلي اليوم عما يدرس في الجامعات، طبعا أنتقد الرصيد الغربي ولا أقول أن كل الرصيد الغربي ليس فيه فائدة، بالعكس أقول بالحوار بين الاثنين، أقول بتغيير على المدى المتوسط والبعيد، لأن كل الجامعات والشعب بنيت على أساس البرامج الفرنسية أو الإنجليزية خلال قرن من الزمن، وأن يدرس الباحثون في القاهرة أو فاس أو غيرها بالعرية هذا لا يعني أن البرامج ليست بغربية، لا تفقد غربيتها بمجرد أنها تدرس بالعربية”، مضيفا “إذا بدأنا في المشروع فهذه بداية نزع الاستعمار عن المعرفة مع أنها بداية فقط وقد تتطلب جيلين .. لا يمكن تخريب الشٌّعب الموجودة الآن بالجامعات كلها، لكن يمكن أن تفتح لدروس من هذا القبيل، وأظن ما هو مهم هو تكوين مجموعات العمل إذا اقتنعوا بالمشروع وبعد تمحيصه ونقده والتخلي عما لا يفيد منه، تلك المجموعات أظن أنه يمكن أن تبدأ في تكوين رصيد جديد وشيئا فشيئا يتكون الطلبة والطالبات على مدى بعيد، جيلين أو ثلاث أجيال ..نزع الاستعمار سيكون وهمي إذا اعتقدنا أنه سننزع كل شيء ونبدأ من العدم”.

وينتقد حمودي النظرة الغربية للكونية قائلا: “كان رجال ونساء المعرفة في الغرب يكتبون وكأنهم هم الوحيدون الذين يلجون الكلام الكوني، الذي يصح على الجميع وعلى مستقبل الكرة الأرضية والبشرية. وهذا تم تجاوزه لكن الفكرة لازالت سائدة في أوساط قوية وفي الجامعات، حصل تفكيك هذا في نقد الاستشراق، التفكيك جيد، لكن بعده ينبغي أن يكون هناك بناء، هذا الذي أدعو إليه هو بناء معرفة جديدة فيها يتبارى العلماء والعالمات في المجال العالمي، من أي مكان ليصبح الميدان ميدان منافسة، ويعتبر أن الكونية بناء مستقبلي وليس بناء جاهزا موجودا منذ أيام اليونان وورثته أوروبا، هذه خزعبلات، لا شيء يستدعي أن نخاف من التباري، لكن لابد من الإحاطة بالأرصدة وباللغات”.