رشيق: 2013 كانت بداية انغِلاق جديد في المغرب.. والدولة في حاجة دائما لمن يٌنبِّهٌها (فيديو)
في قراءة لتطور الفعل الاحتجاجي بالمغرب يرصد، السوسيولوجي المختص في علم الاجتماع الحضري، عبد الرحمان رشيق مراحل مختلفة في هذا المسار ويحلل التغيرات التي طرأت على الفعل الاحتجاجي منذ عقود إلى اليوم، وما طرأ من تغير على الفاعلين في حقله من أحزاب ونقابات ومجتمع مدني إلى غاية بروز الحركات الاجتماعية الجديدة واحتجاجات 2011 وما تلاها من مظاهر في ملاعب كرة القدم ومنصات التواصل الاجتماعي.
وفي هذا الحوار المصور، الذي خص به موقع “لكم”، ينطلق النقاش مع عالم الاجتماع الحضري من آخر إصدراته “الدولة ضد المجتمع”، الصادر عام 2016، بالفرنسية، وصدرت ترجمته من طرف عز الدين العلام، عام 2021. ويناقش الحوار تطور دينامية الحركات الاجتماعية واستراتيجية الشارع في المغرب، عبر تاريخ الاحتجاجات في المغرب منذ الاستقلال إلى ما بعد “الربيع العربي”.
ويركز الحوار على العلاقة الجدلية ما بين السلطة والاحتجاج ويقف عند مسار تطور أشكال الاحتجاج من الانتفاضة إلى الاعتصام ثم المظاهرة أخذا بعين الاعتبار النظريات السوسيولوجية التي تفسر الفعل الاحتجاجي.
وفي مستهل حواره يقول رشيق، استاذ علم الاجتماع بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، إن “مرحلة الثمانيات في المغرب عرفت انتفاضات وكانت هناك حركات مهمة، لأنها كانت تحدث في سياق نظام سياسي متسلط لا يسمح أنداك باحتلال المجال العام رغم أنه مقن ومضمون في الدستور، فحق الإضراب وحق المظاهرة حسب ظهير الحريات العامة لسنة 1958، مضمون، لكن لم يكن مسموحا بذلك”.
ويضيف رشيق أن “احتلال المجال العام بصفة سلمية لم يبدأ إلا سنة 1994-1995، وقد صادف ذلك انفتاح سياسي، حيث تم إقرار دستورين سنة 1992 وسنة 1996، والملك الحسن الثاني كان يعرف أنه مريض وكان لزاما عليه أن يضمن الانتقال من عهده إلى عهد الملك محمد السادس وتم النقاش مع المعارضة كي يضمن لهم الصعود للحكومة رغم أنهم لم تكن لهم أغلبية برلمانية، وهذا ما حدث، فقد بويع الملك محمد السادس من طرف أحزاب المعارضة التي كانت تشكل معارضة قوية منذ الاستقلال”.
المغاربة أرسوا تقليد التظاهرة السلمي
وفي سياق الانفتاح الذي ذكره رشيق يقول “ظهرت حركة اجتماعية مهمة أرست تقليد احتلال المجال العام وهي حركة المعطلين، حيث بدأت باعتصامات في مقرات النقابات وبعض الأحزاب، وكانت هناك محاولات كثيرة إلى أن ظهرت مجموعة من الحركة الوطنية للعاطلين الشباب سنة 1994 قامت باعتصام أمام مقر وزارة التربية الوطنية وكانوا مئات الشباب العاطلين نساء ورجالا ودام اعتصامهم أكثر من ثمانية أشهر ليلا ونهارا رغم القمع وتفريقهم في الثانية صباحا ورغم توالي فصول الشتاء والصيف..”.
ويشير رشيق إلى أنه من هنا بدأ إرساء قاعدة احتلال المجال العام بالمغرب، موضحا أن احتلال المجال العام كان في التمثلات الاجتماعية وكذا الرسمية مرتبطا بالتمردات. وأوضح رشيق “الإضراب العام كان يقابله تمرد في الذهنيات ، لذلك كلما كانت محاولة إضراب أو اعتصام يغلقون المحلات والناس لا يعرفون هل يذهبون للعمل أو لا، وهذا يخلق جو مكفهر في المدينة، حيث الدولة من جهتها ترابط قواتها خارج المدن الكبرى، لأنها تعتبر أن إضراب عام يقابله بالضرورة تمرد أو انتفاضة”.
“بعد هذا الإرساء صار بإمكان المغاربة معرفة أنه يمكن أن تكون هناك مظاهرة كبيرة وتمر بسلام”، يقول رشيق مفسرا أنه “كانت هناك مظاهرات ضمت أربعين ألف وستين ألف وكانت تمر بسلام لا من ناحية المتظاهرين ولا من ناحية السلطة التي تسهر على التنظيم، ومن هنا بدأ هذا التقليد إلى يومنا هذا، وهذا التقليد صادف تظاهرات 2011 في إطار ما يسمى بـ )الربيع العربي(، وقد مرت الأمور بخير، والأطروحة التي أدافع عنها هو أنه من بين العوامل التي جعلت الربيع العربي يمر بخير في المغرب هو أن المغاربة أرسوا تقليدا للتظاهرة السلمية، فتظاهرات عشرين فبراير مرت بسلام ولو أنها عبأت الكثير من المغاربة وتقريبا في خمسين مدينة”.
الانفتاح السياسي يساعد على بروز الحركات الاجتماعية
وأكد صاحب كتاب “المجتمع ضد الدولة” “معروف في الأدبيات السوسيولوجية ولدى بعض روادها أن هذه الحركات الاجتماعية لا يمكن أن تكون إلا في ظل الديمقراطية، بمعنى إمكانية أخذ الكلمة يكون متاحا، حيث هناك صحافة مستقلة ولها حق في التعبير، والمواطن أيضا له الحق في التعبير والتجمعات، فالانفتاح السياسي يساعد على بروز هذه الحركات، ودون ذلك يصعب الحديث عن حركات اجتماعية، كما هو الشأن بالنسبة لألان تورين، حيث يمكن الحديث فقط عن مقاومات أو انتفاضات غير منظمة، وليس لها أهداف حركة اجتماعية وإنما لها أهداف أخرى واضحة”.
واستطرد رشيق قائلا: “هناك من لهم مشروع مجتمعي وهم منظمون، ولهم مناضلون وأطر معروفون، بخلاف الانتفاضات سنتي 1981 و1984التي لا يعرف من كان وراءها. إذن، فالانفتاح السياسي يساعد على ظهور حركات اجتماعية، ولذلك يصعب الحديث عن حركات اجتماعية في الصين الشعبية أو في إيران أو في روسيا مثلا، حيث لا يستطيع المناهضون للحرب في أوكرانيا حاليا الخروج للتعبير عن رفضهم لأنهم يعرفون أن النظام السياسي في روسيا متسلط جدا”.
سنة 2013 بداية انغلاق جديد في المغرب
وعن التحول الذي حدث منذ سنة 2013 في السياق السياسي ومظاهره وكيف تم رصد بداية انغلاق جديد يقول رشيق إن هذا الطرح تعززه معطيات من وزارة الداخلية ، تبين أنه منذ سنة 2008 كان هناك تصاعد في كم الاحتجاجات وصلت أوجها خلال سنة 2012 إلى غاية 2013 حيث بدأ التراجع، وذلك وفق أرقام حول عدد الاحتجاجات، ومن بين أسباب ذلك وهي كثيرة، يورد رشيق أهمها: “أولا صعود حزب العدالة والتنمية، حيث كان رئيس الحكومة (عبد الإله بنكيران) يقول دائما في خطاباته )نحن انتخبنا الشعب وسنسهر على تطبيق القانون( بمعنى أن من لم ليس له رخصة من لدن وزارة الداخلية من أجل القيام بوقفة احتجاجية مثلا، فسوف يواجه بالقمع.. والذين كانوا يحتلون المجال العام إلى جانب عشرين فبراير (2011-2012) كانت هناك حركات الشباب العاطلين حيث كانوا يملئون دائما شارع محمد الخامس، وقد ووجهوا بالقمع، وتم إدماجهم في التعليم بعد ذلك لأنه كان هناك خصاص، وبذلك تقلص حجم الاحتجاجات في المغرب.. وهذا من بين عوامل كثيرة” .
وحول حالة الأحزاب السياسية بالمغرب يقول رشيق إن الكل يتحدث عن ضعف الأحزاب السياسية والنقابات وهذا الضعف يظهر من خلال القدرة على التعبئة، “هل يمكن لهذه الإطارات القيام بتعبئة لتحقيق مطلب اجتماعي أو مشروع سياسي إلى غير ذلك؟”، يتساءل رشيق، مبرزا أنه “باستثناء الكنفدرالية الديمقراطية للشغل التي لازالت لها قدرة على التعبئة وإخراج الناس للشارع والقيام بإضراب، ما عدا ذلك هناك ضعف كبير، أضف لذلك منذ بدء مرحلة كورونا إلى الآن أظهرت الدولة أنها سلطوية وقوية ويمكنها منع أي احتجاج وأن تحافظ على الوضع الاجتماعي”.
لم تعد الأحزاب تخدم مصلحة المواطنين
وفي نفس السياق يضيف رشيق ” هناك أبحاث، وقد اشتغلت على واحد منها أنجزها المعهد الملكي للدراسات لاستراتيجية والتي تظهر مشكلة كبيرة وهي: عدم ثقة المغاربة في الأحزاب، وهذا مؤشر مهم يمكن أن يفسر ضعف هذه الأحزاب، حيث يقول الناس )هؤلاء يخدمون مصالهم الشخصية ثم يذهبون(، وهم ينظرون لبرلمانيين وخصوصا خلال مرحلة ولايتي حزب العدالة والتنمية، حيث في هذه العشر سنوات كان الناس يقومون بمقارنات مثلا بين صور المصطفى الرميد سابقا وفيما بعد، وبين صور عبد الإله بنكيران سابقا وفيما بعد . .لقد صارت تمثلات الناس هو أنهم يخدمون مصالحهم الشخصية وليست مصلحة المواطنين، وهذه التمثلات كثيرة ويمكن أن تفسر حتى المشاركة الضعيفة في الانتخابات خصوصا في ضواحي المدن الكبرى” .
وفي سياق عدم الثقة في المنظمات الحزبية والنقابية من لدن المواطنين ظهر فاعلون جدد، و ظهرت التنسيقيات، وهي فاعل جديد، يقول رشيق إنها ” تتحدث عن مطالب (الترسيم، الأجر، الزيادة ..) وتبتعد عن كل ما هو سياسي .. كي يكون بإمكانهم تعبئة شاملة، حيث يمكن أن تعبئ التنسيقية إسلاميين أو ناس من الاتحاد الاشتراكي أو التقدم والاشتراكية ..أو مواطنين وموظفين بلا أي انتماء، حيث تعمل على تعبئة أكبر عدد ممكن على خلاف الأحزاب والنقابات..”، مضيفا أن نفس الأمر فيما يتعلق بـ “حركة الأساتذة المتعاقدين التي هي حركة قوية الآن، وتركز على مطالب دون بعد سياسي، على الأقل في الظاهر لا يظهر هناك هدف سياسي، الهدف هو الإدماج في الوظيفة العمومية حيث يمكن أن تعبئ أكبر عدد”، موضحا أنه “من الصعب الحديث عن احتجاج لا علاقة له بالسياسة فحين تطالب بالشغل فأنت تدخل في صراع مع الدولة ومع الشرطة أو وزارة الداخلية، فالذي لا يظهر هو الانتماء السياسي للمحتجين، فكيف سنعرف أن العدل والإحسان موجودة بتنسيقات )المتعاقدين(، وهل هناك حزب الأصالة ومعاصرة أو غير ذلك .. رغم أن وزارة الداخلية، في تصريحات وزير الداخلية عبد الواحد الفتيت بالبرلمان يقول أن العدل والإحسان تحرك تظاهرات هذه الحركة”.
المقاطعة استهدفت أخنوش انتقاما من دوره في البلوكاج
وعن علاقات الحركات الاجتماعية بوسائل التواصل الاجتماعي يقول رشيق أنه “منذ سنة 2011 صار هناك انخراط كبير في شبكات التواصل الاجتماعي لتتبع ما يحدث في تونس والمغرب.. رغم أنه الآن هناك صدى كبير لهذه الشبكات في أوساط الشباب من خلال تعدد المنصات .. وهي تلعب دور التعبئة، تعبئة ناس غير مرئيين، وهناك تعبئات نجحت مثل ما حدث في مقاطعة بعض المنتجات، فقد كانت هناك مقاطعة استهدفت أخنوش قبل تلك الفترة من قبل الإسلامين، خصوصا أنه خلال ما سمي ـ )البلوكاج( عرقل بنكيران وفرض الاتحاد الاشتراكي..، وعلى ما يظهر فانتقاما منه كانت هناك حركة مقاطعة لشركة إفريقيا لوحدها، لكنها لم تنجح ، لماذا نجحت سنة فيما بعد؟ هذا هو السؤال الكبير وكان لذلك أثر واقعي، وكان ذلك صعبا لأنه أمر جديد بالنسبة للدولة، رغم أنها اعتبرته بداية حدثا عابرا، إلا أنه كانت له تداعيات اقتصادية على الاقتصاد الوطني وليس فقط الشركات الثلاث.. ولم يكن ممكنا معرفة هويات الناشطين في هذه الحملة”.
أما أشكال التعبير الاحتجاجية التي تحفل بها ملاعب كرة القدم من حين لآخر، فيعلق رشيق قائلا: “احتجاجات ملاعب كرة القدم تقوت بصفة بارزة منذ سنة 2016 حينما منعت وزارة الداخلية الإلتراس بسبب وفاة شاب.. وقد رخصت لهم فيما بعد، وفي مقابل ذلك كان الانفتاح السياسي في طريق الانغلاق حيث صار يٌقابَلٌ الأساتذة وغيرهم بالعنف بطريقة يرون أنها ممنهجة، وللتعبير عن الغضب بدأ اللجوء لكرة القدم، حيث يتم التعبير بتلقائية، إضافة أن هناك ألتراس لهم تصور خاص ويحاولون التعبئة من خلاله، وأناشيدهم (اتحاد طنجة، الرجاء، الوداد، الجيش..) تعبر عن غضب كبير وكثيف”.
ورغم التباين بين الأجيال في الاحتجاج والتعبير فهم “يتوحدون في هدف واحد وهو التنديد بواقع اجتماعي لا يطاق لا بالنسبة للشباب الآن ولا بالنسبة للجيل الذي عاش سنوات الرصاص وهم جيل مناضل ومنظم سياسيا، في أحزاب وفي منظمات حقوقية، ليسوا كالمواطنين العاديين في ملاعب كرة القدم ..رغم أن اللألتراس منظمين ولهم تصور وشعاراتهم قوية”، على حد تعبير رشيق.
الانطوائية الاجتماعية بالمدن ضد تعبئة الناس
ويؤكد رشيق أن “المجتمع المدني والنقابات تلعب دور تلطيف الأجواء، فأي مجتمع سياسي لا يمكن أن يعيش دون وساطات اجتماعية، وإلا سنعيش في فوضى عارمة”، موضحا أن “هذه الوساطة من خلال العديد من الأبحاث هي وساطة ضعيفة، ويمكن الغوص لتفسير الأمر حتى في العلاقات الاجتماعية، حيث صارت العلاقات خصوصا في المدن الكبرى علاقات انطوائية ( بين الجيران مثلا)، حتى إذا أردت أن تحتج على شيء ما تحتج على أمر فأنت لا تعرف جارك .. والناس تميل إلى )التيقار( ولا تهتم بمعرفة محيطها، إذن فهذه العلاقات الهشة يمكن أن تفسر، إلى جوانب عوامل أخرى، هذا التراجع في الاحتجاجات، فحينما تكون الانطوائية الاجتماعية يصعب تعبئة الناس بخلاف إذا كان الناس يتعارفون، يمكن تعبئتهم على طلب ما..”
وحول ما إن كانت الدولة في حاجة فعلا لقارعي أجراس يقول رشيق أن “الدولة تحتاج دائما لمن يقوم بتنبيهها، لأنها محتاجة أولا للوساطة لتلطيف الأجواء، وأنا أرى الدور الذي تلعبه بعض النقابات في المغرب حين يكون صراع بين العامل والباطرونا، لو لم تكن لبلغنا أمورا خطيرة جدا، لأن النقابات أو أي مؤسسة منظمة تكون مسؤولة، أمام مناضليها ونفسها وأمام الدولة ولا يمكنها المغامرة وفعل ما تريد، وهذه الوساطات والتعبئات هي مقياس لقياس الوضع الاجتماعي، الآن هناك غلاء معيشة كبير وليست هناك احتجاجات لحد الآن ، لأن النقابات تلعب هذا الدور، والأحزاب هادئة ولا تعبئ ضد هذا الوضع، فرغم الحديث عن الغلاء الكبير للمعيشة في الشبكات الاجتماعية فلحد الآن هناك صمت، لكن لا أحد يعرف متى يحدث انفجار اجتماعي ولا يمكن التنبؤ به في دولة سلطوية، فسقوط جدار برلين مثلا لم يكن متوقعا. فالاحتجاجات الاجتماعية مهمة للدولة لأنها ميزان لقياس الحرارة”.
وخلص رشيق إلى أنه لا يمكن التنبؤ بالآتي “لكن المهم هو إرساء هذا الأسلوب الحضاري في الاحتجاج واحتلال الفضاء العام، والدليل هو ما شاهدناه في الحسيمة، حيث استمرت الاحتجاجات على مدى سبعة أشهر تقريبا دون تدخل للسلطات، رغم ما كان في سنوات الثمانينات، فشباب اليوم ينسون أن الدبابات كانت في شوارع المدينة، أتمنى ألا نعود لذلك نهائيا، وهذا هو الاتجاه الذي نسير عليه.. هو اتجاه تقلص العنف والعنف بصفة عامة، حيث صار العنف منبوذا تجاه المرأة أو الأستاذ، بينما كان سابقا بمثابة الرجولة”، وخاتم رشيق حديثه بالقول” لقد تم إرساء ثقافة التظاهر السلمي في المغرب”.