تحقيق مجلة “العلوم والحياة”: هكذا تمّ صٌنعٌ أخطر الفيروسات في مٌختبرات أمريكية!
الأبحاث الأمريكية لخلق فيروسات خطيرة تمول من أموال دافع الضرائب الأمريكي
هذا التحقيق أنجزته مجلة “العلوم والحياة” الفرنسية، وهي مجلة علمية مٌحكّمة، معروفة برزانتها ومهنيتها، والتحقيق عبارة عن زيارة قامت بها، عام 2014، إحدى صحافياتها إلى أحد المختبرات الأمريكية السرية التي يقوم فيها علماء أمريكيون بصناعة فيروسات خطيرة، بدعوى دراستها قبل ظهورها في الطبيعة لمعرفة كيفية التصدي لها عندما تصيب الإنسان. وفي هذا التحقيق تلتقي الصحفية بالعالم الأمريكي من أصول يابانية الذي يشرف على “صنعها” هذه المخلوقات الغريبة التي لا يعرف كيف يمكن للإنسان، حتى وإن كان هو من خلقها، أن يتحكم فيها في حالة اتفلاتها من عقالها.
التحقيق نشر يوم 22 ماي 2015، وكشف آنذاك عن وجود فيروسات خطيرة، تم خلقها داخل المختبر الأمريكي، ودق ناقوس الخطر حول المخاطر الكبيرة التي تحيط بمثل هذه المغامرات العلمية.
وفي ما يلي ترجمة للتحقيق:
لقد كان الإعلان مستفزا : لدراسة أفضل للفيروسات، يعكف الباحثون على صنع بعضها صنعا وانطلاقا من الصفر من الصفر.. وهي أسوأ من كل تلك المعروفة إلى حد الآن ، فما الذي سيحدث لو انفلتت الفيروسات الجديدة ؟ وهل المغامرة تستحق كل هذا العناء؟ الصحفي إيف سياما انتقل إلى أمريكا وبالضبط إلى ولاية ويسكونسن، حيث يوجد هذا الوحش القاتل المسمى mH5N1 في أحد المختبرات .
وراء الباب المصفحة العملاقة المصنوعة من الفولاذ المغلف بالكروم ، توجد “المساحة الساخنة” hot) zone) أو المنطقة البيولوجية الخاضعة لتدابير أمنية شديدة والتي تمنع أي جزيئة من الهواء من التسرب إلى الخارج، بينما أحاول أن أبدو هادئا مثل العلماء من حولي، أحاول أن أبدد فكرة أنني قد دخلت للتو منطقة الفيروسات شديدة الخطورة، والتي يمكن لبعض جسيماتها أن تلتصق على أية مساحة.. إنها خطيرة ليس فقط بالنسبة لأهل المختبر والزوار، ولكن بالنسبة لنا جميعا، أينما وجدنا في العالم. لأنها قادرة على التسبب في نسبة وفيات تبلغ حوالي 60%، بالإضافة إلى قدرة على العدوى الشديدة وشبه غياب اللقاح أو العلاج، ومن ثم يمكن أن تعتبر بحق من أخطر “المخلوقات” على وجه الأرض.
معهد الأبحاث الأمريكي حيث تجري أبحاث الفيروسات الخطيرة
لماذا نتحدث عن “المخلوقات”؟ لأنها، على عكس نظيراتها الموجودة في الطبيعة، فقد تم صنع هذه الفيروسات من الصفر من طرف الخبراء الذين يشتغلون هنا في مختبر التكنولوجيا المتقدمة في جامعة ويسكونسن (الولايات المتحدة).
يسمى هذا المختبر “معهد أبحاث الأنفلونزا”، والمبنى مخصص للبحوث حول فيروسات الأنفلونزا، ولكن ليس أي فيروس! ويتمثل تخصص المختبر في صنع فيروسات قابلة للتحول و يمكنها أن تنشر جائحة كبرى في العالم لأنها فيروسات الأنفلونزا التي لا تسبب فقط معدل وفيات مرتفع جداً، ولكنها أيضا قادرة على الانتشار بسهولة مذهلة… عن طريق الهواء، مثل فيروسات الأنفلونزا الموسمية التقليدية، عن طريق قطرات ضئيلة الحجم لا تراها العين المجردة.
تخيلوا نوعا من فيروس “الإيبولا” الذي يمكنه إصابتك إذا ركبت نفس الحافلة التي يركبها شخص مصاب ويمكنه أن ينتقل حتى قبل ظهور الأعراض الأولى على هذا الشخص…
الدهشة والرعب
لماذا جئت لمقابلة مثل هذه المخلوقات؟ بدأ كل شيء خلال محاضرة ألقاها الباحث الأمريكي الشهير في مجال الصحة العامة مارك ليبسيتش Marc Lipsitch . وقد اختار عنوانا فريدا لمحاضرته: “الفيروسات القاسية والتجارب الشريرة”. كنت أتوقع نوعا من الخدعة، وأنا استمع في البداية لكلمات الباحث ولكن بعدما مرت الصفحات الأولى من عرضه على الشاشة، تغير الجو العام للمحاضرة وخيم على الحضور الإحساس بالرعب والدهشة.
ومارك ليبسيتش، الذي يرأس مركز هارفارد لدراسة ديناميات الأمراض المعدية، هو معارض قوي للتجارب الجارية في جامعة ويسكونسن.
بالنسبة له، يجب وقف هذه التجارب على الفور: “لقد أصابت أوبئة الأنفلونزا الرئيسية الأربعة في القرن الماضي ما بين 25% و40% من البشرية. إذا طبقنا على هذه الأرقام معدل 60% من الوفيات التي يتسبب فيها فيروس( H5N1) ، فإننا نتجاوز مليار حالة وفاة! حتى مع معدل الوفيات 1%، سوف نقترب من رقم 20 مليون ضحية. ”
ويصرّ مارك ليبسيتش على أن المشكلة أكبر من الإرهاب البيولوجي، بل هي خطر وقوع حوادث وإفلات عناصر بيولوجية خطيرة. في الولايات المتحدة نفسها، أحصت دراسة وقوع 13 عدوى في مختبرات شديدة الحراسة في ظرف ستة سنوات فقط (ومئات الحوادث الأقل خطورة). وعلى الصعيد العالمي، حدثت العديد من “حالات الإفلات” من طرف الفيروسات الفتاكة (السارس، إنفلونزا H1N1 التي، لحسن الحظ ، لم تنتج أوبئة واسعة النطاق، ولكن من يدري ما قد يحدث في المستقبل؟
كل صحفي في المجال العلمي يعرف أن الخوف عامل مُربح وأنه من بين الذين ُيبحثون عن الفضائح، هناك العديد من المحتالين. ولكن هذا ليس من ميزات مارك ليبسيتش. بل على العكس من ذلك، إنه يشبه العلماء المتواضعين ذوي الخطاب المضبوط الذين يعززون كل مزاعمهم بالمراجع العلمية . لقد قضيت ساعة في مكتبه في الأسبوع التالي وأعطاني الانطباع بأن الباحث لديه هواجس مشروعة. لكن ربما كان مخطئاً؟ لقد كنت مذهولا حقا وقررت أن أستمع إلى وجهة نظر معارضة.
[H5N1] وحش صنعه الإنسان: من H5N1، المسؤول عن إنفلونزا الطيور، أنشأ فريق يوشيهيرو كاواوكا فيروسًا متحولًا شديد العدوى قادرًا على عبور حاجز النوع الحيواني منتقلا من واحد إلى آخر وها هي ملامحه… [1] هيماغلوتينينز H5، خاصة بالطيور. لا يتمتع النوع البشري بمناعة ضد هذا البروتين. ولكن الطفرات التي تحدث على هذه H5 تسمح لها بالالتصاق بخلايا القصبة الهوائية التي يمر منها الهواء نحو الرئتين، مما يضاعف إمكانات العدوى. [2] تسهل نيورامينيداس إطلاق فيروسات جديدة عندما تغادر خلية مصابة وهي التي يستهدفها سلاحنا الوحيد ضد هذا الفيروس: دواء تاميفلو، لا يكفي في مواجهة حالة الوباء. [3] يشبه الغشاء الفيروسي غشاء الخلية البشرية، ولسبب وجيه: عندما يتشكل، “يأخذ” الفيروس غشاءه من الخلية التي أنجبته. [4] البروتين الأم هو مكون أساسي من الجسيمات الفيروسية، والتي تعطيه هيكلها عن طريق الربط بكل من بروتينات النواة وتلك الموجودة في الغلاف. [5] يحتوي قلب الفيروس على جينومه: 8 جزيئات مختلفة من الحمض النووي الريبي، ذات أحجام مختلفة، ملفوفة على شكل دوامة. هنا كشف كاواوكا عن الطفرات الأربع المصيرية، التي يخلق مزيج منها القنبلة الفيروسية.
أخطار الطبيعة
من أجل الحصول على الرأي المعارض، كان الحل الأفضل هو أن أسأل الشخص الذي دخل من الباب المصفح معي للولوج إلى مختبره. يوشيهيرو كاواوكا، الذي درس في جامعة طوكيو، هو واحد من أشهر علماء فيروسات الأنفلونزا في العالم وهو رجل في الخمسينات من عمره، أنيق ونحيف ولا تفارقه الابتسامة ولكن وراء نظاراته الرقيقة، له نظرة ثاقبة وكانت مقابلة قصيرة كافية للتأكد من جديته ومن كونه لا يساوره الشك: بالنسبة له، فالخطر الحقيقي ليس العلم الذي يمارسه، بل الطبيعة، التي لا تتوقف عن إنشاء عوامل مسببة للأمراض الفتاكة. وبالنسبة له، تجاربه ضرورية لحماية الإنسان من هذه الأمراض.
ومن المعروف أن “يوشي” كما يحب أن يسمي نفسه من الأشخاص الذين ليس من السهل الظفر بموعد معهم. هل هي الرغبة في حماية الأسرار؟ أم برنامج العمل المزدحم؟ أو بسبب الجدل الذي يحيط بأبحاثه.. التي تؤجج خطورتها المناقشات في الوسط العلمي، حيث يطلق البعض على إبداعاته اسم “فيروسات فرانكن” في إشارة إلى أفلام فراكنشتاين الشهيرة ، لقد أمضيت عدة أسابيع وأنا أتوسل للحصول على امتياز النزول معه إلى الطابق السفلي شديد الحراسة الأمنية حيث ترقد مخلوقاته وهو امتياز يُمنح مرة واحدة في السنة لقلة من الصحفيين، وذلك بمناسبة التعقيم السنوي للمختبر.
ومع ذلك، فإن الزيارة ليست لحظة عادية – بل تتم تحت إشراف مضبوط: هناك مديرة السلامة، والمدير التقني والمدير العلمي، بالإضافة إلى خمسة أو ستة من الباحثين الآخرين في فريقه. ناهيك عن عنصرين من الشرطة يحملان السلاح التصوير ممنوع كما هو ممنوع الكشف عن إجراءات السلامة أو ملامسة أي شيء داخل المختبر.
إذن ما هي تجارب (يوشي) في مختبره؟ إن التجربة الأكثر شهرة نشرت في عام 2012 في مجلة ناتشر Nature الشهيرة وأجريت على H5N1، الأكثر ضراوة من هذه الفيروسات (لكنه يجري تجارب مماثلة مع H7N9، القاتل أيضا). من أجل فهم هذه الأسماء، فيروسات الأنفلونزا هي كائنات بسيطة للغاية، تحمل بروتينين على سطحها: هيماغلوتينين hémagglutinines (H)، وneuraminidases (N) ، وهكذا H7N9 يحمل maglutinin من الصنف السابع و neuraminidase من الصنف التاسع، وهناك 16 صنفا من الأول و 9 من الثاني، ولكل من هذه الأصناف هناك عدد كبير من الجذوع .
استباق التحولات والطفرات
إن H5N1 موجود بوفرة في الطبيعة، حيث ينتشر عند الطيور، ولكن لم يتحول أي فيروس H5 في أي وقت مضى إلى وباء يصيب البشر. ومقابل هذه المعلومات المطمئنة، للأسف، هو أننا لا نمتلك أية مناعة ضده فإذا بدأ في الانتشار، فمن المحتمل أن يصبح وباء حقيقيا. ومن هنا جاء السؤال الذي يطرحه جميع الخبراء: هل يمكن أن ينتقل H5N1 من الطيور إلى البشر؟ بما أن فيروسات الأنفلونزا تتحول بشكل هائل، هل يمكن لـH5N1، عن طريق الطفرة، أن “يتعلم” الانتشار بين بني البشر؟
واقتناعا منه بأن الجواب هو نعم، شرع كاواوكا في البرهنة على ذلك.. من خلال القيام بما يخشى الجميع أن تفعله الطبيعة ولذلك وضع استراتيجية لـ “تعليم” H5N1 خطوة بعد خطوة كيف يمكنه أن يصيب البشر. بشكل ملموس، فإنه أولا “خلط” واحدا من H5N1 من إنسان مصاب، وبالتالي إلى حد ما متأقلم مع جسم الإنسان مع فيروس H1N1 من وباء الأنفلونزا لعام 2009 (من جذع بشري شديد العدوى). هذا النوع من الخليط (“إعادة الفرز”، كما يقول العلماء) نادر ولكن يمكن أن يحدث في الطبيعة (داخل كائن حي يحتضن كلا الفيروسات، مثل الخنزير وقد حصل الباحث على نوع جديد من H5N1 ملائم لطبيعة الإنسان.
ومن أجل زيادة فرص انتقال هذا الفيروس الجديد بين البشر، أنجز كاواوكا عددا كبيرا من الطفرات العشوائية في جينات hemagglutinin على أمل أن تحدث طفرة من الطفرات “المواتية”. وانتهى به الأمر بصنع 370 نوعا من H5N1، تتميز عن بعضها البعض من خلال تغييرات صغيرة في تكوين جيناتها. ثم إنه وضع هذه الفيروسات في خلايا دم الطيور الحمراء المعدلة لتكون هي الحاضنة للخلايا البشرية.
القدرة على الطفرات عند فيروسات الحمض النووي الريبي: فيروسات الأنفلونزا هي فيروسات الحمض النووي الريبي، التي تتمثل خصوصيتها في قدرتها على التحول بسرعة مرتفعة للغاية. حوالي خمس الفيروسات التي تولدها خلية مصابة تكون شبيهة بالفيروس الأب وتستطيع استئناف وظيفته! يتحدث الكاتب جون باري عن “سرب متحول” لوصف هذه الفئات من الفيروسات التي تظل في تحول مستمر وهو ما يدمر الجسم الحاضن… هذا المعدل من جينات الحمض النووي الريبي ARN يفسر لماذا معظم الكائنات الحية تستخدم الحمض النووي ADN لأنه أكثر موثوقية حوالي 100 مرة. فقط الكائنات الحية البسيطة مثل الفيروسات (فيروس الانفلونزا لديها فقط 8 جينات!) يمكنها تقبل مثل هذه المعدلات من الطفرات العالية. وما هو عيب وعنصر نقص بالنسبة لكائن معقد يصبح قوة عند الفيروسات: إنها تغير باستمرار البنية والتوقيع ولذلك تتمكن من الإفلات من مقاومة الجهاز المناعي ويصبح من الصعب إنشاء لقاحات فعالة على المدى البعيد.
“تعليم” الفيروسات الانتقال من الانسان إلى الحيوان
وبناء على هذه الفكرة حول “تعليم” الفيروس المرور من الطيور إلى الإنسان! من بين 370 فيروسًا، تمكن 9 من الانغراس في خلايا الدم الحمراء البشرية. ثم، في مرحلة جديدة، وضعت هذه الفيروسات برفقة خلايا بشرية من القصبة الهوائية ومن بين كل تسعة فيروسات استطاع اثنان أن يتعلموا استنساخ أنفسهم في القصبة الهوائية وهو ما لا يعني بالضرورة إمكانية الانتقال عبر الهواء بين البشر، وهي الخطوة النهائية في عملية صنع “فيروس فرانكن”. وبما أنه من غير المتصور أخلاقيا إصابة إنسان بفيروس قاتل بهدف تجريبي فقد لجأ كاواوكا إلى حيوان النمس، “نمس نهاية العالم”، كما قال البعض.
ولكن لماذا النمس بالذات؟ لأنه على مر السنين، فرض هذا الحيوان نفسه بين جميع الحيوانات المختبرية، لأن جهازه التنفسي يتفاعل في مواجهة الانفلونزا بشكل يقترب من تفاعل البشر بفضل وجود خلايا تنفسية مشابهة وهو حيوان يعطس و يسعل مثل البشر ويمرض، وتصيبه الحمى..
وفي النهاية؟ واحد من هذين الفيروسين المتحولين استطاع أن يصيب ستة أفراد من النمس من أصل ستة في بداية التجربة ولكن أربعة منهم نقلوا المرض إلى أفراد آخرين كانوا منفصلين عنهم بشبكتين أي عن طريق الهواء فقط .
ولكن النمس ليس هو الإنسان ، وهذا يدل على أن هذا الفيروس النهائي هو في نفس الوقت مؤذي وقابل للطفرات . وبعبارة أخرى فهو مثل قنبلة وبائية، تحمل خطرا كبيرا على الصحة العامة. وقد درس الباحث كاواوكا هذا التحول، حيث وجد أن 4 طفرات فقط (وبعد أشهر من الجدل نشر نتائج أبحاثه) كانت كافية للتسبب في تحول فيروس الطيور إلى تهديد للبشرية. وهذا الفيروس الممسوخ لم يحصل تدميره بل لا يزال نائما في أنابيب الاختبار المجمدة في المختبر في انتظار أن يحتاجه عالم الفيروسات في مشاريع جديدة.
كيف استيقظت الحمى الإسبانية؟ في عام 2005، قام فريق من الباحثين، منهم بيتر باليز Peter Palese (من كلية الطب ماونت سيناي) بإحياء فيروس الإنفلونزا الإسباني الذي انتشر عام 1918، والذي تشير التقديرات أنه قتل 100 مليون شخص وهي أكبر مجزرة ميكروبية تهاجم البشرية على الإطلاق. ولإعادة صناعة هذا القاتل، قام الباحثون باستخراج جثث بعض الضحايا التي كانت مدفونة تحت ثلوج ألاسكا المتجمدة منذ عام 1918، وبفضل التقدم في البيولوجيا الجزيئية، تمكنوا من تحديد التسلسل الفيروسي ، وإصلاح أعطابه عندما يكون متدهورا وإنعاشه بدقة خلال عدة أشهر من العمل المضني. وقد سمح لهم ذلك بدراسة مفصلة للعامل الحامل لهذا الوباء والبدء في فهمه. وقد سمح هذا السبق العلمي (أو بالنسبة للبعض ، الخطيئة الأصلية) المتمثل في إعادة بناء هذا الفيروس الرهيب مجالا جديدا من البحوث.. وربما علبة من المفاجآت المرعبة.
خلية واحدة بحجم مبنى من 50 طابقًا!
ومن هنا جاء ذلك الإحساس بالتواجد في الجحيم وأنا أتجول في مختبر كاواوكا، محاولا أن أفهم معنى كل الاحتياطات الأمنية وهي احتياطات متعددة، وأتذكر ما قاله قبل بضعة أيام في نيويورك، عالم أخصائي في الأنفلونزا وصف القوة المدمرة المركزة في هذا الفيروس، حتى ولو كان ذلك بسيطاً مثل فيروس الإنفلونزا، الذي يحتوي على 8 جينات فقط وهذا العالم هو بيتر باليز Peter Palese، 70 عاماً، عضو الأكاديمية الأمريكية للعلوم وقد قال وهو يلوح بقبضة يده : “انظر إلى هذه القبضة، إذا كان الفيروس بهذا الحجم، فإن خلية واحدة في رئتيك ستكون بحجم مبنى من 50 طابقًا.”
من خلال نافذة مكتبه في كلية الطب جبل سيناء كانت ناطحات السحاب في مانهاتن تعطي فكرة عن تغيير الأحجام: “تخيل الآن أن الفيروس قادم إلى داخل هذا المبنى، دعنا نقول من خلال نافذة الطابق 47، عشر ساعات ستكون كافية له لكسرها، والإفراج عن 100،000 إلى 500،000 نسخة من نفسه، والتي من شأنها أن تسرع بعد ذلك إلى الخلايا المحيطة بها. “يمكن الوثوق باستعارة باليز لأنه لا ينتقد عمل يوشي كاواوكا، الذي هو رائد فيه. لأنه في عام 2005، كان بيتر باليز عضوا من أول فريق في العالم يشتغل على فيروس الإنفلونزا الإسباني لعام 1918.
إن الطابق السفلي للمختبر هو إذن هو سجن “تلك المخلوقات” التي طورها يوشي. في كل مكان توجد كاميرات الدوائر التلفزيونية المغلقة والهواتف الجدارية وأجهزة اللاسلكي في حالة انقطاع التيار الكهربائي ومن أجل تسهيل التنظيف والتطهير ، لا يتم التسامح مع أي أشياء غير ضرورية. لا شيء على الجدران الخرسانية .
والحد الأدنى من الأثاث مصنوع من الفولاذ المقاوم للصدأ والكراسي كلها تتوفر على عجلات وعلى أحد الجدران تصطف الأقفاص الفارغة وبداخلها الحيوانات التجريبية و في الغرفة الأكبر يوجد المختبر حيث يشتغل يوشيهيرو كاواوكا وفريقه ولكن عمله توقف في أعقاب معارضة حازمة من طرف عدد كبير من العلماء.
توقيف الأبحاث: منذ زيارة المختبر التي تم الحديث عنها في هذه المقالة، والتي أجريت في عام 2014، تم توقيف أبحاث كاواوكا وجميع الباحثين الآخرين، وهي التي تسعى إلى الزيادة من عدوى الأنفلونزا بتمويل أمريكي، حتى إشعار آخر، ما هو السبب؟ خلال صيف عام 2014، وقعت سلسلة من الحوادث في أفضل المختبرات ذات الحراسة الأمنية المشددة في الولايات المتحدة. وعلى وجه الخصوص، أرسل الباحثون عن طريق الخطأ، في مناسبتين، عناصر شديدة الخطورة (الجمرة الخبيثة وأنفلونزا الطيور) إلى باحثين آخرين كانوا يعتقدون أنهم يتلقون عينات حميدة. ثم حدثت أخطاء إجرائية واضحة أخرى أثناء تفشي الإيبولا. وعلى إثر ذلك قرر البيت الأبيض تعليق هذه الأبحاث لإجراء مناقشة واسعة حول جدواها، والتي كان من المتوقع أن تستمر لمدة سنة و النقاش محتدم الآن في الولايات المتحدة.
صناعة أسوأ الوحوش
ولا تتعلق الاختلافات بتقييم المخاطر فحسب، بل أيضا بالفوائد التي يمكن توقعها منها. ويقول يوشي كاواوكا إنه بإظهاره أن فيروس H5N1 يمكن أن يصبح وباء بعد عدد قليل من الطفرات، قدم معلومات قيمة إلى السلطات الصحية، وهي أنه يجب عليها أن تظل يقظة بشأن هذا الفيروس، ولا سيما للحفاظ على مخزوناتها من مادة تاميفلو Tamiflu. ويضيف أن تحديد هذه الطفرات الحرجة فيه أيضاً معلومات مفيدة، يمكن أن تبرر اتخاذ إجراءات محددة إذا تم رصدها في مكان ما (إغلاق سوق الدواجن، وما إلى ذلك). ومن ناحية أخرى، يعتقد منتقدوه أنه لا يوجد دليل على أن الجائحة القادمة ستأتي من فيروس H5N1، ولا أن هذه الطفرات ستكون هي السبب.
ومن الواضح أن انتقاداتهم لا تزعزع تصميم كاواوكا. “إذا لم نقم بهذه التجارب فما هو البديل؟ هل نترك الطبيعة وحدها تفعل ما تشاء كما حدث في عام 1918،في حين أن لدينا الإمكانيات مع اتخاذ الاحتياطات، من أجل محاولة لفهم الآليات وربما العثور على الحلول الملائمة؟”، يدرك كاواوكا وزملاؤه الخطر الشديد لفيروسات الأنفلونزا المعدية. ولكن بدلاً من أن يعتبروا ذلك سبباً لتقييد أنفسهم، مثل مارك ليبسيتش والمعارضين الآخرين، فإنهم يتبنون المنطق المعاكس والتحرك بسرعة لصنع أسوأ الوحوش التي قد تنتجها الطبيعة ثم دراستها ولكن من دون أية ضمانة، فإن الطبيعة لن تكون أكثر انحرافاً ثم تصنع فيروسات لن يتصورها الباحثون..
خلال الحصة الباقية من الزيارة ترك الأستاذ لزملائه الفرصة ليشرحوا لي تدابير السلامة والأمن المعقدة التي تحيط بتلك الفيروسات.
غادرت المختبر و أنا أتساءل: “إن التجارب العلمية التي تجري في هذا المكان البعيد من أمريكا تهم البشرية جمعاء. ولكنها ليست على علم ووعي بذلك”.