“ولدي عندو جوج اجازات في موريال لان باه لباس عليه خلص عليه وقراه في الخارج”، هذا التصريح المستفز وغير المسؤول الصادر عن “حارس أختام المملكة الشريفة” سيدخل سجلات التصريحات المهينة لكرامة الشعب المغربي، إلى جانب العديد من التصريحات المماثلة من قبيل تلك التي صدرت عن الملك الراحل الحسن الثاني عندما وصف المشاركين في انتفاضة 1984، بمنطقة الريف، بـ “الأوباش”، وهو لا يقل إهانة عن وصف إدريس البصري لشهداء انتفاضة 1981 في الدار البيضاء بـ “شهداء كوميرة”، والأمثلة الصادرة عن وزراء لم يعد يذكرهم الناس بأسمائهم الحقيقية وإنما بألقابهم التي أطلقها عليهم الرأي العام مثل “وزيرة جوج فرانك” و”وزيرة عشرين درهم”، و”وزير الكراطة”، و “وزير فضيحة النجاة” و”الوزير الفعفاع”، و”وزير الشكلاط”، و”الكوبل الحكومي” و”الوزير مزور شهادة ميلاد عشقية برلسكوني”، و”رئيس الحكومة صاحب تقاعد سبعة ملايين” .. لكن الوزير وهبي سيحمل الكثير من الألقاب من “وزير التقاشر” إلى وزير فضيحة مباراة المحاماة التي لا تقل خطورة عن “فضيحة النجاة” التي لاحقت الوزير الأول عباس الفاسي طيلة سنوات حتى أصبح الرجل نسيا منسيا، مع التذكير أن ضحايا “فضيحة النجاة” كان عددهم نحو 30 ألف ضحية، أما ضحايا مباراة المحاماة فعددهم يزيد من 70 ألف مترشحة ومترشح يحسون اليوم بغصة في الحلق جراء الظلم الذي لحق بهم والتمييز الذي تعرضوا له.

مع العلم أن وهبي ليس الحالة الأولى ولن يكون الحالة الأخيرة في المملكة التي قال ذات يوم ملكها الراحل، في استخفاف بإرادة الشعب “لو أردت.. يمكنني أن أجعل من سائقي وزيرا”، مع الاحترام لكل من يمارس هذه المهنة الشريفة، وليس صدفة أن الوزير وهبي كما سبق أن اعترف بعظمة لسانه سبق له أن اشتغل في صغره “كريسون” أي أقل من درجة سائق، لكن ابن تارودانت كان دائما يعرف كيف يتسلق المناصب ويغتنم الفرص يساعده في ذلك إفراطه في الحركة الذي قد يبلغ في بعض الأحيان درجة “الإضراب” الذي سيرافق الرجل في كل مراحل حياته المهنية كشخصية عمومية، ومنذ توليه منصب وزارة العدل قبل زهاء سنتين سوف تتجلى حالة الإضراب هذه في كل تصرفاته وتصريحاته المثيرة للشبهة في دوافعها. فالرجل لا يخرج من أزمة إلا ليدخل إلى أزمة أخرى حتى أصبح شاغل الناس بالتفاهة ومالئ حياتهم بالرداءة.

حفلة التفاهة

تصريحات وهبي المستفزة واللامسؤولة ليست معزولة عن سياق عام هو ما أصبحنا نعيش فيه اليوم، سياق “نظام التفاهة” الذي تحدث عنه الفيلسوف الكندي المُعاصِر آلان دونو، نظام يَتّسم بسيطرة التافِهين، حيث الصعود الغريب لقواعد الرداءة والانحطاط في ظلّ تدهور الجودة وغياب الأداء الرفيع، وتهميش نظام القِيَم، ومن ثم سيطرة التفاهة على كل مجالات الحياة المختلفة لدرجة أصبحت فيها التفاهة هي “المُنْقِذ الأول للإنسان”، كما يقول ميلان كونديرا في روايته “حفلة التفاهة” التي تنصحنا بعدم أخد العالم على محمل الجد، بما أنه لا يمكننا تغييره بعد أن استفحلت فيه التفاهة واستأسد فيه التافهون.

لكن المصيبة هي عندما يأخذ التافهون تفاهتهم على محل الجد، لأن غايتهم تكون في البداية تحقيق شيء من شأنه أن يُقلِّل، بطريقة بسيطة، من إحساسهم بعدم الأهمية في مواجهة الآخرين، وكلما استمرأ الناس تفاهتهم واستساغوها يكبر طموحهم وإحساسهم بـ “العظمة”، وفي هذه الحالة يجب استدعاء التحليل النفسي، وليس السياسي لفهم مثل هذه الشخصيات المركبة.

“بلاء الإنسان من اللسان”

يٌنسب إلى علي إبن أبي طالب قوله “بلاء الإنسان من اللسان”، وهذه حالة نجدها عند كثيرين يشخصها الطب النفسي الحديث في “اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه”، يكون أصحابها مندفعين وعفويين ومتقلبين عاطفيا وشديدي التطرف في مواقفهم وأحكامهم.

ومن يراقب سلوك وتصرفات وتصريحات الوزير وهبي، من خلال مقاطع الفيديو الموجودة على منصة “يوتيوب”، قد يتساءل مع نفسه هل يحتاج الأمر فعلا إلى استدعاء أدوات التحليل النفسي لاستيعاب بعض تصرفاته وتصريحاته وسلوكاته الغريبة علها تساعد في تفسيرها وفهمها؟!

فالكثير منها يفتقد إلى التماسك الواضح، وفي كثير من الحالات تنقص صاحبها القدرة على التركيز على وحدة الموضوع، ونقص في الانتباه، وصعوبة في تحديد الأولويات، وعدم القدرة في التحكم في الانفعالات، ونفاد الصبر، وتقلب في المزاج، ونوبات غضب.. وبالمقابل نجد أنها تشكل لدى المتلقي عامل جذب وإثارة، لأنها تؤدي إلى ارتفاع الأدرينالين عند صاحبها وعند المتلقين المستلبين بإثارتها.

وبعيدا عن تأكيد مثل هذا التشخيص، وبالأحرى إسقاطه على الوزير وهبي، من المهم ملاحظة أن كل شخص تقريبًا قد يعاني من أعراض اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه في مرحلة ما من حياته. وما يحرك الإبرة، كما يقال، من الانزعاج من الشخصية إلى التشخيص هما شيئان: أولاً ، هل يمكن إرجاع هذه الأعراض إلى الطفولة، إلى حد كبير دون انقطاع؟ ثانيًا: هل الأعراض شديدة لدرجة أنها تسبب مشاكل مستمرة في مجال أو أكثر من مجالات حياة الإنسان ومحيطها؟

في حالة الوزير وهبي تكفي العودة إلى إحدى الفيديوهات الموجودة على منصة “يوتيوب”، وفيها يعترف الوزير أنه كان فوضويا منذ طفولته، لا يركز، متسرع، وفي حالة خصام دائم مع محيطه، حيث يقول “كنت لا أركز وفوضوي، ما يمكنش يشدني الكرسي جوج دقايق”، “كنت باسل شوية، وندير المشاكيل”، “كل نهار مضارب كل نهار مخاصم”، و”كنت زربان وفايت الزربة شوية”.. وسيرث الوزير هذه الخصال عندما أصبح شخصية عمومية، اشتهر بعفويته، وكثرة وسرعة حديثه لدرجة الثرثرة المزعجة، وتشنجه وتصريحاته المستفزة، وانفعالاته التي تضج بها مقاطع الفيديو الخاصة به.

ومرة أخرى ليست الغاية من طرح التساؤلات حول سلوكات وتصريحات الوزير وهبي الغريبة، شجب الشخص الذي قد يعاني من مثل هذه الحالة أو الإساءة إليه، وإنما الهدف هو لفت الانتباه إلى ما قد تؤدي إليه بعض هذه السلوكات والتصرفات والتصريحات من عواقب وخيمة سيكون إصلاحها مكلفا سياسيا، وأثارها مؤلمة نفسيا لضحاياها، ويجب هنا أن نعود لنسأل الموظف الذي خاطبه الوزير وهبي أمام الملأ بلغة استعلائية وبنبرة تهديدية وهو يشككه في لون جواربه، كيف قضى تلك الليلة، وربما الليالي التي تلتها وهو يتحسس قدميه ويسترق النظر إليها للتأكد من لون جواربه التي يدرك أن الوزير إياه سيكون قد علم بلونها قبل أن يرتديها. وربما جنح به خياله إلى الشك في لون ملابسه الداخلية الحميمة التي يشك بأن الوزير يعلم لونها وما تخفيه.. ونفس السؤال يجب أن نطرحه على الشابة التي شهّر بها الوزير في برنامج تلفزيوني على قناة عمومية، عندما سخر منها ومن كفاءتها عندما كشف أنه اطلع على ورقة امتحانها وعلق على نتيجتها بقوله: “غير خليها على الله!”، مرفقا تعبيره بحركة مستفزة وابتسامة ساخرة ومستهزئة!

حالة ترامب 

طرح مثل هذه التساؤلات تعتبر منطقية، لو كنا فعلا نعيش في ظل ديمقراطية حقيقية، إذ من حق الرأي العام مسائلة سلوكات وتصرفات الشخصيات العمومية التي تتولى إدارة الشأن العام، فقد طرح مثل هذا التساؤل كثيرا في الصحافة الأمريكية عندما ظهرت بعض ملامح الإفراط في اضطراب الحركة وعدم التركيز عند الرئيس السابق دونالد ترامب، واضطر تحت ضغط المؤسسات الديمقراطية الأمريكية أن يخضع لفحص سريري.

في حالة الرئيس ترامب، لاحظ أخصائيون أنه كان يعاني من مشكلة كبيرة في الأداء التنفيذي، تمثلت في تحديات تحديد الأولويات وتنظيم المهام مصدرها “اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه”، وكانت النتيجة هي “اصطدامه بالحائطّ”، في إشارة إلى لحظة تحريضه أنصاره للهجوم على مقر الكونغرس الأمريكي عندما لم يقبل هزيمته في الانتخابات الرئاسية. فمن بين أعرض المصابين بحالة “اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه” عدم قبولهم الخسارة أو الهزيمة وردود فعلهم المستفزة والعدوانية أحيانا للدفاع عن أنفسهم. والنتيجة الماثلة أممنا اليوم أن فترة الرئيس ترامب تمثل واحدة من أكثر الإخفاقات الهائلة في تاريخ السياسة الرئاسية الأمريكية، سادتها الكثير من الفوضى والاضطرابات والصراعات مع الكثير من المؤسسات الأمريكية.

لذلك، في الدول الديمقراطية، يخضع المترشحون لتولي مناصب عمومية مهمة وحساسة للفحص الطبي، لأنه من المهم فحص الدوافع والسمات الشخصية التي تدفع أي شخص للترشح لمنصب عام لأن إدارة الشأن العام مسؤولية وطنية وأمانة جسيمة لا يجب تركها لتقلبات مزاج الأشخاص وانفعالاتهم المرضية.