
تعليمنا المغربي والعنف المدرسي.. عـَــــارُنَـــا الكبير أمام شرفة أحلامنا الوطنية

كانت صرخة الفيلسوف نيتشه مدوية بالرفض والعناد، مدركا بشكل لا مجال للشك فيه للتغير الذي حدث للعالم فجأة ليفجع قائلا:” لقد مات الاله ونحن من قتلناه”، صرخة تعلن موت القيم الأخلاقية وانهيار مستوى فهم لكينونتنا، وضمور مرجعية أساسية تحكم علاقاتنا الاجتماعية والروحية..، سلسلة من انهيارات شهدتها منظومة القيم الحاكمة لوعي هذا الكائن الإنساني التائه أدت لتغير جذري في بوصلة فكره وروحه، والمدرسة المغربية تدخل ضمن هذه السلسلة التي انهارت مضمونا ومعنى وبقي من بنيتها الشكل الفارغ، كأنها إعادة تشكيل لقصة نبي الله سليمان مع المنساة:(ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته)، المدرسة بالدال ولا مدلول عليها، وليس المبنى انشائيا، مادامت الأرقام تتحدث عنها وتصدرها الوزارة الوصية، وإن كان للتقارير الدولية حول هذا الموضوع من معنى تحمله..، فهي أرقام صادمة. فمثلا معدل الهدر المدرسي بالنسبة للتعليم الأولي انتقل إلى: 2.9 في المائة، أما بالسبة للتعليم الإعدادي، فيقدر بـ9.7 في المائة، وسجلت بالتعليم الثانوي التأهيلي نسبة 7.4، في حين بلغ معدل الهدر المدرسي بالوسط القروي برسم 2020-2021، بالأسلاك التعليمية الثلاث في القطاع العام %5.9 خلال سنة 2020-2021 أي ما يفوق 167 ألف تلميذا وتلميذة انقطعوا عن الدراسة بهذا الوسط، في حين تم تسجيل نسبة %5.6 كنسبة انقطاع في صفوف الفتيات المتمدرسات بالوسط القروي، أي ما يقارب 76 ألف تلميذة منقطعة. وأشارت الوزارة الوصية تحت إشراف الوزير السابق بنموسى إلى أن 77 في المائة من المتمدرسين في التعليم الابتدائي لا يجيدون قراءة نص باللغة العربية مكون من 80 كلمة، كما أن 70 في المائة لا يستطيعون قراءة نص باللغة الفرنسية مكون من 15 كلمة. وضمن ندوة “خارطة الطريق2026.2022″، أكد الوزير السابق نفسه أن نسبة الهدر في التعليم الإعدادي تصل إلى 53 في المائة، كما يسجل التعليم الثانوي نسبة 24 في المائة. كل هذا التعثر ونحن نعلم كثرة الرؤى والتدخلات المتوالدة كل سنة تقريبا، والتي تتغير مسمياتها من “إصلاحية واستعجالية وخريطة طريق..” والتي كلفت الدولة ميزانيات خيالية، ولن نتحدث عن فترة الاستقلال إلى اليوم بل هي من سنة 1999 الى اليوم وفقط، ابتداء بالميثاق الوطني للتربية والتكوين والكتاب الأبيض والمخطط الاستعجالي والرؤية الاستراتيجية وتأسيس المجلس الأعلى لتربية والتكوين والبحث العلمي ووضع القانون الإطار 17.51 وخارطة الطريق..، هذه الأخيرة، لم تجد بعد منفذا للخروج من مأزق هذا القطاع, بالإضافة لترقيعات كل مسؤول يصل لتدبير هذا القطاع الحيوي برؤيته “النبيهة” وقراراته “الطارئة” إما بإلغاء شيء أو وضع نقيض ما تم تسطيره سابقا، سلسلة من قرارات مرتبكة ومتناقضة واتهامات اللاحق للسابق بسوء التدبير والفوضى، ثم بعث لجان افتحاص تنتهي تقاريرها وقرارتها للرماد، كأننا أمام قوله تعالى:(كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا)، فأمست المدرسة مصدر ازعاج ومأزق لسياسيين ولمدبري الشأن العام، لعمق الأزمة فيها ولكونها تصدر جيشا من المتمدرسين “الفاشلين” الذين يشكلون تحديا على الدولة على المستوى الأمني وعلى مستوى اتساع أرقام البطالة لكونه بدون شواهد أو تكوين والتاثير على ارقام التمدرس..، فكأن المدرسة هي مؤسسة عمومية تنخرط دون وعي وملزمة تحت رعاية القانون(ضرورة تمدرس الأطفال عموما بغض النظر عن وضعهم الدراسي، واستكمال المتعثرين مسارهم حتى سن 18 في السك التأهيلي) في “إعادة إنتاج” مواطن معطوب على المستوى العقلي والسلوكي والأخلاقي والمهني، فيشكل عائقا بنيويا لمسار تقدم البلاد اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وحقوقيا..، وحجر عثرة أمام مسار تنمية البلاد، والقشة التي تكسر أفق هذا المجتمع الطموح، بسبب سوء السياسات التعليمية العمومية المتراكمة لأجيال، لتقع هذه الفئة العريضة فريسة لها، فهم أجيال كاملة للأسف يتم التضحية بها، فلا تعد لا في العير ولا في النفير.
آراء أخرى
لقد كشف العنف المدرسي اليوم المستور عن المدرسة المغربية، فبالإضافة لضعف الأداء والمنجز التعليمي بناء على التقارير السابقة، يأتي العنف المدرسي ليكشف ما تواجهه هيئة الإدارة والتدريس بسبب العنف الذي تجاوز الشكل الرمزي المسلم به( لكون هيئة القطاع تعرف اتصالا مباشرا مع ناشئة متنمرة وغاضبة وغير راشدة قانونيا ولا سلوكيا وتعيش تحولات هرمونية ومزاجية مركبة..) إلى عنف مادي تخطى مختلف المديريات على الصعيد الوطني، حيث سجلت تقارير مخيفة فقط شهر أبريل من هذه السنة الدراسية 2024_ 2025، حالات تضمنت عملية قتل بأرفود وبالشماعية..، وحالات ضرب وجرح خطيرة بالفقيه بن صالح والخميسات ورزازات ومكناس وانزكان..، وهذا ما خرج للعلن من تقارير للنقابات المهنية أو عن طريق الوسائط الاجتماعية والمواقع الصحفية الحرة، لتعلن النقابات التعليمية عن غضب هيئتها في اضراب وطني يوم: 16 أبريل 2025م.
ولابد من التذكير بأن أعضاء التدريس في خنق مما صدر ولايزال من مذكرات تخص مجالس الانضباط للمتمدرسين خصوصا ما أطلق عليه مذكرة “البستنة” التي أفقدت لتلك المجالس صفتها “التربوية الزجرية”، وزاد من غضب الهيئة أو ما يطلق عليه علميا بـ”الاحتراق المهني أو الوظيفي” ما تعيش عليه يوميا من الاكتظاظ في الفصول الدراسية، هذا الوضع يوثر على نفسية المتمدرسين والهيئة، ثم ما يتم تنزيله من مذكرات محاربة الهدر المدرسي التي تلزم المؤسسات التعليمية بحفظ أجساد المتعلمين داخل أسوار المدرسة الزاما، بغض النظر إن كانوا يستحقون فرصة إعادة التمدرس أو الفصل عن الدراسة، لسبب تعثرات قد تكون بنيوية تجمع بين النفسية والاجتماعية والاقتصادية والمعرفية والسلوكية..، وللأسف الشديد تصبو المؤسسة الوصية للحفاظ على مستوى تنقيط التمدرس إيجابيا على المستوى الوطني أو الدولي، دون إدراك خطورة هذا الاجراء وآفاقه الخطيرة، والاحصائيات بمختلف الاسلاك تنقض هذا المبتغى، مما يجعل المدرسة مؤسسة ذات أسوار دون معنى، تحتفظ بالمراهقين حتى لا يخلقوا مشكلات أمنية في الشارع العام، ليكونوا سجناء تحت مسمى متمدرسين، فيفسدون ما بقي من التلاميذ المنضبطين بسبب قرارات الوزارة الوصية، فلا ترصد علميا أبعاد هذه القرارات على الواقع المركب ومآلاتها الخطيرة على الوسط المدرسي عموما، والنتيجة ما تراه اليوم من جثت للمنتمين للقطاع بسبب حالات تعنيف لهم من تلامذتهم، وهنالك حالات أخرى لتعنيف بعض المتمدرسين من زملائهم سواء داخل المؤسسات أو بالقرب منها، فما تراه أبلغ وأصدق لا ما تسمعه من تقارير واحصائيات تشير لكون الوضع تحت السيطرة.
وهنالك مذكرات من الوزارة الوصية متعلقة بالدعم النفسي والاجتماعي وخلايا الانصات التي تقترحها على المدسين أنفسهم، دون سابق تخصص أو تكوين أو حماية قانونية لما يطرأ من مشكلات لا عد لها، قد تصل إلى الاصطدام قانونيا بأسر بعض التلاميذ الذين تم الانصات لهم فكشفوا عن أسرار خطيرة لخلايا الانصات، وهذه الأخيرة، لا تملك من قوة غير تفريغ ما في جعبة المراهقين من آلام وجروح وأسرار. كما نسجل غياب محفزات مهنية أو مالية أو عرفان واعتراف بهذا الجهد الذي تقوم هيئة التدريس بهذا الصدد..، علما أن أغلبهم بالإضافة لمهمة التدريس يساهمون تلقائيا وتطوعيا من داخل الفصول الدراسية في خدمة المتمدرسين نفسيا واجتماعيا، دون الحاجة في بعض الأحيان لتأسيس تلك الخلايا أو لجان التتبع، وبعض التلاميذ يحتاجون لرفقة عاجلة من طرف أطباء نفسانيين أو مساعدين اجتماعيين خارج أسوار المدرسية، وبعضهم لابد من إيقاف استمرار تمدرسه إلزاما حفاظا على الأجواء الإيجابية داخل المؤسسات التربوية لاختلاف سنهم مع سن زملائهم، (فبعضهم راشد بحكم القانون فوق 18 سنة وآخرين 15 سنة خصوصا في السلك التأهيلي) والبعض الآخر يحتاج لإصلاحية تقوم سلوكه أو مدرسة عسكرية توجهه أو يخضع لتجنيد إجباري لإعادة تأهيليه مدنيا ومهنيا، بدل أن يتحول لمشروع مجرم أو منحرف يتأثر المجتمع بسلوكه الأهوج فيخلق حالة ارتباك متشابكة مجتمعيا في عدة مجالات، فمثلا أمنيا بسبب جنحه وجرائمه المتكررة وحالة أزمة في الصحة بسبب تعريضه لحياة الآخرين للخطر وفي التعليم بالتأثير على منحنى جودة تعليمنا..، ولا تملك بعض الأسر له إصلاحا ولا نفعا، ومنهم من يأتي للمؤسسات التعليمية بعد الاتصال بهم بصفتهم أولياء الأمور، ليتبرؤوا من أبنائهم معلنين فقدان السيطرة على سلوكاتهم، لذلك على الدولة في إطار بناء مواطن صالح التدخل في إطار شراكات أو بفتح قنوات ووضع رؤية استراتيجية بين مختلف مصالح الدولة (التربوية والأمنية والادماج الاجتماعي والعسكرية والشبه عسكرية…) لتخضع هؤلاء للتكوين وإعادة الضبط والتوجيه والتربية على المواطنة وإعادة الادماج.
..عود على بدء، إذا كان الهدر المدرسي يتجاوز تقريبا 200 ألف متمدرس منقطع عن الدراسة سنويا (وهو عدد مهول وخطير) بناء على تقارير الوزارة الوصية نفسها،علما أن هذا العدد يزداد كل سنة اتساعا، بحساب بسيط فهو تقريبا ربع مليون مواطن مغربي (ولإظهار مدى خطورة هذا الرقم احصائيا؛ فبعد أربع سنوات سيكون لدينا مليون مواطن وهو عدد سكان بعض الدول الاسيوية منها عربية خليجية وبعض الجزر المعترف بها ككيان مستقل في الأمم المتحدة)، وهم بدون مستوى تعليمي/ تربوي ولا يخضعون لأي تكوين جاد ومنضبط لقيم المواطنة، لتتشكل لهم هوية هجينة تبتعد بهم عن أحضان عن تقاليدنا القيمية والوطنية، خصوصا بعد الانفتاح على مواقع التواصل الاجتماعي والغزو الثقافي والاستثمار في التفاهة الثقافية وكسر سقف القدوات الفكرية والتربوية، واستبدالها بالمؤثرين الذين يسوقون للأوهام، ليكون النتاج هو صناعة مواطنين غرباء عن المجتمع الوطن، يحملون قيما لا يمكن ضبطها ولا التنبؤ بتحولاتها ومخاطرها، علما أننا مجتمع طموح يسعى لتحقيق أحلام من بينها تنظيم منافسات دولية ككأس العالم، فهل سنواجه في شوارعنا ضيوفنا من مختلف الثقافات والدول بمواطنين لا ينتمون لهذا الوطن، وهل نستطيع ضبط هؤلاء بالقانون والقيم الحضارية التي نسوق لها..؟ إن مراهق اليوم في سنة 2025 هو جمهور مباريات كأس العالم 2030م، وهو المواطن الذي سيقف ليتواصل ويخدم ويقدم صورة المغرب فيما بعد..؟ فإن كنا نسعى لبناء الملاعب الجميلة والمدهشة وتجديد الحصون والقلاع والشوارع والحدائق والفنادق..، ونعمل على قدم وساق لتجديد بنيتنا التحتية كلها اسعادا للزوار وخدمة للسياحة والتسويق للمستقبل، وكل هذا يتم بعيدا عن بناء مواطن الغد، فإن هذه قسمة ضيزى، يذهلك شكله ويسوؤك باطنه، ينهار عند أول امتحان، ولعل مؤشرات العنف في الملاعب وما وقع من شغب خارج الملعب بعيد مباراة جمعت بين فريق شباب هوارة وفريق أمل تزنيت منذ أشهر قليلة، ينبئنا بما قد يقع بين المشجعين المغاربة مع وفود ومشجعين من زوار بلدنا مستقبلا سواء كانوا من دول عربية أو إفريقية أو غربية ومن مناطق شاعة من عالمنا، ونحن في خضم الاستعداد لتنظيم مباريات كرة القدم في الإقصائيات المختلفة، إذا وقع حدث عنف واحد من طرف هؤلاء في خضم هذه المناسبات الدولية-لا قدر الله- فقد تنهدم كل الجهود لتسويق تاريخنا، وإمكاناتنا الحضارية والحقوقية والثقافية والسياحية. فتلامذة اليوم هم مواطنون غدا.
كتب الشاعر والروائي إبراهيم نصر الله في إطار مشروعه الشرفات؛ روايته” شرفة العار”، وخلاصتها هو اغتصاب فتاة تحت تهديد السلاح، وفي تشابك الأحداث وتصاعدها يتم اقناعها للخروج من السجن ليتم قتلها من طرف أهلها “دفاعا عن الشرف”، مما أفقدها انسانيتها ثم حياتها في الأخير، وينقل إلينا الروائي تفاصيل تلك اللحظات المأساوية في حياة الفتاة ومعها تناقضات مفهوم الدفاع عن الشرف والقيم في المجتمعات العربية، ونحن نتوهم أننا بالوقوف صامتين أمام انهيار المنظومة التربوية والتعليمية ندافع عن شرف المكان والمسمى، وأن الشكوى بصوت عال يعري فشلنا ويعيب أناتنا وهيبتنا، فنكرس بذلك جميع الأمراض في المنظومة ونتغافل عن تفكيك أسبابها، لتتضخم تداعياتها ليس على الممارسين والمتصلين بها مباشرة ولكن على المجتمع عامة.
إن تلامذتنا ومدرستنا المغربية يضعاننا أمام “مأزق تناقضي” كما يقول المفكر ليفي ستراوس، حيث التناقض الأول هو أننا نمارس تحت مسمى التربية والتعليم وبمناهج فاقدة للنجاعة جريمة إنتاج مواطن يكره التعلم وآفاقه “المتوهمة” وهو طفل يافع ليتخرج شابا مهدور الإرادة والمهارة ليكره المجتمع وقوانينه، فيفشل في مواجهة تحديات الحياة، فننتج مواطنا تجتمع فيه جميع الاعاقات.
والتناقض الثاني: هو بين تصديق إحصاءات كون مجتمع المتعلمين بخير، فنتوجه لوضع شعارات أثناء كل دخول دراسي فيها “سجع” و”رنين” وتزيين الجدران والأسوار الصماء ثم نغفل عن بقية التفاصيل الأساسية الأخرى (بناء على مقولة العام داز زين)، وبين بناء الإنسان بوضع مناهج علمية صارمة لترويض “وحشية الناشئة الفتية” بالمعرفة والتربية، وبفرض احترام وهيبة للمؤسسة التربوية العمومية بالقانون، التي تعبر عن هيبة النظام العام ودولته ومؤسساته، فهذه المؤسسة أملنا لتربية هؤلاء على القيم الأخلاقية، فلعلنا في مستقبل قريب نجد مواطنا منضبطا سلوكيا وأخلاقيا وعلميا..، ليساهم في بناء الوطن بدل هدمه. وأمام التحديات التي يفرضها المجتمع المنفتح تقنيا وإعلاميا، وأمام الطموحات التي تسعى أمتنا المغربية لتحقيقها، لا نملك جميعا إلا العمل الجاد والمسؤول والتعاون البناء للخروج من هذا الوضع عاجلا، فالوقت من ذهب والتاريخ لا يرحم.
باحث في حوار الأديان وقضايا النقد الثقافي
Email: [email protected]