تزعزعت مقاليد الحكم لدى أعتى الأنظمة السياسية في شمال إفريقيا والشرق الأوسط، اختلطت الأوراق وظن البعض أنها لن ترتب كما كانت بعد هذه الهزة. هناك من تحدث عن سقوط هرم الخوف، تنفس عبق الحرية وتحرير الفضاءات العمومية من هيمنة الحاكم…

اليوم وأنا أراقب تموجات وتقلبات النقاش العمومي يظهر لي جليا أن معظم القضايا التي تظهر إلى السطح يتم إخمادها في أجل يتراوح بين 5-7 أيام على الأكثر ليحتل مكانها موضوع آخر. على سبيل المثال، خرجت إلينا ب”الصدفة” أوراق تفويت قطعة أرضية في أحد أرقى الأحياء في المغرب إلى والي جهة الرباط بثمن رمزي، انطلقت أنامل المدونين في كل من فايسبوك وتويتر لفضح مثل هذه الممارسات والتنديد بها، وهناك من ذهب أبعد من ذلك حيث نظم وقفة أمام البرلمان للاحتجاج على امتيازات “خدام الدولة”، بعدها مباشرة تم نشر بلاغ رسمي من طرف وزارة الداخلية ووزارة المالية للتفسير والشرح وإلقاء اللوم على حزب العدالة والتنمية الذي سرب هذه الوثيقة للنيل من والي جهة الرباط الذي ضيق الخناق على عملهم في المنطقة، بعدها ظهرت أسماء أخرى وخرج الأمر إلى الصحف الورقية والإلكترونية وأصبحت قضية رأي عام، تظهر اختلالات البنية الريعية مما يسبب حرجا للحاكم الذي طالما تغنّى بالنموذج المغربي في محاربة الهشاشة والفقر وسعيه إلى وضع لبنات العدالة الاجتماعية، بل ودعى إلى محاربة الريع وتساءل مع المواطنين عن مصير الثروة ودعاهم إلى التركيز على الثروة الغير مادية من دين، عادات، تقاليد، أشعار وراس الحانوت…، مما جعل الحاكم يخرج عن صمته ويوجه غضبه ووعيده للجهات التي أشعلت نار “الفتنة” ودعاهم إلى عدم الضرب تحت الحزام، حيث هناك مصالحه والتي ترقى بطبيعتها عن صراعاتهم السياسوية، بعدها مباشرة تم تحويل النقاش من أراضي خدام الدولة إلى نقاش خطاب الملك و”حشيانه للهضرة” لحزب العدالة والتنمية، وجف حبر العديد من الصحفيين فجأة ولاذت بالصمت مجموعة من المنابر الإعلامية وبحثت عن مواضيع أخرى تحشوا بها أعمدتها… انتهى الموضوع القبض على قياديين من حركة التوحيد والإصلاح، الجناح الدعوي لحزب العدالة والتنمية، وهما في وضع حميمي، خبر تم نشره من طرف أحد المنابر “الإعلامية”، مصدره أجهزة وزارة الداخلية، وتم تقوية صدمة الخبر بمجموعة من التفاصيل التي طرحت إبات التحقيق بل وتم نشر المحضر ككل، بالإضافة إلى أثار هذه “الفضيحة على المتهمين وعلى عائلاتهم… عندها انتقل النقاش العمومي بسرعة البرق من خدام الدولة إلى فضائح العشابة (وصف يستعمله رواد الفيسبوك للدلالة على الإسلاميين)، خاصة وأنهما كانا من دعاة العفة والابتعاد عن الزنى وغير ذلك من الدروس التي يمارسان عبرها الرقابة الأخلاقية على مريديهم… الموضوع لازال مستمرا والتفاصيل الأحادية المصدر لازالت تمرر إلى مجموع المنابر الإعلامية والشعب الفيسبوكي لازال خائضا، حائرا بين الحرية الفردية والوصاية الدينية والفضيحة الأخلاقية … 

هذا نموذج من ضمن نماذج أخرى عن استمرار التحكم وسط وهم الحرية والتحرر، فعندما يندلع النقاش حول أسس النظام الفاسد من ريع ولاعدالة وتحكم وتهميش وتفقير، ترى النقاش ينزلق إلى الأخلاق والقيم المجتمعية، إلى الحريات الفردية، الدين والجنس… هكذا ببساطة !
لا يمكننا أن نختزل الموضوع في جانبه المغربي فقط (الميكرو)، فهو موضوع أكبر من ذلك ويمس كل الدول بما فيها ذات الأنظمة “الديمقراطية”، فعلى سبيل المثال، عند زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لألمانيا، تم الاتصال بمختلف المنابر الإعلامية ومراكز الأبحاث لتفادي الحديث عن النظام السياسي المصري، دكتاتورية وغباء السيسي أو تحكمة الأعمى وقتله للمعارضين، بل وتم تفادي ما أمكن أن يتم أي تصادم بينه وبين معارضيه القاطنين في أوربا، كل ذلك لتفوز شركة سيمنس بأحسن صفقة في تاريخها أخرجتها من أزمة خانقة، وليتم إعطاء الخبرة للبوليس المصري لمواجهة الاحتجاجات … كل هذا وسط تعتيم إعلامي ممنهج وتحكم في النقاش العمومي عبر بعض الفضائح هنا وهناك لبعض اللاجئين أو الإسلاميين أو ثقب الأوزون…

وتستمر الهيمنة ويستمر تيه العامة بين تحررهم المزور وقوت يومهم الذي لن يعطيهم أي لحظة للتفكير بعمق حول محنة الهيمنة والتحكم.