أخي، أنت أنا، فمن أنا؟ في نقض براديكم الإفراط
لو أردت أن أصف وأجمع أوصاف ما بعد المجتمع الصناعي في مفهوم واحد لاستعملت دون تردد لفظ الإفراط. الإفراط والتطرف في كل شيء، في الحضارة والترف، كما في الحاجة والفقر. الغلو في الحرية والتفتح وفي الاستعباد والإحباط.
آراء أخرى
وبناء على الأولية تلك لا يجب أن نستغرب، دون أن نبرر، الهويات المفرطة المؤدية إلى التطرف والعنف. البشرية بصدد بؤرة ثقافية واحدة تتناسل من كل الجهات كانشطار عنقودي يولد الشيء ونقيضه وفق منطق واحد هو الحمق وغياب الحكمة. حكمة يصعب العودة إليها لأنها كانت ثقافة معاكسة تماما للإفراط، يمكن وصفها هي أيضا بمفهوم واحد هو الاعتدال.
نحن أمام براديكمين أحدهما يلغي الآخر. الاعتدال هو القيمة الكبرى للمجتمعات الزراعية وللصناعات التقليدية، وحتى التحويلية الطاقية والمنتجة للثروات…وذلك كله وفق الرضى والسعادة وقوة الشعور بالانتماء والالتزام. أما الإفراط فهو براديكم بدأ بالتايلورية نحو مضاعفة الإنتاج، وانتهى إلى صناعة الحاجة بالوهم اللذي، من اللذة، ومقاولات الخدمات وتجارة الريح.
في هذا الخضم الأهوج كان لابد أن يبحث الناس عن قوقعات تحميهم من عري القدرات والكفايات والعين البصيرة واليد القصيرة. الهروب من وهم الحاجة إلى وهم الهوية هو الخلط الكبير الذي يتمظهر أحيانا بالكآبة أو الهوس أو الانتماء الطائفي، وفي الحالات القصوى في عودة الدين والحرب والإرهاب.
تعني الهوية العلاقة الوطيدة والانتماء إلى أصل موحد أو مجموعة مشتركة مع حمل خصائص متشابهة حد التطابق، وبذلك تصبح العناصر مختلفة في العرض فحسب أو أوجها لحقيقة واحدة. وهي في المنطق غير الوحدة التي تحتمل الاختلاف والتناقض. الهوية إذا ثبات وسكون وإن تبدت حركة وتغيرا. نحن أمام بؤرة جينية تحمل خصائص الآتي وفق التشابه والتولد و”الكلون” أحيانا. وكذلك المسخ وفق علاقات واهية مرضية تبدي الصحة والقوة وتؤسس الكينونة وفق الثانوي والوهمي والزائل كقلادة بهقنة التي أخذها منه أخوه ذات يوم فسأله: أخي، أنت أنا، فمن أنا؟
الهوية تشتغل بمنطق ماهوي يشغل الصفات والسلوكات المتعددة لذات واحدة، كغول بسبعة رؤوس.
في الاجتماع البشري يعتبر الانتماء ضرورة لأنه يهب الدلالة للكينونة ويقوي الشخصية ويحفزها حماسا نحو الاستمرارية هجوما أو دفاعا أو محافظة، سواء في القبيلة أو العقيدة أم في المؤسسة والمقاولة. ويعتبر نقص الانتماء مدخلا نحو القلق وفك الرابط وعدم الاندماج، وهو مرتبط عكس ما يبدو بتضخم الاندماج، نقص من زاوية وإفراط من زاوية أخرى وفق الآليات التعويضية والتبريرية.
هذا ما نحاول فحصه في هذه المساهمة تأملا وتفكيرا في معضلة من معضلات العصر، وفق الإفراط في الإنتاج والإفراط في السرعة والإفراط في اللذة، حتى غدا الإفراط الصفة المميزة للحياة والعيش اليومي.
كيف يتبدى التطرف الهوياتي؟
يشتغل التطرف الهوياتي وفق قيم قبلية محددة شبيهة أحيانا بالأساطير المؤسسة، انتساب لجد جينيالوجي، أو فكرة قديمة، حول قلادات، مثل الاعتقاد، أو تفسير حادث مؤسس، أو تمييز سلالة أو طائفة … ويكون الجذر غالبا متوهما ومصنوعا لخدمة أجندة قوة كصناعة ريع التفوق في حرب، أوفي خلاف تفسير نص مقدس. وغالبا ما تصنعه فئة متعلمة من كنيسة أو فرقة وأصحاب كتب لتفسير فعل أو تبريره أو الدعوة والحشد له، بالمديح لبؤرة الانتماء والإقصاء والوصم للخصوم. هذه القيم المحافظة غالبا تؤثر في التوجهات والسلوكات نحو التكتل والحزبية والتعبئة أو المحافظة أو العنف. لكن قبل ذلك تتم تعلمات تفيد اكتساب إدراك ملائم للمرجعيات المسطرة بالتضخيم للضمير المنفصل المتكلم أنا، والتحقير للمخاطب أنت ما لم يرتبط بالجماعة المقدسة، وجعل الضمائر المتصلة كلها مستنفرة للفعل. إن الإدراك الهوياتي المتطرف مريض وغير ملائم، لأنه إدراك أهوج تخشب وفق الأساطير المكتسبة، ووفق هوس التفوق والحقيقة الواحدة البسيطة التي يجب أن يخضع لها الجميع.
كما أن الهوس الهوياتي وكأي هوس هو نوع من الخواف من فقدان الأم وهجران الأحبة وألم العزلة. نحن في حالة عصاب انتحاري لا يعرف التؤدة والعودة خطوة من أجل خطوتين، الأمر الذي يفسر العنف كعدم القدرة على تحمل الوحدة من جهة وعدم القدرة على الحوار من جهة ثانية.
هي ذات عليلة يجب أن تشرح بدقة وفق أدوات الخوف من الخصاء وتهديد العقم وعدم القدرة على الإنجاب.
رغم كل ما قلناه عن هذه الذات العليلة فهي محتفظة على ذكاء يشتغل وفق آليات لعل أهمها المحافظة على الموجود، وإعادة الإنتاج وفق فرح طفولي أناني يتوهم البناء للجماعة والهدم للجماعة أو الجماعات الند المتوهمة في غالب الأحيان، ووفق التعبئة انطلاقا من إرادة إعادة الحق بتضخيم المشاريع وبالحجاج بالأمجاد الماضوية وإرادة القوة بقيم الفروسية الدونكشوطية ومصارعة طواحين الهواء. أو بمهدوية استشراف العدل وحمل رياح الوعد بغد أفضل.
لهذا العقل الخبيث الأحمق والمدمر محددات لعل أهمها العزلة، وعزلة الجغرافيا أولا.
كلما كبرت التجربة الحياتية للشخص تقلص توجهه نحو الهوية، كلما سار في الآفاق واستطاع المقارنة واتضحت له نسبية الأشياء والقيم وتداخل الانتماءات. العزلة وقطع الصلة بالناس تضخم الغرور وتحجب الذات عن الذات رؤية العالم وإدراك العظمات والمسافات على حقيقتها. العزلة أصل تخشب الذات حول أوهام السيادة والقوة، سيادة وقوة يمكن أن تكون حقيقية في مجال ضيق مثل مجد الضفادع في البرك والزواحف في الجحور. وقد يتعقد الأمر باستغلال ريع وجداني مثل الأبوة والأمومة والحب وغيره من العلاقات المبتزة الخادعة للمتلاعب والمتلاعب عليه. هي لعبة إنتاج الصغار ووهم سعادة الرضى والكسل والتواكل والعيش الآمن داخل الجدران وفق ليس هناك أحسن مما كان. هي العبودية للذات وللقدر وللسياقات ول”لأحباب” وللتفاهة عبر استهلاك اليومي تسوقا وغذاء ونظافة للبدن والبيت وانتظار العيد وغيره من طقوس الحياة الفاقدة للتجربة والخروج عن المألوف وحد أدنى من المغامرة وفتح الصدر للهواء والعين للشمس والسير في أرض الله. مثل هذه الحياة الصغيرة والبئيسة لا يمكن أن تقدم الناس ولا أن تنميهم ولا أن تساعد على تفتحهم. وعندما لا نتفتح ننكمش حول هوية من الهويات تقينا التمزق ومفاجآت الطوارئ وغير المألوف، فنقطع التواصل ونرسل الرسائل إلى الذات متوهمين إرسالها للناس، ونرسلها بدون مضامين متوهمين أدبا رفيعا وحكمة الغابرين.
العزلة ما لم تكن إرادة قوة ولحظة تأمل أو استعدادا للعودة هروب من الواقع الأليم نحو هذيانات منها النكوص نحو الماضي، ومنها منطق التظلم، ومنها التشكي وغيره من الآليات الدفاعية المرضية المعبرة عن عدم الاندماج وعدم القدرة على التفاعل.
قد يكون المبرر قويا مثل فقدان حقوق تكون في تخوم الكينونة مثل حالة الاستعمار أو فقدان الأرض أو احتقار لغة وثقافة شعب، أو محاولة إنهاء تجربة تاريخية. في مثل هذه الحالات تصبح الدعوات الهوياتية ذات معنى وذات وظيفة تعبوية واستنفارية ومؤججة لحماس الإقدام للدفاع عن الوجود. غير أنه، وحتى في هذه الحالة ومع تطور البشرية حقوقا ومعرفة أصبح التفاوض استراتيجية ذكية متسامحة يمكن أن تؤدي الأكل أكثر من الصدام.
ليست العزلة وحدها الفاعلة في خلق هذيانات الهويات المرضية. تعتبر حالة الجسد وكيفية إدراك الذات له مركزية في النظرة إلى العالم وكيفية التفاعل معه. مدى الصحة الجسدية والنفسية، مدى القوة والضعف ومدى الجمال…كلها عوامل حاسمة في الاختيار الهوياتي. الجسد السليم والمساعد على التفتح رسالة توصية فعالة في النجاح في التفاعل والإقبال على الحياة.
وعندما يعتل الجسد تفسد الذات وتنزوي وتبحث عن نقاوات بئيسة في العنصر والانتماء إلى جينات ودماء زرقاء متوهمة. إن الجسد مساهم جدا في النجاح أو الفشل مع الجنس الآخر، في الحب والرفقة والزواج والإنجاب. الأمر الذي فهمته التجارة الرأسمالية وأولته اهتماما مبالغا فيه في صناعة النجوم وملكات الجمال كآلهة أسطورية تسوق اللباس وأدوات التجميل والجراحات وغير ذلك من النجاح الكاذب المفرط. وعندما تضيق القدرات الشرائية عن التتبع تخلق انتماءات وهمية في تصفيف الشعر وخلق الجماعات شبه السرية بالرموز والشروط والطقوس الانتمائية.
بقدر ما تخلق الليبرالية فئات مخترقة للتراتب تخلق جماعات مقاومة بالثقافات الهامشية والضدية والرافضة، في الموسيقى وثقافة الشارع وحتى في الجماعات السرية ذات الطقوس الغريبة والشاذة أحيانا. وهي كلها ردود أفعال هوياتية إحباطية تدل على الفشل في الإدماج أسرة ومدرسة وشغلا وثقافة وقيما.
علاقة الإفراط بالعنف وطيدة وعضوية ويمكن أن نتلمس لها الدلالة في السكن غير اللائق حيث عنف الاختلاط وتدني مستوى الحميمية وزنى المحارم والاحباط. كما في المستشفى وأمراض الإدمان والأوبئة المرتبطة بالتلوث وإفساد البيئة والصناعات الغذائية والتحويل الجيني ووسائل حفظ الأطعمة صناعيا وكيماويا من أجل مضاعفة الإنتاج والربح السريع، ولو على حساب الصحة الجسدية. وليس المستشفى كما ليست الأمراض وحدها مجال إمكانية فحص هندسة الجسد. بل وفي الرياضات الجماهيرية مثل كرة القدم وألعاب القوى، حيث تجاوز المتعة البريئة نحو صناعة النجوم وبناء سوق لا أخلاقية تقتات من حماس الجماهير الطفولي التعويضي نحو هذيان جماعي يذكر بالحرب بدل الفرجة وباللذة الأورجية الماجنة بدل المنافسة المتحضرة. أخيرا يمثل السجن مجال الهويات الميكروسكوبية المعبرة وبتضخيم ماكروسكوبي عن العنف العام خارج الأسوار، عنف الفقر والاحتقار في المؤسسات الاجتماعية، الأسرة والمدرسة خاصة، حيث الأبوية القاتلة والتفريق الشاذ بين الجنسين وسلطة وهم المعرفة. بعدها مؤسسات الدولة من إدارة وأمن ومحكمة، مؤسسات ينزوي فيها الجسد بالمراقبة والترويض والاستعمال.
أصبح الجسد مقموعا أو مستعملا. مقموع في غرائزه الأولى، حيث القيم المنافقة تريد له الانزواء وكبت الحاجة إلى الحب وتفريغ الشحنات الطبيعية، وإظهار العفة الكاذبة وتبخيس الجمال. أو مستعمل كبضاعة في سوق تفريغ المكبوت ..نكبت لخلق البيع والشراء في اللذة والوهم والميلانخوليا غناء ورقصا وتهريجا مفرغين بذلك الفن من دلالاته النبيلة المتحضرة والراقية. بكل ما سبق يساهم بؤس الجسد وفشله في التفتح في الانزواء في الهويات الفاشلة كرد فعل قوة ضد الهويات المفترسة.
إلى جانب المجال والجسد تلعب اللغة كثقافة ماكرة دور الابتزاز بالإغراء الانتمائي، أولا كوسيلة تعبير وكفاية تنظم نحو المدونات الرمزية والقيمية المسهلة للإدراك والتعارف، وثانيا كحامل ثقافي قوي وغني بالأمثال والشعر والحكايات والآساطير، وثالثا كبصمة شبه ثابتة تساعد الأنا على الانصهار في النحن. وكما تلعب اللغة أدوارا ايجابية في الانتماء تلعب كذلك أدوار منع الاندماج في لغات أخرى والاختلاط مع ثقافات أخرى.
ليس الغرض من نقض العقل الهوياتي القضاء على العنف، وإنما محاولة الفهم من أجل التفتح و عدم إغلاق نوافذ الكينونة مجالا وجسدا ولغة، حتى نستطيع الحوار والتعايش.