بقدر إمتعاضي و احتقاري كمواطن من دول العالم الثالث للسياسات الإمبريالية الخارجية للولايات المتحدة المبنية على اذلال الشعوب الضعيفة ونهب خيراتها وإسناد الأنظمة الديكتاتورية التي تحكمها .. إلا أنني و كمهتم بقضايا السياسة و التحولات الديموقراطية لا يمكن إلا أن أعجب بمساحة الحرية و التنظيم الفريد الذي يطبعان سير الأمور فيها داخليا .. خصوصا على المستوى السياسي .. 

منذ الثورة الأمريكية في أواخر القرن ال18 والإستقلال الفعلي عن بريطانيا .. أصر قادة هذه الثورة المعروفين بالآباء المؤسسين منذ البدايات الأولى لتشكل الدولة على أن تكون ذات نموذج سياسي خاص واضعين بذلك قواعد بعضها دستورية و أخرى مجرد أعراف .. ترسم الخطوط العريضة لعلاقة الحاكم بالمحكوم .. لشكل و نظام الحكم  و للفصل بين السلط ..

هذه القواعد كثيرة و متشعبة .. لكن المطلع على الدستور الأمريكي الصادر في 1787 و وثيقة ” الحقوق ” عام 1791 التي قدمت فيها 10 تعديلات دستورية .. يدرك بوضوح أن رؤية الآباء المؤسسين كانت واضحة و ارتكزت على مبدأين غير قابلين للانفصال في تكوين أي نمودج دولة ناجحة ..

 المبدأ الأول و هو دولة المؤسسات و التي تعني استقلال سلطة الدولة، و اكتساب هذه السلطة لطابع قانوني ودستوري لا شخصي ..  حيث تنشأ السلطات في دولة المؤسسات وفقا لقواعد قانونية سابقة تحدد كيفية اسناد السلطة الى فرد او افراد معينين، ثم تحدد القواعد القانونية بعد ذلك اختصاصات كل فرد او مجموعة من الافراد او الهيئات، و تعني ايضا ان السلطات في الدولة لمؤسسات وليست لافراد على ان تكون المؤسسات ممثلة للشعب وجاء تشكيلها برضاه بشكل مباشر (الانتخاب)، اما الافراد على رؤوس المؤسسات فسلطاتهم تنفيذية وتنظيمية اي واجباتهم في الاساس القيام والاشراف على تنفيذ الخطط والسياسات التي وضعتها هذه الأخيرة ..و هو تصور فريد ساعتها .. حيث كانت نماذج أخرى من الدولة تسيطر على العالم آن ذاك .. كدولة الفرد .. أو دولة القبيلة .. أو الدولة التيوقراطية التي تتخد من الدين منهجا للحكم ..

مفهوم دولة المؤسسات هذا لم يكن ليكتمل أو ليشتغل لولا مفهوم آخر قرين له ..اذ لا بد لوضع تصور لكيفية اشتغال هذه المؤسسات فيما بينها و ضمان استقلاليتها و عدم طغيان أحدها على الآخر .. و هنا يأتي هو مفهوم ” دولة القانون” .. و هو يعني ان يطبق القانون على الجميع صغيرا وكبيرا و أن لا تتخذ مؤسسات الدولة وغيرها اي اجراء الا من خلال القانون ، والخروج على هذا المبدأ يعني الخروج على مفهوم دولة المؤسسات وتعزيز الفردية والفوضى والتشتت.

قال بنجامين فرانكلين – أحد الآباء المؤسسين و أعظمهم – يوما ما ” إن الشعب الذي على استعداد أن يضحي بقليل من الحرية من أجل قليل من الأمن .. هو شعب لا يستحق كليهما .. و ينتهي به المطاف بفقدانهما معا ” .. يبدو أن هذه الكلمات الثورية القوية التصقت منذ قولها بذهن الملايين من الأمريكيين و خلدت في وجدانهم مثل خلود صورة فرانكلين على ورقة الدولار الى يومنا هذا .. 

ورغم أن جزءا كبيرا منهم كان السبب في مع صعود رئيس جديد للبيت الأبيض .. أقل ما يمكن أن يقال عنه أن تصوراته بعيدة جدا عن الأداة التي جاءت به الى السلطة .. ألا و هي الديموقراطية .. فهو ربما لا يراها ثقافة و قيما غير قابلة للتجزيء بقدر ما يراها فقط سلما صعد به الى مراده .. و يمكن له بمجرد وصوله أن يرميه على جانب لأربع سنوات .. حتى ميعاد الحملة الانتخابية القادمة .. رغم هذا كله .. لم يقبل الملايين منهم هذه المقايدة الرخيصة من ترمب الذي تصور أنه يمكن أن يوهم الأمريكيين بتقبل قراراته العنصرية و اللادستورية من خلال تهديده لهم بفزاعة الإرهاب و التذرع بحرصه على أمن الدولة و المواطنين ..

اذ كيف يمكن لعقل سليم أن يقبل قرارا يحضر السفر على مواطن فقط لكونه آتيا من دولة بها ” قلاقل ” هو غير مسؤول عنها ؟ .. هذا اذا تغافلنا أو تناسينا مسؤولية الإدارات الأمريكية المتعاقبة عن وجود تلك ” القلاقل ” و عن تفاقمها .. لا يمكنك مثلا أن تمنع عراقيا قمت بتدمير بلده و إبادة مواطنيه من متابعة دراساته العليا بأمريكا .. لأنه ربما لم يكن سيفكر بالسفر لو لم تدمر طائراتك الجامعات المرموقة للعراق في بداية ال2000 …

جميع هذه التساؤلات لم تغب عن ذهن الأمريكيين الذين خرجوا للشارع بالآلاف في عدة ولايات .. حتى الجمهورية منها .. مدافعين عن حقوق المهاجرين الذين يعلمون جيدا أن ازدهار و تقدم أمريكا بني على سواعدهم و عقولهم .. و أيضا ادراكا منهم أن الفاشية يجب أن تحاصر في مهدها إذ لو سكتوا عن قرار كهذا يمس المهاجرين فقط .. فسيكون صمتهم ضوءا أخضر لقوانين أخرى مستقبلية ستهضم حقوقهم هم أيضا .. 

حراك الأمريكيين هذا سنده دخول القضاء على الخط .. بصفته المسؤول عن تطبيق العدالة و موائمة القوانين للدستور و القانون .. و استطاع قاض شجاع شريف أن يعيد العفريت الى قمقمه و أوقف تنفيذ القرار لمخالفته روح الدستور و القوانين .. مفعلا بذلك مبدأي دولة المؤسسات و القانون اللذان تطرقنا لهم في بداية المقال ..

يمكنك أن تقول ما تشاء عن أمريكا و يمكنك أن تشكك في ديموقراطيتها و أن تنتقد سياساتها الإستبدادية  بدول العالم الثالث خصوصا الشرق الأوسط .. لكن لا يمكنك أن تنكر أنها أمة عظيمة أسسها رجال عظماء فعلوا كل ما باستطاعتهم لتأسيس مجتمع واعي بحقوقه و واجباته .. يتنفس الحرية و لا يقبل أي مساومة عليها أو تعطيل لمقتضياتها .. هذه بإختصار .. أمريكا التي في خاطري …