
استطراد بشأن موقف العروي من تصورات نخبة القرن 19 اتجاه الأمير عبد القادر الجزائري
نشرنا قبل أيامٍ قليلة تعقيبا نقديا عن الموقف المتحامل للأستاذ عبد الله العروي من المؤرخ محمد بن محمد بن مصطفى المشرفي، وقد لقيَ استحساناً من الدارسين والباحثين عموما، وإذا جاز لنا القول، فنحن نؤكد أن تلك المحاولة طمحت للخروج من جلباب التنميط في الكتابة، إذ النقد الهادف البَنَّاء لا يعني التقريظ بأي حال من الأحوال بتعبير المفكر محمد عابد الجابري، ونحن جميعا نؤمن معه بأن النقد النزيه إذا رافق عملا من الأعمال منذ البداية فإنه سيساعد ولا شك على الاتجاه به الوجهة الصحيحة. وحين يعمل باحث ما على إبراز جوانب النقص، أو تبيان مواطن الضعف، فليس ذلك استخفافا بالمجهودات التي تبذل، أو تنقيصا من النتائج التي قد يتوصل لها مؤرخ ما، فنحن نعلم مدى صعوبة العمل التاريخي، ومدى المشاق التي يتطلبها البحث عن المصادر خصوصا في المرحلة الأولى من البحث التاريخي بالمغرب، ثم هناك عوائق عند بناء المعرفة التاريخية وأثناء تركيب الأحداث وإعادة بنائها، ونستلهم هنا تعبيرا دقيقا للجابري ثانية مفاده: “أن كل عمل جديد لا بد أن يبدأ ناقصا، ولكننا نؤمن في نفس الوقت بأن السبيل الوحيد إلى تغذيته هو الكشف باستمرار عن مثالبه وعثراته، وإذا كان الخطأ طريقا للصواب، كما يقولون، فإن الخطأ نفسه كثيرا ما لبس لباس الصواب إلى أن عرّاه النقد، فظهر على حقيقته”.
آراء أخرى
ولذلك “لا بد من أن يتخلص الباحثون من آفة تلخيص ما ورد في الكتب التاريخية السابقة، أو الاقتباس منها، أو صياغة محتوياتها بأسلوب العصر في الكتابة والتبويب والعرض، بل إن المؤرخ مطالب بأن يعتمد الشك فيما ترويه هذه الكتب، أو ما يشير إليه غيرها من المصادر التاريخية، ومن ثمة فإن عمل المؤرخ مُعَرَّضٌ باستمرار للنقد مهما جد واجتهد في إتقانه”. وهنا أفتح قوسا صغيرا، فقد فوجئت بتعليق سيء للغاية وصادم على المقال الذي نشرناه في موقع بناصا الإلكتروني السابق الذكر، يتعلق الأمر بطلب أحدهم ممن غدا اليوم مُدرسا بإحدى مراكز التكوين، وقد أثارت تلك المباراة آنذاك جدلا كبيرا بخصوص المعايير المعتمدة، علق قائلا: “من نشر هذا التخربيق ديال هد المخرمز بالمجموعة ديالي المرجوا (هكذا) الحذف”؛ فبدل أن يُناقش ما كتبناه بالحجة والدليل والبرهان، يسميه تخربيق، وهذا يُبَيٍّنُ بالملموس أن المناصب لا تجعل من أصحابها أبدا باحثين بل ممتهنين ومتطفلين أحيانا، إذ كيف سَيُعَلِّمُ هؤلاء طلبتهم أساليب النقد واحترام الخصم ومناقشة الأفكار لا الأشخاص، ففاقد الشيء لا يعطيه، ولعل هذا يبين صحة ما كنا نحذر دائما منه، ألا وهو تهاوي الجامعة حين يدخلها من يحاربون العلم والبحث ولا يستسيغونه، وإنما ديدنهم حمل المحافظ لأساتذتهم وتمجيدهم ورقن وطبع مقالاتهم، وتأسيس صفحة لبث الصور معهم، ونشر اعلانات وملصقات لكل ما يقومون به وإقصاء إسهامات من لا يتفقون معهم، هذا هو ملفهم العلمي الذي يترقون به في النهاية ليصبحوا في مناصب أكبر منهم، ومن المعلوم أن السلالم الطويلة لا تُصعد بالسراويل القصيرة، وقديما قيل: “البس قدك يواتيك”. يبدو أن ما حذرنا منه قبل أربع سنوات إعلاميا أصبح أخطبوطا ممتدا يشتكي منه حتى الأساتذة الجامعيين ممن هم أقرب لما يجري، وهاهم يصفون اللجان بالعصابات، فقد كتب محمد مشبال، وهو أستاذ جامعي، في صفحته تعليقا على تدوينة كتبها زميله من نفس كليته قائلا: “الدكتور عبد الرحمن بودرع وهو عالم جليل وأستاذ حقيقي، يثير معضلة ستعاني الجامعة المغربية آثارها بعد تقاعد معظم ما تبقى من أساتذة محترمين. وقبل أيام دعوت في حوار مباشر الى ضرورة صيانة الجامعة المغربية من الطفيليين والدخلاء. للأسف هؤلاء يفسدون ما بنته هذه الجامعة في الأربعين سنة الأخيرة من مجد علمي جعلها قبلة للباحثين في العالم العربي”.
ألمني جدا أن يتهاوى المستوى في النقاش لهذه الدرجة، خاصة وأن الكثير من الأعمال الرديئة يتم تثمينها لغياب النقد البناء، وهذا يُسيء لمهنة المؤرخين والباحثين المغاربة عموما، وَيُقَدٍّمُ صورة سيئة جدا عن حالهم اليوم، إن ظلوا صامتين أمام ما يجري.
كان هذا مجرد استطراد عابر وضروري أملته الظرفية التي يمر بها البحث العلمي في العقد الأخير، وكان من اللازم التنبيه عليه والتأكيد على خطورته لأنه يدخل ضمن باب المسؤولية أولا، والانتصار للبحث العلمي ثانيا. وبذلك نغلق القوس على أن نعود إلى الموضوع ثانية، وهو الموضوع الذي خصصنا له مؤلفا سيصدر قريبا.
ننتقل إلى استكمال ما كنا قد استطردنا به على الأستاذ العروي في نقطة أخرى، ويتعلق الأمر بما سماه هذا الأخير “مشكلة عبد القادر الجزائري”، والتي تُعتبر – في نظره-نقطة التحول في التأليف التاريخي العام في القرن التاسع عشر، لأن متتبع علاقات هذه الشَّخصية مع السلطان عبد الرحمان بن هشام، ابتداء من المراسلات الودية وانتهاء بالحرب بينهما، ثم تسليم عبد القادر للفرنسيين بطريقة غير مباشرة، سيستنتج لا محالة تلك المشكلة.
يتوافق موقف المؤرخ المغربي محمد بن خالد الناصري بشكل مطلق مع موقف المخزن المغربي في هذه النقطة تحديدا، فالأمير عبد القادر حين كان في وفاق مع السلطان عبد الرحمان، فإنه كان “مجاهدا لعدو الدين” و”سيدا” و”حاميا لبيضة الإسلام”، ومنافحا عن دار الاسلام. ولذا لم يبخل عليه السلطان بالخيل والمال المرة بعد المرة على يد الأمين الحاج الطالب بن جلون الفاسي وغيره. وحين توترت علاقته بالسلطان، تغير الموقف منه، فقد غدا فجأة “فتانا” و”ناقضا للعهد” “وساعيا للسلطنة والدعوة لنفسه” و”مطلوبا”، وهو ما انعكس على موقف الناصري الذي يبدو أنه تناغم بشكل كامل مع منظور المخزن، ونلمس ذلك في قوله: “وكان الحاج عبد القادر في هذه المدة قد فسدت نيته أيضا في السلطان وفي الجهاد، مع أنه ما كان لجهاده ثمرة، ورام الاستقلال وأخذ في استفساد القبائل الذين هنالك وتحقق السلطان بأمره”. ثم عاد الناصري إلى انتقاد سيرة الأمير ثانية حين ذكر انقراض أمره وما آل إليه حاله بقوله: “قد قدمنا ما كان من فساد نية الحاج عبد القادر وأنه رام الاستبداد بل والتملك على المغرب، فلما كانت الهزيمة بايسلي ازداد طمعه فصار يدعو أهل النواحي الى مبايعته والدخول في طاعته، وكاتب الخواص من أهل فاس والدولة وكاتبوه على ما قيل(…) ولما اطلع السلطان على دسيسته (….) الخ”. واستمر الناصري في ذكر أخبار المواجهات بين الحاج عبد القادر وجيش الخليفة السلطاني وفرار الحاج عبد القادر في نهاية المطاف، إذ ضاق به الحال نتيجة الحصار المضروب على المنطقة التي تحصن بها، وختم الناصري ذلك بنص كتاب السلطان بعد الانتصار على الأمير عبد القادر، وفيه وردت أوصاف قدحية كثيرة من قبيل: “الفاسد الفتان”، و”خليفة الشيطان”، و “استظل سبيل الرشاد”، ” وسولت له نفسه الإمارة”، و”استبطن المكر والخداع” الخ، ولم يعقب الناصري على رسالة السلطان بل نقلها كما هي بالحرف، وختمها بذكر استسلام الحاج عبد القادر للفرنسيين.
في سياق آخر حبَّذ المؤلف الناصري انتقاد الحاج عبد القادر لطريقة قتال المغاربة بإيسلي، حيث نقف في الاستقصاء على قوله: ” ولما احتل الخليفة سيدي محمد بايسلي وعسكر به، جاءه الحاج عبد القادر يستأذن عليه في الاجتماع به، فأذن له واجتمع به وهو على فرسه، فدار بينهما كلام كان من جملته أن قال الحاج عبد القادر: إن هذه الفرش والأثاث والستارة التي جئتم بها حتى وضعتموها بباب جيش العدو ليس من الرأي في شيء، ومهما نسيتم فلا تنسوا أن لا تلاقوا العدو إلا وأنتم متحملون منكمشون، بحيث لا يبقى لكم خباء مضروب على الأرض، وإلا فإن العدو متى رأى الأخبية مضروبة لم ينته دون الوصول إليها ولو أفنى عليها عساكره، وَبَيَّنَ كيف كان هو يقاتله. وكان هذا الكلام منه صوابا إلا أنه لم ينجع في القوم لانفساد البواطن. ولا حول ولا قوة إلا بالله، وربما انتهره بعض حاشية الخليفة على التفصح بمحضره والإشارة عليه قبل استشاره، فرجع الحاج عبد القادر عوده على بدئه وانتبذ ناحية في جيشه ولسان حاله يقول: لم آمر بها ولم تسئني”.
هل نستنج من موقف الناصري هذا تحيزا منه للأمير عبد القادر كما توهَّمَ الأستاذ عبد الله العروي، بالطبع لا، ففي نظرنا، يتعلق الأمر بموضوع شغل اهتمام الناصري واهتمام عدد من معاصريه، ونقصد بالضبط معضلة الجيش المغربي وطرق قتاله العتيقة التي لا تنسجم مع المتغيرات العصرية الجديدة. فهكذا، وعكس ما ذهب إليه العروي واستنتجه كانت مواقف المؤرخ الناصري دائما مساندة للمخزن سوى في قضية الترتيب، وتبقى الإشارة الوحيدة التي قد نلمس فيها تعاطفا حقيقيا للناصري مع الأمير عبد القادر تلك التي ختم بها تفاصيل المعارك بينه وبين الخليفة السلطاني، حيث علق قائلا: “والحاصل أن مقام هذا الرجل في الشجاعة معروف، وبصارته بمكائد الحرب معلومة لولا ما ذكرناه من انعكاس حاله ورومه الاستبداد وخلعه طاعة الإمام الحق الذي كانت بيعته في عنقه”، وأردف بطريقة ذكية للرد على كل تأويل محتمل قد يجره على نفسه جراء هذا الكلام بقوله: ” واعلم أنه قد يقف بعض المنتقدين على ما حكيناه من أخبار هذا الرجل فينسبنا إلى تعصب وسوء أدب، والجواب أنا ما حكينا إلا الواقع، وأيضا فلقد قال لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله: حضرت يوما بين يدي السلطان أبي عنان في بعض وفادتي عليه لغرض الرسالة، وجرى ذكر بعض أعدائه فقلت: ما أعتقد في إطراء ذلك العدو وما عرفته من فضله، فأنكر على بعض الحاضرين ممن لا يحطب إلا في حبل السلطان، فصرفت وجهي وقلت: أيدكم الله تحقير عدو السلطان بين يديه ليس من السياسة في شيء، بل غير ذلك أحق وأولى، فإن كان السلطان قد غلب عدوه كان قد غلب غير حقير، وهو الأولى بفخره وجلالة قدره، وإن غلبه العدو لم يغلبه حقير، فيكون أشد للحسرة وأكد للفضيحة، فوافق رحمه الله على ذلك واستحسنه وشكر عليه وخجل المعترض”.
نجد لدى أبي علاء ادريس الجعايدي الذي نسب له العروي كتاب الابتسام عن دولة مولانا عبد الرحمان أو ديوان العبر في أخبار أهل القرن الثالث عشر نفس موقف الناصري من الأمير الحاج عبد القادر، حيث يقول: “كنا في ابتداء أمره وأثنائه نتيمن بذكره ونسترشد لهديه ونُغالب فيه القريب والبعيد، ونقول إن عدوه لا يفلت منه ولو كان في قصر مشيَّد، ولكن القدر المقدور والأمر المحتَّم الموثور تدور الدوائر على أهل البصائر وتبادرهم حوادث الدهر بما هو كائن وصائر(…). وفي هذه الأزمان لما رأى فراغ الجراب وتفرق الأحباب زحف لهذه الإيالة مستنجدا أهلها وطالبا ما لها ففتنته أعرابها (أي أعراب منطقة أنجاد ووجدة) وأناموه على فرش الغرور، وقربوا له القواصي القاصمة للظهور، فما له ولمبارزة سلطانه الذي أعلن بمبايعته وإنقاد لسمعه وطاعته، وما درى أن منازعة الملوك تترك الديار بلا قاع، وإنا لله فكل ما قدره الله لابد واقع” . ونفتح هنا قوس استطرادٍ يتعلق بالغموض الذي لا زال يلف صاحب كتاب الابتسام، والثابت أن مؤلفه تعرف على الوزير ابن ادريس عندما عين كاتبا بدار المخزن تحت إشراف والد هذا الأخير، وكانت تربطه بالوزير المذكور علاقات متينة تحدث عنها في الابتسام، وإذا صح أنه زار أوروبا فعليا حسب إفادات عبد الله العروي فنحن -حسب جمال الحيمر- لا نعرف عنه شيئا. بل الظاهر بعد اكتشاف رحلة الجعايدي وتحقيقها أن العروي قد خلط بين صاحب الابتسام الذي لا نعرف عنه إلا أنه يُكَنَّى بأبي العلاء ويُسمى بإدريس، وبين أبي العلاء ادريس الجعايدي صاحب الرِّحلة الشهيرة إلى عدد من أقطار أوروبا والمسماة رحلة تحفة الأخيار التي تمت في عهد الحسن الأول، وقد لخص كتاب الابتسام هذا الفقيه محمد بن الحسن الحجوي وسماه باختصار الابتسام.
لعل موقف العربي المشرفي هو الأكثر تشدُّدا وتحاملا على الأمير عبد القادر، فحين تطرق لأخباره كفّره وسبَّه ووصفه بأقبح النعوت وأسوئها، وذلك في كتابه تمهيد الجبال، مع أنه من أصول جزائرية، وفي نفس الوقت دافع عن ميل السلطان للهدنة لأمور رأى فيها مصالح المسلمين، ومنها اتقاء الفتنة، وقد قال في هذا الصدد: “فمن أجَّجَ نارها كان حطبا لها” على حد تعبيره، وكان يقصد الأمير الجزائري. لكن قبل موقف العربي هذا، نسجل مفارقة لافتة لم يتنبه لها العروي، فحين بدأ التوتر في علاقات السلطان عبد الرحمان بن هشام بالأمير عبد القادر، اعتقل السلطان المغربي الكثير من شرفاء الحشم المقيمين بفاس الذين تحركوا لملاقاة الأمير سرا، وكان العربي المشرفي أحد هؤلاء، وحدث بعد ذلك أن تم إطلاق سراح غالبية المعتقلين في حين تم استثناء العربي المشرفي من هذا القرار، بسبب اتهامه بمسؤولية تحرير رسالة للأمير عبد القادر، ويعتبر هذا الاتهام نقطة تحول حاسمة في حياة العربي المشرفي، إذ عانى من الهم والحزن في السجن، وبالرغم من كل ما لحقه جراء هذا الاعتقال التعسفي، فإنه كان كثير الكتابة للسلطان يستعطف ويؤكد براءته من الرسالة المذكورة، وقد نظم في ذلك قصائد بعثها للسلطان مصرا على براءته ومتهما المولود ابن عراش أحد خصومه وأبرز وزراء الأمير عبد القادر بتلفيق الرسالة له ونسبتها إليه لتوريطه. ولما لم يجد الآذان الصاغية من السلطان المذكور استجدى ولي عهده محمد، وهذا الأخير هو من كان وراء إطلاق سراحه. ولا يعرف بالضبط المدة التي قضاها العربي المشرفي بالسجن، غير أنها كانت فترة قاسية من حياته، ولا شك أن موقف العربي لاحقا من الأمير عبد القادر ربما نفسره برغبته في إبعاد التهمة عن نفسه، وإرضاء منه للسلطان الجديد الذي عفا عنه. وبالمقابل نجد موقف المؤرخ محمد المشرفي مختلف تماما عن موقف ابن عمه العربي، إذ ظل منافحا عن الأمير عبد القادر في جهاده ضد الفرنسيين من لحظة البداية وإلى غاية أسْرِهِ، وأورد قصائد كثيرة في مدحه وتبيان شجاعته وصدق جهاده، وقدَّم نُبذة تاريخية موجزة عن حياته بما فيها معلومات عن بيعته وظروف استسلامه، وما تلا ذلك من سجنه ونفيه إلى دمشق في عهد نابليون الثالث. وختم الحديث عنه في الحلل البهية بقوله: “ومدة ولايته أفناها في الحروب مع الدولة المذكورة، وشهدت له بالشجاعة الأعداء”. ولعل هذا الموقف منه يؤكد عدم صحة التهم التي ألصقت به لاحقا، بكونه كان من أنصار الاحتلال الفرنسي ومن الداعين للتعامل معها.
أما بخصوص هزيمة المغرب في معركة ايسلي، فقد أورد محمد المشرفي في سياق حديثه، لقاء السيد عبد القادر الجزائري بالمحلة العسكرية المغربية، قبل المعركة. وقدَّم تفاصيل عن ذلك بقوله: “وكان السيد الحاج عبد القادر بتلك النواحي، متطلعا ما يكون من أمر ملاقات المسلمين والفرنساويين، فرأى محل نزول جيش المسلمين وكثرته وهيئته المغايرة لمقتضى الحرب، فحركته الغيرة الإسلامية على النصيحة لأهل ملته، بأن قال للخليفة محمد (بن عبد الرحمان): إن هذه الفرش والأثاث والثقلة التي جئتم بها حتى وضعتموها بباب جيش هذا العدو، ليس هذا من الحزم وسلامة العاقبة والرأي السديد(…) فالعدو متى رأى الاخبية مضروبة إلا وقصدها ولا يرجع دونها، ولو أفنى عليها عساكره، والصواب أن لو أبقيتم هذه النقلة بواد زا، فإن كانت لكم فلا يبعد إتيانها وإن كانت عليكم فتسلم من الأخذ وتجدون الراحة بها حتى تعودوا للقتال، فلم يقبل ولا أحد منه نصيحة (…) فعاد لمحله محوقلا”. فكان عدم قبولهم لنصيحته الآنفة من الدخول تحت أمر رايه ومشورته سببا من أسباب الهزيمة في رأيه.
وبخصوص الخلاف الذي وقع بين الأمير عبد القادر والسلطان المغربي عبد الرحمان، يؤكد محمد المشرفي أن ذلك حصل بسبب سعي الوشاة بينهم بالشتات. كما أرجعها إلى “مهادنة المغرب للفرنسيين على شروط منها نفي السيد الحاج عبد القادر من نواحي إيالته، لما في بقائه من ضرر الفتنة بين الدولتين، فكان بينهما ما كان مشهور، إلى أن سلَّم نفسه للفرنسيين”. وموقف محمد المشرفي هذا يَنْفِي تماما اتهامات عبد الله العروي له، والتي تطرقنا لها في قضية احتلال توات، بشأن انحيازه للفرنسيين، بل كان من دُعاة جهادهم وقتالهم، ولو كان غير ذلك لتهجَّم على الأمير الذي جاهد الفرنسيين. (يتبع)